النضال الشعبي الجمعي ضد كاميرات المراقبة ليس وليد هذه اللحظة، وإنّما نتاج تجربة طويلة ووعي واضح بدور الكاميرات في تتبّع المقاومين وملاحقتهم. وقد كانت هبة القدس الأخيرة وما تخللها من تعامل المتظاهرين مع كاميرات المراقبة مثالاً واضحاً للعلاقة التي تربطه بهذه المنظومة الرقابية، وهو ما سوف يستعرضه هذا المقال من حوادث تكرّرت في مختلف الأرض المحتلة.

توطئة

بعد انتزاع  الأسرى الستة حرّيتهم من سجن جلبوع، تصدّرت دعوات للتخلص من كاميرات المراقبة مجدداً، وعادت أكثر إلحاحاً هذه المرة، لتوفير حماية للأسرى الذين اخترقوا منظومة السجن التي يتفاخر المستعمر بكونها أكثر منظوماته المحصنة بكل وسائله العسكرية ومن ضمنها الرقابية الممثلة بأجهزة الكاميرات والاختراق والتشويش.

انطلقت دعوات التخلص من الكاميرات هذه المرة لضمان دربٍ آمنةٍ للأسرى الستة، [1] ولتكون أيضاً جزءاً أصيلاً من ترميم وبناء حاضنة شعبية تشارك بأفعال صغيرة تتمثل بوقف الكاميرات وحذف تسجيلاتها لتكون جزءاً من فعل المقاومة الجمعي، محدثة حالة من الإرباك في تتبع وبحث المستعمر عن المقاومين، وتزيد عملياته تعقيداً وصعوبة وكلفة.

النضال الشعبي الجمعي ضد كاميرات المراقبة ليس وليد هذه اللحظة، وإنّما نتاج تجربة طويلة ووعي واضح بدور الكاميرات في تتبّع المقاومين وملاحقتهم. وقد كانت هبة القدس الأخيرة وما تخللها من تعامل المتظاهرين مع كاميرات المراقبة مثالاً واضحاً للعلاقة التي تربطه بهذه المنظومة الرقابية، وهو ما سوف يستعرضه هذا المقال من حوادث تكرّرت في مختلف الأرض المحتلة، خاصّة خلال التظاهرات الشعبية.

******

برزت مشاهد تحطيم كاميرات المراقبة كواحدة من أهم ملامح هبة القدس الأخيرة والتي اندلعت في كل الأرض الفلسطينية. وقد رُصد تكرار هذه الحوادث بشكل خاص خلال التظاهرات والمواجهات التي انطلقت في القدس واللد والضفة الغربية والحدود الفلسطينية اللبنانية، حيث عزز المستعمِر الصهيوني منظومة المراقبة في أبرز المناطق حساسية والتي يخاف تحوّلها إلى ساحة اشتباك، وهو ما حصل فعلاً. المتظاهرون في أوج كل اشتباك جمعي جعلوا من كاميرات المراقبة واحدة من أهدافهم التي سعوا لاقتلاعها، تعبيراً عن رفضهم لأي رمز يعكس سيادة المستعمِر الصهيوني على الأرض، من جهة، ومعبرين -من جهة أخرى- عن العلاقة الطبيعية التي تربطهم بهذه الكاميرات التي تتبع تفاصيل حياتهم اليومية، وتُعرّي خطواتهم، وتلاحقهم بالغرامات والمخالفات الباهظة.

عام 2000 وإبان انتفاضة الأقصى، بدأ المستعمِر الصهيوني بفرض مزيدٍ من السيطرة الممثلة بمنظومة المراقبة، تحديداً على مدينة القدس التي كانت هدفاً لعمليات المقاومة، ساعياً للكشف عن المقاومين قبل تنفيذ عملياتهم. كذلك، استخدم المستعمِر الكاميرات في محاولته فرض سياسة من الردع تزرع في أذهان المستعمَرين فكرة استحالة تنفيذ أي عمل مقاوم -فردي أو جماعي- في هذه البيئة المعززة، ليست بقوته العسكرية فقط، بل بقوة أخرى تتمثل بسلطة تكنولوجية ترصد كل تحرّك يدور في المكان، وتعمل على تحويل كل ما هو غير مادي إلى مركّبات مادية قادرة على التحكم بها والتأثير عليها.

ففي البلدة القديمة البالغة مساحتها 900 دونم -على سبيل المثال- يزرع المستعمِر 400-600 كاميرا يديرها مركز المراقبة التكنولوجية “مابات 2000” -وحدة تكنولوجية متخصصة في شرطة الاحتلال والتي تقوم بإدارة الكاميرات وضخ ما ترصده من معلومات وبيانات على مدار الساعة للقوات العسكرية في الميدان. يتفاخر العدو طوال الوقت بـ “مابات 2000” ويحاول في تقاريره الإعلامية الموجّهة بشكل خاص للمجتمع الصهيوني استعراض إنجازاته في الكشف عن المقاومين قبل تنفيذ عملياتهم، والتفاخر بتقنياتها العالية وما تخضع له من تطوير مستمر جعلت منها واحدة من أكثر أنظمة الرقابة في العالم حداثة. [2].

ولكن لم تثبت هذه الكاميرات فعاليتها حتى الآن بالكشف عن المقاومين قبل تنفيذ عملياتهم، ويبقى التنبؤ بأي منفذ عملية هو مجرد “اشتباه”، وكل فلسطيني مشتبه به بنظر الاحتلال. كما فقدت الكاميرات فعاليتها في تتبّع منفذي العمليات مرات عدة، كما أرغمت المنظومة الاستعمارية على العودة إلى أدواتها القديمة مثل العملاء، كما أسّست حديثاً وحدة عسكرية متخصّصة بتقفّي الأثر، وخاصة بعد عملية خطف وقتل المستوطنين الثلاثة في الخليل عام 2014.

كما يسعى العدو من خلال التقارير التي تمتدح منظومته الرقابية تشكيل وعي صهيوني يثق بقدرة جيشه وقوته في توفير الأمن والحماية. أما من جهة أخرى، فإنّه يحاول تعزيز الانهزام والاستسلام لدى المجتمع الفلسطيني في قدرته على تطوير نضاله والاستمرارية فيه، في ظل هذه المنظومة الأمنية والرقابية المعقدة.

جنّد الصهاينة ملايين الشواقل في تطوير وتعزيز المنظومة الرقابية ضمن خططٍ سنوية متجددة، ففي عام 2018 خُصصت ميزانية قدرها 400 مليون شاقل لغرض زيادة قدرة وأداء المنظومة الرقابية. وهو مبلغ مضاعف مقارنة بعام 2015؛ إذ تضمّنت خطة للشرطة الصهيونية استثمار 48.9 مليون شاقل في تعزيز وشراء وتركيب كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة وتكنولوجيا المراقبة في شرق القدس. [3]

كما وحصل على دعم من شركات تقنية عالمية في مجال التعرف على الوجوه، ساهمت شركة مايكروسوفت في تمويل مشروع (AnyVision). ولاحقاً بعد انتشار الخبر، انسحبت مايكروسوفت من المشروع ولكنه لا يزال قائم وهناك إعلان طلب تمويل في موقعهم الرسمي بقيمة 235 مليون دولار. ما يشير إلى هوس المستعمِر في فرض مزيد من الهيمنة والسيطرة ليس على الحيز الجغرافي وحسب، بل على الأجساد أيضاً، وينبع ذلك من توقعه المستمر بانفجار المجتمع المستعمَر نتيجة لما يتعرض له من ممارسات استعمارية يومية، محاولاً من خلال منظومة الرقابة خلق “مجتمع منضبط”.

ويتضح ما سبق بتعزيز المستعمِر رقابته على باب العامود، من أهم حيز اجتماعي ونضالي للمجتمع الفلسطيني في القدس المحتلة، وذلك لموقعه الاستراتيجي الذي يتوسط المدينة واختياره كحيز مناسب للفعاليات الاجتماعية والسياسية. ففي 2017، عُزّزت منظومة المراقبة بتركيب كاميراتٍ جديدةٍ في المنطقة، بإضافة أربع كاميراتٍ جديدةً في أطراف الساحة الشرقية والغربية، وثلاث أخرى شرق باب العامود، بمحاذاة شارع السلطان سليمان القانوني، ليكون مُجمل الكاميرات الجديدة حتى ذلك الوقت 11 كاميرا. وأجريت في ذات الوقت مجموعة عملياتٍ لتجديد وصيانة عددٍ من الكاميرات القديمة، في مختلف زوايا منطقة باب العامود وأزقّتها. ويبلغ عدد كاميرات المراقبة التي تُحاصِر باب العامود والممرّات المؤدّية إليه نحو 60 كاميرا مراقبة ما بين جديدةٍ وقديمةٍ ترتبط كل هذه المنظومة بمقرّات الشرطة الصهيونية. [4]

ولكن، بعد سنوات على بناء منظومة “مابات 2000” الرقابية، لم ترضخ الأجساد كما سعى المستعمر، ولم يتحقق انضباطها، بل تصاعدت الهبات الشعبية في مدينة القدس وخاصّة منذ عام 2014 إثر استشهاد الفتى محمد أبو خضير، وأصبحت كاميرات المراقبة أهم الرموز السيادية للمستعمِر التي يستهدفها المتظاهرون بهجماتٍ جماعيّة رفضاً لوجودها ودورها، وتمرّداً على “عمليات الانضباط” التي يحاول المستعمِر الصهيوني فرضها على المجتمع، والتي تتمثل بتعبير “فوكو” بكونها مجموعة عملياتٍ صغيرةٍ تتقاطع وتتكرّر وتقلّد بعضها البعض ساعية لضبط الأجساد بما يتوافق مع هدف السلطة. [5] وهو ما حطمه المتظاهرون مع استهدافهم المتكرر لمنظومة المراقبة في القدس.

في هبة القدس الأخيرة، تُرجمت العلاقة بين المجتمع المستعمَر ومنظومة المراقبة وعملياتها هذه بشكلٍ أوضح ومتكرّر باستهداف المنظومة بالتحطيم والحرق. فوثقت مقاطع مصورة انتشرت بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، الهجمات الجماعية التي كان يشنها المتظاهرون على كاميرات المراقبة في المدينة المحتلة، وتحولت هذه المشاهد لأيقونات تمّت محاكاتها بالبوسترات والرسومات التي قامت بالتعبئة للهبة.

أحد هذه الفيديوهات مقطع مصور نُشر على “شبكة قدس” في 24 أيار، للمتظاهر صاحب القميص الأصفر، وهو يتسلق أحد أعمدة كاميرات المراقبة في القدس وسط تظاهرة في المكان. وبعد وصوله للكاميرات، واصل ركلها بقدمه حتى أسقطها، فطمأن زميله الذي كان يحاول اللحاق به لمساعدته، ولم يواصل صعوده لإتمام المهمة التي قد تمّت في لحظات. [6] وبعد هدوء الهبة، لم يتوقف استهداف المتظاهرين للكاميرات، ففي سلوان، اشتعلت النيران في الرابع من حزيران في إحدى كاميرات المراقبة المثبتة في حي بئر أيوب. [7]

مشهد تحطيم الكاميرات لم يغِب أيضاً عن المسجد الأقصى خلال المواجهات التي اندلعت في باحاته في العاشر من أيار، وتعمّد المتظاهر توثيق لحظات ما بعد تحطيمه الكاميرات، بوضعها تحت قدمه، متجاهلاً الدم الذي يقطر من يده. فهنا -داخل المسجد الأقصى- حيث يحاول العدو فرض سيادته بكل الرموز والأدوات، يقرّر المتظاهر سحقها في رسالة رفض مستمرة لهذه الهيمنة الاستعمارية.

وفي تعامل آخر للمتظاهر مع الكاميرات، تمّت استعادة صور الملثم من انتفاضة الحجارة، بلثام كامل يخفي وجهه وملابسه وحذائه، محاولاً التصدي لأي ملاحقة من جيش الاحتلال قد تطوله بعد خروجه من باحات المسجد الأقصى. الملثم ورغم حضوره في المسجد الأقصى، إلا أنه سيغيب في الميادين الأخرى خلال الهبة، يبدو ذلك إيماناً من المتظاهرين بقوة الحاضنة الجمعية التي تحيطهم والتي خرجت بالآلاف للمشاركة في التظاهرات. ورغم ذلك، بدأ محرك البحث “جوجل” بالحد من انتشار صور الملثم وتصنيفها ضمن الصور التي تعبر عن “الإرهاب” حسب معايير المحرك. [8] ويندرج ذلك ضمن وسائل الرقابة التي يستخدمها المستعمر، من بينها الاتفاقيات السابقة التي عقدها مع مواقع التواصل الاجتماعي كـ “فيسبوك” ومنصّاتها المختلفة بهدف التضييق على المحتوى الفلسطيني، وحجبه وحذفه والحدّ من انتشاره.

وفي 12 أيار، تداول النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً مصوراً يوثق قيام متظاهرين بقصّ عامودٍ يحمل كاميرات للمراقبة في مدينة اللد المحتلة، [9] ما يوحي بالسعي إلى التحرر الكامل، التحرر الجذري من سيادة المستعمر، إذ قصّ العامود الذي يحمل الكاميرات وتحويله لشيء لم يكن، هو ترجمة عملية لشعار الهبة وامتدادها الواسع على كل الأرض الفلسطينية.

في اللد المحتلة، حيث مارس المستعمِر جملةً من عمليات الانضباط على المجتمع الفلسطيني محاولاً كيّ وعيهم وطمس هويته وإعادة بناء ذاكرتهم عبر مؤسساته المختلفة انطلاقاً من التعليم. هنا، وبعد سنوات من عمليات “الأسرلة”، كانت اللد إحدى أهم امتدادات هبة القدس، وخاصة بعد استشهاد الشاب موسى حسونة برصاص المستوطنين فجر 11 أيار حيث أضحت اللد آنذاك من أعنف ميادين الاشتباك مع جيش المستعمر حيث خرج الآلاف من أهالي المدينة ثأراً لدماء شهيدهم، مستخدمين كل أدوات العنف التي بين أيديهم، وإن كان أبرزها السلاح حيث أطلقوا النار صوب أهداف للمستوطنين والجيش، وأحرقوا مركبات لشرطة الاحتلال، ومدارس ومساكن للمستوطنين. كما كانت كاميرات المراقبة جزءاً مهماً وبارزاً من رموز سيادة المستعمِر الذين سيواصلون استهدافه في كل تظاهرة ومواجهة ستشهدها المدينة.

ففي 11 أيار، وثق مقطع مصور تسلّق متظاهرٍ أحد أعمدة كاميرات المراقبة وسط المدينة وتحطيمه للكاميرات التي سقطت بين المتظاهرين الذين واصلوا التصفيق لهذا الفعل، والذي لا يقل عن المشهد القريب لحرق مركبة لشرطة الاحتلال في ذات الحادثة، وذات المكان. [10] وهنا أيضاً، عبّر المتظاهرون بشكلٍ متكرّر عن علاقتهم الطبيعية مع كاميرات المراقبة المزروعة في المدينة، عبر استهدافها المتكرر. ففي توثيق آخر وهذه المرة من داخل غرف وحدة المراقبة، وثّق الجيش تحطيم المتظاهرين للكاميرات، خلال تظاهرة انطلقت في نهار 13 أيار. [11] في هذه اللحظة، تنهار المنظومة تحت ضربات عصاة المتظاهر الغاضب، تنهار الفكرة بعد سنوات من وهم ضبط جسده.

وبينما يواصل المتظاهرون في ميدان المواجهة استهداف كاميرات المراقبة، نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الصهيونية تحذيراً لمستوطني غلاف غزة يطالبهم بقطع كاميرات المراقبة في منازلهم وأماكن عملهم بعد وصول معلومات استخباراتية لجيش الاحتلال أن المقاومة في غزة تعمل على اختراق هذه المنظومات للحصول على معلومات أمنية. [12] ما شكل اختراقاً آخر لمنظومة المراقبة على مستوى تكنولوجي يضاهي تقنيتها التي يتفاخر بها العدو من جهة، فضلاً عمّا شكلته من مستوى آخر على صعيد المواجهة بين المقاومة وجيش العدوّ.

أما في الضفة الغربية، فقد تكرّرت نداءات النشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي لحذف تسجيلات كاميرات المراقبة بعد كل عملية إطلاق نار كانت تنفذ خلال الهبة، وذلك امتداداً لحملة انطلقت من هبة القدس عام 2015. وقد بدأت الحملة مجدداً بعد عملية زعترة وانسحاب المنفذ -الأسير منتصر الشلبي- في الثاني من أيار؛ إذ يستخدم جيش الاحتلال الكاميرات الفلسطينية المنتشرة على الشوارع الرئيسية في تتبع تحركات المقاومين، وهو ما يحاول النشطاء الفلسطينيون التحذير منه بشكلٍ مستمرّ عبر حملات توعوية تتضمّن نشر موادٍّ بصريّة عن كاميرات المراقبة وخطرها على تحرّكات المقاومين.

وخلال عملية البحث عن المقاوم منتصر الشلبي، نشر موقع “كان” العبري صوراً التقطتها كاميرات المراقبة ترصد فيها تحرّكات الشلبي قبل تنفيذه العملية. ورغم أن نشر هذا الصور هدفت لتعزيز دور المنظومة الرقابية الاستعمارية ودورها في رصد المقاومين وتحركاتهم وإفشال عملياتهم، إلا أن الصور التي تُظهر الشلبي هادئاً وثابتاً عززت وعياً آخر لدى الفلسطينيين الذين كانوا يفتخرون بالعملية وما حققته. كما استخدم الفلسطينيون نشر صور الشلبي للتشكيك بقدرة المنظومة الرقابية التي رغم رصدها لتحركاته، فهي لم تمنعه من تنفيذ عمليته، وكان ذلك مراكمة أخرى على بناء الوعي المنتصر للمجتمع الذي يشهد اشتباكاً مع المحتل في كل الأرض، وهو ما حصل خلال هبة القدس عام 2015، إذ ساهمت الفيديوهات التي وثقت العمليات وقت تنفيذها في تعبئة المقاومين الذين اقتدوا بالعمليات سواء بالوسائل المستخدمة أو الأهداف والأماكن، وهو ما أدركه الاحتلال فيما بعد وأصبح يتحفظ على نشر تسجيلات كاميرات المراقبة وخاصة للعمليات التي توقع عدداً من القتلى.

وفي 18 أيار، تمكن متظاهرون من قرية مادما جنوب نابلس، من تحطيم كاميرات نصبها جيش الاحتلال على مدخل قريتهم حيث يشهد مواجهات واحتكاكاً يومياً مع جيش الاحتلال. وقد نصب الجيش الكاميرات في شهر شباط الماضي، بهدف تعزيز الرقابة شارع 60 الاستيطاني. [13] تحطيم كاميرات المراقبة واستهدافها من قبل المتظاهرين وخاصّة بالقرب من مداخل القرى التي يشقها شارع 60 الاستيطاني، تتكرّر باستمرار، وهو ما يتكرر مع الكاميرات المنصوبة على مدخل قرية ترمسعيا تحديداً، حيث تعتبر إحدى الكاميرات المهمة التي ترصد التحركات على الشارع الواصل بين مدينتي رام الله ونابلس.

وعلى الحدود اللبنانية الفلسطينية، كانت كاميرات المراقبة التي ينشرها جيش العدو على طول الجدار الفاصل، أول أهداف المتظاهرين التي سعوا لتحطيمها وإسقاطها، كرمز لإسقاط سيادة المستعمِر على المكان. إذ تسلق المتظاهرون الجدار المقام على أراضي قرية العدسية اللبنانية، وحطموا الكاميرات ونصبوا مكانها علم حزب الله، كرمز لتحرير هذا الحيز. وهو ما تصدّى له الجيش بفتح نيرانه على المتظاهرين، ليرتقي محمد طحان شهيداً خلال هذه المواجهات.

الحرب التي يعلنها الفلسطينيون على أجهزة مراقبة المستعمِر لم تقتصر فقط على الحيز الخارجي، وإنما امتدّت أيضاً إلى داخل سجون الاحتلال، حيث تصدّى الأسرى لما يعززه العدو داخل السجون من أجهزة مراقبة وتشويش. وكانت معركة الأسيرات عام 2018 واحدة من أهمّ هذه المعارك، وهي امتداد لمعارك سابقة خاضتها الأسيرات. حيث قامت الأسيرات آنذاك بخطوات احتجاجية متتالية رفضاً لقيام إدارة السجون بتركيب كاميرات داخل سجن “هشارون”، حيث كانت تقبع 32 أسيرة فلسطينية حاولن بخطوات نضالية رفض هيمنة العدوّ على ساحة “الفورة” التي تعتبر متنفسهنّ الوحيد ويقضين فيها ساعات قليلة خلال اليوم. [14] وقد انتهت المعركة بخضوع العدو لمطالب الأسيرات، وإغلاق السجن ونقلهن إلى الدامون.

لم يسعَ المستعمِر الصهيوني خلال نصبه لمنظومة المراقبة فرض الهيمنة والسيطرة على مجتمع برمّته وحسب، وإنّما شمل ذلك إنتاج حالة من “الأجساد المنضبطة” -كل واحد على حدة- كما يعبّر “فوكو”، وجَعْل كل هذه الأجساد أجزاءً في جسمٍ ميكانيكيٍّ واحد الممثل بالكيان الاستعماري. إذ حاولت منظومة الرقابة أن تجعل كل شخص يفكر بموقعه أسفل هذه المنظومة الرقابية وخلق حالة من مشاعر الوحدة والانفصال عن الحالة الجمعية، وصولاً لإنتاج وعيٍ انهزاميّ يُعيق تطوير أيّ حالة نضالية. ولكن في كلّ هبة شعبية شهدتها القدس، أثبت سقوط هذا الوهم، والالتفاف الجمعي حول رفض المستعمِر وسيادته، والعودة في كلّ مرّةٍ إلى شعارات التحرّر الجذرية الأولى الرافضة للتعايش والخنوع.

في هبّة القدس، وما تخللها من هبة شعبية عارمة في كامل الأرض المحتلة، وفعل عسكري من غزة، نتج وعي جمعي ملتف حول ذاكرته المقاومة الرافضة للمستعمر، ومستفيداً من التراكمات والنضالات التي أنتجتها الهبات والانتفاضات السابقة، والتي لا ترى إلا العنف وسيلة للتحرر والتخلص من المستعمِر، وقد تجلت بأحد ملامح الهبة، القائمة على تحطيم عيون المستعِمر الممثلة بكاميراته ومنظومته الرقابية.

“أول ما يتعلمه السكان الأصليون هو أن يلزموا أماكنهم، وأن لا يتجاوزوا الحدود. لذلك كانت الأحلام التي يحلمها السكان الأصليون أحلاماَ عضلية، أحلام فعل، أحلام هجوم وعدوان”، (15) يقول “فرانز فانون” مفسّراً عنف المستعمَر في ثوراته التي يستهدف بها بشكل مباشر كل رمز يعكس سيادة المستعمِر، والذي وضع بهدف حجزه في عالمه الاستعماري. وهو ما حصل في هبة القدس الأخيرة وما تخللها من استهداف لكاميرات المراقبة التي وضعها المستعمِر ليحاصر المجتمع المستعمَر ويفرض هيمنته عليه. فيما كان المستعمَر في ترقّب دائم للحظة الانقضاض المناسبة والانتقام من كل هيمنة وسيطرة استعمارية، يكابد إثرها ويدفع الأثمان اليومية، وذلك في سير عمليات التحرّر المستمرة التي يخوضها بين حين وآخر.

الهوامش

[1] نشر جيش الاحتلال بعد اعتقاله الأسيرين مناضل انفيعات وأيهم الكمنجي مقطعاً مسجلاً من كاميرات المراقبة ادعى أنه توثق دخول الأسيرين إلى مدينة جنين٫الرابط من هنا 
[2] Yanovsky, Roi,11.18.15, ynetnews, Jerusalem’s Mabat 2000: Catching terrorists in the act, Link.
[3] Who Profits, November 2018, “Big Brother” in Jerusalem’s Old City: Israel’s Militarized Visual Surveillance System in Occupied East Jerusalem.
[4] المصدر السابق
[5] فوكو، ميشيل، 1990، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، بيروت: مركز الإنماء القومي.
[6] تويتر، شبكة قدس، 24 أيار2021، الرابط من هنا
[7] فيسبوك، الجرمق الإخباري، 4 حزيران 2021، الرابط من هنا
[8] Essa, Azad, 25 May 2021, Middle East Eye: Google search results suggest Palestinian keffiyeh a symbol of terrorism, Link
[9] تويتر، الصحفي عامر أبو عرفة، 12 أيار2021، الرابط من هنا
[10] تويتر، الجرمق الإخباري، 11 أيار،الرابط من هنا
[11] فيسبوك، 48 الإخبارية، 13 أيار، الرابط من هنا
[12] موقع صفا الإخباري، 13أيار، الرابط من هنا
[13]  مقابلة مع الصحفي سامي الشامي، الذي رصد الحدث ووثقه على شبكة قدس الإخبارية، الرابط من هنا
[14]  بيانات نادي الأسير الفلسطيني، شهري أيلول وتشرين أول 2018.
[15]  فانون، فرانز، 2015، معذبو الأرض، مدارات للأبحاث والنشر.