اعتمدت الحركة الصّهيونية كحركة استعمارية استيطانية تطمح لبناء وطنٍ حصريّ لليهود في فلسطين وإحلال اليهود مكان الفلسطينيين أصحاب البلاد على نماذج وإرث إمبريالي استعماري عالمي، قامت بتطويره وتسخيره ليغدو متلائمًا ومتجانسًا مع مخطّطها الذي مزج ما بين القومية والدين وسخّرهما لتهجير السّكان وإحلال مستوطنين أجانب، مع السيطرة على الأرض وما تبقّى من سكان لم يتم تهجيرهم.
ولم يقتصر هذا الاعتماد والتّطوير للنماذج الاستعمارية السّابقة على مجال العقيدة الأمنية التي شكّل الضابط البريطاني “أورد وينغيت” مثالًا لها من حيث التّعاون في تبادل الخبرات وعقيدة قمع الشّعوب الذي يُطلق عليها اسم “مكافحة التمرد”، بل وصل إلى استغلال الإرث الاستعماري وخاصة البريطاني وتسخيره وإخضاعه لرؤيتها الاستعمارية الإحلالية.
ولم تكن فرق الكشّافة العبرية الصّهيونية خارج هذا المسعى للاستفادة من الإرث الاستعماري وإعادة إنتاجه وتسخيره بما يتلاءم مع الظرف الفلسطيني. وكما تم تسخير عقيدة “وينغيت” الأمنية البريطانية وإرث الاستعمار البريطاني في “مكافحة التمرد” وقمع الثّورات في خدمة تهجير البلدات العربية بعد أن قام وينغيت بربط “الهاغاناة” بالجيش البريطاني ومنحها الطابع “الهجومي” بعد أن كانت دفاعية، هكذا كان حال كشّافة “بادن باول” الضّابط البريطاني وتأثير إرثه الإمبراطوري البريطاني عليها.
بعد أن شغل الضّابط البريطاني “بادن باول” منصبَ رئيس أركان حرس حدود الجيش الاستعماري البريطاني خلال قمع الثورة الشّعبية في جنوب أفريقيا، وشارك قبلها في مكافحة ثورات الشعوب بالهند وساحل العاج، عاد “باول” إلى بريطانيا معجبًا ومهووسًا بقدرة الجيل الشّاب على التّنظيم وحماية المستعمرات. واعتقد “باول” أن الشّباب هم من استطاعوا حماية المستعمرة بعد حصار دام لمدة 217 يومًا غدا في نهايتها “باول”، الذي فشل مسبقًا في الالتحاق بجامعة أكسفورد، بطلًا قوميًا بريطانيًا.
ولم يتوقّف “باول” عن التّفكير بفئة الشّباب الذين أثّروا به كثيرًا خلال حصار مدينة مافكينغ بجنوب أفريقيا على يد الثوّار، وأثّروا في رؤيته العسكرية لهم ولمكانتهم في حماية الإمبراطورية الاستعمارية. وبعد عودته مباشرة إلى المملكة البريطانية عقب انتهاء الحرب الاستعمارية في جنوب أفريقيا، أطلق “باول” نظريته الأولى التأسيسية للكشّافة الإمبراطورية البريطانية التي كان الشّباب عاملًا مركزيًا فيها.
وفي صيف عام 1907 أقام “باول” أول معسكر لفرق الكشّافة الذي يستند إلى كتاب “كشّافة للشباب”، وهو المعسكر الذي يؤرخ على أنه انطلاقة كشافة “باول”. وبعد هذا المعسكر الأول، نُظِّمت بصورة عفوية عشرات المعسكرات في أماكن مختلفة، استندت في قيامها على كتاب “باول” وتنظيراته، الأمر الذي دفعه بعد هذه المبادرات إلى إقامة مؤسسة قُطْرية بريطانية سعى من خلالها للسيطرة على المضمون الذي سيتم بثّه في فرق الكشّافة المختلفة، وهو ما دفعه لاحقًا إلى عقد اجتماع الكشّافة الأول في العام 1909 وشارك فيه عشرات الآلاف من الأعضاء الشّباب.
وعلى الرغم من اختلاف المؤرخين على مدى عسكرة فرق الكشّافة التي أسسها “باول” بداية، إلّا أن الاتفاق يبقى على طابعها وجوهرها الكولنيالي، إذ كان هدف “باول” الأساسي من وراء تأسيس فرق الكشّافة هذه هو تجهيز الشّباب البريطاني، نفسيًا وجسديًا، للدفاع عن الإمبراطورية الاستعمارية وتوسّعها مقابل الثورات التحرّرية في جنوب إفريقيا والهند وفلسطين.
إن الاختلاف في صفوف المؤرخين على مدى عسكرة فرق الكشّافة التي أسسها “باول” والاتفاق على كونها كولنيالية الجوهر، يتضح من الجملة التي اتخذها “باول” شعارًا لفرق الكشّافة وكانت “كن مستعدًا” التي تكشف الهدف الأساسي من تأسيس هذه الفرق: قوّة هجومية متمركزة على الحدود جاهزة وقادرة على حماية الجمهورية من الخطر الداخليّ والخارجيّ.
في كتابه، يفصل “باول” بين نوعين من الكشّافة: الأول، الكشّافة العسكريّةّ، وهو كشّاف تم اختياره بسبب نباهته واطلاعه، ووظيفته أن يذهب برأسه للبحث عن مكان اختباء العدو. أما الثّاني هو كشافة السّلام، وهم الذين يقومون بخدمة الجمهور من دافع الذكاء والفكر وحمايته في زمن السّلم، هم هؤلاء الذين يقومون باصطياد الحيوانات في جنوب أفريقيا كي لا تهاجم السّكان، وهم رعاة المواشي في أستراليا وشرطة شمال غرب كندا وجنوب إفريقيا، هم كشّافة “باول” المخلصون أولًا للإمبراطورية الاستعمارية القادرون على حمايتها وتوفير حالة من الاستقرار داخلها في زمن الحرب والسّلم.
وقد كتب “باول” عنهم في كتابه: “محصنون وشجعان هم، متلهفون للمساعدة في كل وقت وكل ساعة. تعوّدوا على المخاطرة بذواتهم لحماية الوطن، ويعلمون جيدًا أنه لا حاجة للمخاطرة حين لا يكون هناك داع لذلك. كشّافة السلام، لأجل عملهم جاهزون للتضحية بكل ما يملكون، براحتهم الشخصية وميولهم العاطفية، وفقط الإيمان وتنفيذ المهمة يبقى صوب أعينهم. هناك مغزى لحياتهم، وناجحون بحياتهم التي سخّروها لخدمة الوطن وحمايته من المخاطر المستمرة، هم ذات البشر، الذين تعلّموا الكشّافة من دافع إيمان وخيار كامل”.
من هنا لا بدّ من الربط الذي أصبح أكثر وضوحًا ما بين كشّافة “بادن باول” البريطانية الاستعمارية والحركات التي أسستها الحركة الصّهيونية من حيث “كونها مُحقّة ومحاربة لأجل السّلم في نظرها ولأجلها، كولنيالية عسكرية بعيون الآخرين”، الآخرين الذين هم السكّان الأصليين وأصحاب البلاد. ومن هنا العودة إلى النموذج الأول وإعادة إنتاجه ليكون ملائمًا للحركة الصّهيونية.
في ذات السّياق يقول أحد الأعضاء المؤسسين لحركة الكشّافة العبرية “يعاكوف غرومان” أنه “عندما بحثنا عن الإنسان الذي نريد بناءه للغد، قلنا إن نموذج “باول” هو النّموذج الأساس لليهودي الذي أردنا بناءه للغد، بشرط إضافة وعي يهودي صهيوني إليه”. من هذا التّصريح يمكن الانطلاق للقول إن تاريخ الكشّافة العبرية الصّهيونية استند أساسًا إلى النموذج الذي قام “باول” بتأسيسه للفرد الاستعماري المقاتل المحارب، إلّا أن الحركة الصّهيونية طعمتّه بالوعي والأسطورة التي سخّرتها الحركة الصّهيونية لتحقيق الأهداف الاستعمارية.
هذا بالإضافة إلى التحوّل الذي طرأ على الكشّافة العبرية من حركة مدنية إلى عسكرية كولنيالية بعكس التحوّل الذي حصل لدى “باول” ومراكز كشفية أخرى، والتي بدأت من عسكرية وأخذت طابعًا مدنيًا أكثر مع مرور الزمن والتحوّل، وهذا مرتبط أساسًا بالمشروع الصهيوني وبدايته التأسيسية الاستعمارية حتّى نكبة فلسطين، بذات التحوّل الذي حصل لمنظّمة “الهاغاناة” التي بدأت وانطلقت “دفاعية” تحوّلت إلى هجومية تهجيرية.
مع بداية الانتداب البريطاني في فلسطين، بدأت معه أيضًا الحركة الكشفية العبرية التي باشرت نشاطها في مصر برفقة البريطانيين تحت عنوان “همكابي هتسعير” التي ربطت مع خريجي كشّافة “باول” واستفادت الأولى من الثانية وتبادلتا الخبرات. ومع تأسيس الرابطة التي سميّت “رابطة الكشّافة” عام 1909 على أرض فلسطين، بدأت بالموازاة عملية ملاءمة النموذج “البادن باولي”، للفكرة الصّهيونية كاستعمارية قومية يهودية بدمج كافة مركّبات الديانة والأسطورة اليهودية التي استحضرتها الحركة الصّهيونية لخدمة الفكرة الصّهيونية وصناعة اليهودي الجديد.
وروى “يهودا ليب براوم”، أحد مؤسسي رابطة الكشّافة أنه “لدى باول كل شيء واضح وبسيط، نحن اليهود لا نقبل بهذا، طوّرنا نظرياته وحذفنا منها”. وبمعنى أدّق نستطيع القول عنه: تمت ملاءمتها. المثال الأكثر وضوحًا على قضية الملاءمة، كان تأسيس فرقة “كشّافة للجراء” على يد الناشطين في الرابطة الصّهيونية “عمنويل يافيه” و”آمتسيا برلس”، اللذين قاما بداية بترجمة كتاب “باول” للكشّافة الصغار وعلّقوا يافطات في مدينة حيفا تدعو أبناء الصفوف الأولى للانخراط في رابطة الكشّافة في العام 1934.
وخلال الأسبوع الأول، باشر “برلس بتعليم الجراء الكشفية قصة الطفل “ماوكلي والذئاب” وغيرها من القصص التي ذُكرت في كتاب بادن باول وعلاقة الإنسان بالطبيعة والحيوان والشجر والذئاب الأكبر منه، وشمل هذا على قصص عديدة تجمع ما بين الكشفيّ الذئب الكبير والكشفيّ الجرو على نموذج بادن باول. ما قام به برلس لم يرق لمحرّري صحيفة الرابطة كثيرًا حين أرسله للنشر، وعلّقوا عليه بالقول “نحن نقدّر جهود المرشد برلس وترجمته ونشاطه مع الجراء بتحفّظ، الكاتب يقول إنه استرشد بنموذجين: نموذج التربية البريطاني والأمريكي.
ولكنه أهمل نموذجًا أهم بكثير، ولا يقل الاسترشاد به أهمية عن النموذج الأميركي أو البريطاني، هو “سيرة حياة بني إسرائيل، وعلى الخصوص المعجزات في صحراء سيناء والتوراة والراعي والصخرة التي تخرج الماء والتوراة، علينا استخراج جذورنا في الجراء العبرية في قديم تاريخ شعبنا”.
أمّا “برليس” ذاته، وبعد الملاحظة وفهمها، فقال للجراء الكشفية: “الأميركيون، الإنجليز، معفيون من التهديدات التي تواجهنا ولا قلق لديهم كالقلق الذي لدينا، سؤال العودة والوطن والأرض والمعجزة لا يؤرقهم. ما شأنهم والألم والعودة والتحرير؟ وطنهم لهم ويعيشون بداخله وباعتراف وشرعية كاملة بأن وطنهم في خدمتهم، مسموح لهم سرد رواية عن قطيع من الذئاب في الهند. أمّا نحن، فلا نملك وطنًا قوميًا متماسكًا له علاقاته وشرعيته الدولية. نحن نحتاج إلى بناء إطار رمزي خاص بنا، هنا على أرض إسرائيل، تتناسق مع روحنا، روح شعب إسرائيل”.
ما حصل مع برلس وفي سياق تأسيس فرع للجراء الكشفية داخل الرابطة، هو استحضار للرواية التاريخية والأسطورة اليهودية، ودمجها مع روح الكشفيّ البريطاني الحارس، وإعادة إنتاجها كذات قومية يهودية جديدة تحمل وعي صهيوني استعماري تحمل في مضمونها رؤية الحركة لأرض فلسطين والصراع مع الفلسطينيين.
مع تعيين هربرت صموئيل، اليهودي الصهيوني، كمندوب سام في فلسطيني في العام 1920، حاول الدمج ما بين فرق الكشّافة المسيحية والإسلامية واليهودية في فلسطين. وهذا ما لم يرق للحركة الصّهيونية وفرقها الكشفيّة التي رأت في جوهرها صراعًا مع العرب وليس تحالفًا، وقامت لهذا الهدف بتربية كشفية تم ذكرها سابقًا تميّزت بالقومية والحلم الصهيوني والكشفيّ البطل اليهودي الذي يسعى إلى تأسيس وطن حصريّ له. وبالتالي، أرادت الكشّافة العبرية الانفصال وحصل ذلك فعلًا حيث لم تكن جزءًا من رابطة الكشّافة الدولية البريطانية التي أسسها بادن باول، ورفضت أن تكتسي ملابسها شبه العسكرية التي أقرّها باول شبيهة بملابس جنوده في المستعمرات الجنوب أفريقية بعلم الإمبراطورية البريطانية.
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، أخذت رابطة الكشّافة الفلسطينية تشارك ولو بصورة غير مباشرة بالتظاهرات والنشاط السياسي الرافض للانتداب البريطاني والهجرة اليهودية مع بداية اتضاح المشروع الصهيوني. وفي المقابل، بقيت تربية رابطة الكشّافة العبرية تتجهّز وتجهّز أعضائها للانخراط في “الهاغاناة” التي ستقوم لاحقًا بتهجير الفلسطينيين من أرضهم.
أمّا حكومة الانتداب البريطاني، فأخذت تحاول هي الأخرى السيطرة على رابطتيّ الكشّافة التي انخرطت كلّ منهم في صراع مثلّث بين حركة تحرّر ومشروع استيطاني ودولة انتداب، وحاولت الحكومة البريطانية السيطرة على فرق الكشّافة ولكنها لم تنجح بذلك نظرًا للتحوّل السريع نحو لدى الكشّافة العبرية الذي أخذ يحمل طابعًا أكثر عسكرة ممّا هو مدنيّ.
وبدأ الصهيوني الذي أصبح لاحقًا نائب ضابط جهاز التربية والتعليم الإسرائيلي بعد النكبة، إيهود برافر، بتأسيس مساق في الكشّافة تحت عنوان “محتيريت” كمساق عسكريّ تعنى بتدريس تاريخ جهاز “محتيريت” العسكري الصهيوني الذي عمل في دول عربيّة عدّة لتشجيع الهجرة وبث الدعاية الصهيونية، وفي بعض الأحيان إرغام اليهود على الهجرة إلى فلسطين بعد هجمات إرهابية عليهم وظّفت لبث دعاية كون “إسرائيل الوطن الآمن لليهود”.
ارتكز المساق على تصوير الشّبان اليهود وهم يساعدون “المحتيريت” كقدوة لشبان الكشّافة، ومن ثم إقامة تدريبات عسكرية رياضية تجسّد ما يتم تدريسه بصورة عملية. وتم إقرار مساق تحت عنوان “وراء المقاتلين” يتجسّد من خلاله عمل الكشّافة العبرية الصّهيونية كمساند لقوّات التهجير البريطانية وقوّة هجوم عسكرية. وشكّلت في بعض الأحيان فرق الكشّافة الصّهيونية مع بدء النكبة مساندًا فعليًا للقوّات الصّهيونية، فذكرت مرشدة كشّافة في منطقة القدس كيف خرجت هي وفرقتها لإدخال حزام ناسف إلى فندق “كينغ جورج” في القدس، استلهامًا بما قامت به “الإتسل”.
ومع نكبة فلسطين، استفادت الحركة الصّهيونية من الإرث البريطاني مرّة أخرى وطبّقته على الفلسطينيين بصورة أكثر دقّة وإلزامًا، إذ وبعد أن رفضت هي في وقت سابق وضع العلم البريطاني على لباسها وصمّمت على العلم الصهيوني، أرغمت فرق الكشّافة الفلسطينية على وضع العلم الصهيوني فوق ملابسهم بعد النكبة، وعيّنت صهيونيًا ليقف على رأس رابطة الكشّافة الإسلامية والمسيحية، أمّا الرابطة الصّهيونية فلا تزال حتى اليوم تشكّل تحضيرًا للالتحاق بالجيش الإسرائيلي، وأصبح شرط الاعتراف بأي فرق كشفية عربية منوط بالولاء “لدولة إسرائيل”.
نرى إذًا، تجسيدًا لمنظومات السّيطرة الاستعمارية البريطانية مع ملاءمة لخاصيّة الحالة الصّهيونية، على صعيد تأسيس الكشّافة والتعامل مع الكشّافة العربية بعد النكبة، إذ لم تقم الحركة الصّهيونية باستغلال الإرث الاستعماري للكشّافة البريطانية فقط، بل واستغلت بعد النكبة هذا الإرث السياساتي لضمان قمع تطوّر فرق كشّافة فلسطينية مستقلة عن النظام الاستعماري، أو تنشط وتطوّر خارجه، واستغلت السياسات البريطانية ورفض الحركة الانصياع لها ليعود الإرث البريطاني حاضرًا، سياساتيًا، عسكريًا وتنظيميًا ثقافيًا في المنظومة الصّهيونية منذ بدء تأسيسها حتى التأسيس وضمان استمرار السيطرة.