حافظت السيلة الحارثية على إرث شهيدها أبو درّة، وعلى نهجه الثوري وعلى بيته وخنجره. خنجره ما زال موجوداً وتحتفظ به مسنةً تُكنّى بأم عطا. خيرية جرادات (أم عطا) لم تقابل أبو درّة بل ولدت بعد وفاته بعشر سنوات، لكنها حفظت أدواته ونهجهه جيداً؛ إذ تربطها علاقة وثيقة بالثوار، فكما حافظت على خنجر أبو درّة، أرادت أن تحيي اسم “عطا الزير” فسمّت ابنها الأول على اسمه.
مقدمة
يعود اسم “السيلة الحارثية” نسبةً إلى “سيلٍ” من الماء كان يمرّ قديماً من خلالها، هذا السّيل لا يقلّ أهمية عن الواد المقدّس؛ إذ تنساب المياه من سلسلة الجبال الممتدة ما بين مدينة أم الفحم وقرية عانين، الطيبة، تل تعنّك، السيلة الحارثية واليامون، وتتجمع فيه متدحرجةً نحو الجزء المحتل من سهل مرج بن عامر لتصبّ فيه. ويكأن الطبيعة تلهمنا أنْ تجمّعوا من كلّ مكانٍ لتصبّوا ثورتكم هناك، وهذا ما حدث بالفعل. فكما الماء، كان رجالات ثورة عام 1936 يتجمّعون من كلّ مكانٍ ويتمركزون في المنطقة لنقل السّلاح القادم من سوريا إلى الثوار، ناهيك عن معارك عديدة حدثت في تلك الجبال. أما “قبيلة بني حارثة” فإنها أول من خلع نعليه في المنطقة جاعلاً منها مكاناً لسكناه.
تقع القرية على بعد ثمانية كيلومترات شمال غربيّ مدينة جنين على سلسلةٍ من الجبال يفصلها شارع حيفا- جنين عن سهل مرج بن عامر، هذا الشارع من المفترض أنه باسطُ ذراعيه من جنين حتى حيفا، لكنّ الآلة الاستعمارية المتمثلة بمعسكر سالم جاءت دخيلةً لتفصل جنين عن جميلتها حيفا.
في القرية أربع عائلات رئيسة وهي: زيود، جرادات، طحاينة، شواهنة. والعديد من العائلات الأخرى والتي هي امتداد لعائلات من قرى أخرى مثل: العبيدي، الشلبي، أبو الوفا، زيد الكيلاني، أبو طعيمة، أبو جاسر، أبوسليم، السعدي، أبو صلاح، وغيرها.
يعمل أهل القرية في العديد من المجالات التي تتوزع ما بين التعليم والتجارة والزراعة والعمل في أراضي 1948، لكن هناك نسبة كبيرة تعمل في التجارة مما دفع الناس في مدينة جنين إلى إطلاق مقولة (إذا عصّبوا أهل السيلة بتسكّر جنين)، كدلالة على كثرة العاملين في التجارة وكثرة محالّهم التجارية في المدينة، والمقصود بجنين أي سوقها. أما عن علاقة السيلة بالزراعة فإنها تشتهر بشجر المشمش والزيتون إضافةً إلى اللوز والعنب والتين وغيرها.
في معمعان الثورة عام (1936-1939)
في الثالث من آذار عام 1938 استشهد الشيخ عطية أحمد عوض (وهو من قرية بلد الشيخ بالقرب من حيفا، وأحد أتباع الشيخ عز الدين القسّام)، في معركة اليامون والتي استمرت يوماً كاملاً ضدّ القوات البريطانية. كان على أهل السيلة الحارثية تشييعه ودفنه ففعلوا، كان هذا واجبهم؛ لأن قريتهم هي إحدى معاقل التدريب له ولخلاياه، لكن، وكما هي عادتهم، سريعو الخروج عن المألوف، لم يدفنوه في أيٍّ من مقابر القرية، وقد كان في القرية أربع مقابر رئيسة تتوزع على أربعة حواري تسكنها العائلات الرئيسة، إنما دفنوه في أرضٍ تعود لملكيةٍ خاصة – هي اليوم، للمهندس معاذ زيود -، والسبب في ذلك خشية أهل القرية أن يأتي الإنجليز لاستخراج جثة الشهيد أو أن يقوموا بمعاقبة مَن دفنوه، وهذا التأويل لا يستند إلّا لتخمينات أهل القرية الحاليين.
كان الشيخ عطية وبالتعاون مع أبو إبراهيم الكبير -خليل محمد عيسى- قد أسس العديد من الخلايا المستعدة للقتال. وقاموا بالإغارة على العديد من المستوطنات الصهيونية والمواقع العسكرية وخاضوا العديد من المعارك، منها معركة الفندقومية 30-6-1936 ومعركة وادي عرعرة 30-8-1936، إضافةً إلى نسف الجسور وقطع خطوط الهاتف.
في نفس القرية وعلى الجبل المقابل، وبالتحديد في داخل مقبرة عائلة الجرادات، هناك ضريح كبير للشهيد القائد يوسف سعيد جرادات (أبو درة) ابن السيلة الحارثية، أحد أتباع الشيخ عز الدين القسّام والذي تولّى مهمة إدارة المنطقة بعد استشهاد الشيخ عطية، وخامس خمسةٍ تولّوْا مهمة قيادة الثورة.
ولد يوسف سعيد جرادات في قرية السيلة الحارثية عام 1900 واسمه الأكثر شهرةً وتداولاً “أبو درّة”. درس في القرية وعمل في الزراعة ثم انتقل إلى حيفا كي يعمل في السكة الحديدية، ومن هناك كانت بواكير أبو درّة الثائر؛ إذ تعرّف على شيخ الثورة عز الدين القسّام، وفيما بعد شارك معه في معركة أحراش يعبد عام 1935 -التي استشهد فيها عز الدين القسام-. بعد تلك المعركة غاب عن الأنظار؛ لأنه كان مطلوباً ومشغولاً بتهيئة نفسه للثورة. عندما بدأت الثورة الكبرى، التحق أبو درّة بالثوار تحت قيادة الشيخ عطية، وبعد استشهاد الأخير تولّى مهمة القيادة وخاض هو ورجالاته الكثير من المعارك، أشهرها، معركة أم الزينات في منطقة الكرمل في 28-11-1938.
قام أبو درة ورجالاته بالعديد من العمليّات، منها الهجوم على مستعمرة “كفار خاروشت”، إذ هاجموا سيارة شرطة يهودية وقتلوا عدداً منهم، وشارك أيضاً في معركة اليامون التي استشهد خلالها الشيخ عطية. أما في 10-7-1938 فقد قاموا بالهجوم على مستوطنة “جفعات عيدا” وكانت هذه العملية رداً على العمليات الإرهابية التي قامت بها عصابة ايتسل، إذ فجّرت العديد من الأسواق والأحياء العربية،استشهد فيها العديد من الفلسطينيين.
وفي 16-7-1938 هاجم أبو درة ورجالاته سجن عتليت وقاموا بتحرير السجناء العرب فيه، بدأت المعركة باقتحام منزل يبعد 300م من جهة الشمال، ومجموعة أخرى بدأت بإطلاق النار على حراس السجن حتى تم قتلهم، أما المجموعة الثالثة فقد كمنت على الطريق لقطع التعزيزات العسكرية القادمة من حيفا، فيما كانت المجموعة الرابعة تشتبك مع التعزيزات القادمة من جهة الجنوب. استمرت المعركة ثلاث ساعات انتهت بقتل 20 إنجليزياً وضابطاً صهيونياً واستشهاد مجاهدٍ واحد من قرية قباطية اسمه محمد قاسم الشواهين.
كان الثوار يلبسون الحطة أثناء العمليات، وكانت هذه الهوية في الملابس تحصر دوائر البحث عند البريطانيين وتسهلها عليهم؛ ولكي يتمكن الثوار من القيام بعملياتهم دون كشفهم، أصدر أبو درة في مطلع عام 1938 قراراً ينص على وجوب ارتداء المجتمع الفلسطيني للكوفية الفلسطينية، كي لا تكون دلالةً على الثوار، واستجاب الفلسطينيون للقرار.
في 24-8-1938 أرسل أبو درّة اثنين من رجالاته لقتل حاكم جنين “موفيه”، أحدهم تسلل عبر خط الأنابيب وصولاً إلى مكتب موفيه والآخر بقي في الخارج وبدأ بإطلاق الرصاص للتمويه على صاحبه الذي في الداخل والذي أفرغ مخزني رصاص في جسد موفيه اللعين. جاء هذا القرار بعد رسالةٍ بعثها أبو درّة لموفيه يقول فيها: “من القائد الصغير يوسف أبو درة إلى مستر موفيه، إذا لم تحسن سلوكك مع الأهالي خلال ثمانية أيام فسأقتلك”، وبالفعل بعد ثمانية أيام تم قتله.
وفي 18-11-1938 قاموا بالهجوم على الثكنات العسكرية في جنين وتمكّنوا من السيطرة عليها. يقول الأستاذ أكرم زعيتر نقلاً عن تقرير رفعه أبو درّة كما يوضح موقع “فلسطين في الذاكرة”: “القائد الشيخ يوسف سعيد أبو درّة وفريق من رجاله في قرية السيلة الحارثية وعددهم 16، إذا بالحرس يشاهدون عددا من الرجال آتين من جهة الطريق العام نحو القرية لابسين العباءات والعقل أي لباس الثوار. ولما اقتربوا صاح بهم أحد المجاهدين “كلمة السر؟” فأجابوه “رهمان”، وكانت “رحمان” كلمة السر فأدرك المجاهد هويتهم! وكان اشتباك في معركة توالت في أثنائها النجدات للجنود من جهات أم الفحم ورمانة واليامون، وأسفرت المعركة عن عدة قتلى من الجنود واستشهاد مجاهد. ثم انسحب المجاهدون من القرية، وفي الصباح فتش الجند قرية السيلة بأسلوبهم الوحشي وفرضوا عليها غرامة مالية”.
ومما يُنسب إلى أبو درّة ورجالاته، دورهم في عمليات أسر الصهاينة. إذ قامت مجموعة من رجالات أبو درّة بأسر ثلاثة صهاينة على بعد كيلومتر واحد من مستعمرة “جفعات عيدا”، تم اقتيادهم إلى مقر أبو درّة وعُقدت لهم محكمة ثورية قضت بإعدامهم، وتم ذلك. أما عندما هاجموا سجن عتليت، فقد تمكّنوا من أسر ستة صهاينة، كان من بينهم ثلاثة أطفالٍ فتم إطلاق سراحهم، أما الثلاثة الآخرين فقد تم إعدامهم.
في أثناء كل هذه الأحداث والعمليات، كان هناك صوتٌ من بعيد يأتي إلى شاعر الثورة نوح إبراهيم ليقول: “ألقِ مزاميرك يا داوود”، وكان الشاعر يُلقي، وهذه مزاميره في ثائرنا:
“فلسطين لا تفزعي، نجمك في السما درّة
حولك فوارس يوم المواقع درّة
ما يهابوا الموت ولو ما بقي ذرة
ثوار حايزين النصر صيتهم بالدنيا لمع
يهاجموا الأعداء وسيوفهم تضوي لمع
إسلام ونصارى نجمهم بالسما لمع
يا رب نصرك ما دام رئيسهم أبو درة”.
انتهت الثورة وانسحب أبو درّة إلى دمشق ثم عاد إلى الاردن، ألقي القبض عليه واثنين من رفاقه هناك، وأثناء التحقيق تبيّن أن أحد المعتقلين الثلاثة هو يوسف سعيد أبو درّة فسلّمه قائد الجيش “غلوب باشا” إلى البريطانيين، نفّذوا بحقه حكم الإعدام في مدينة القدس بتاريخ 30-9-1939.
أم عطا… أم الثوار وسلاحهم
حافظت السيلة الحارثية على إرث شهيدها أبو درّة، وعلى نهجه الثوري وعلى بيته وخنجره. خنجره ما زال موجوداً وتحتفظ به مسنةً تُكنّى بأم عطا. خيرية جرادات (أم عطا) لم تقابل أبو درّة بل ولدت بعد وفاته بعشر سنوات، لكنها حفظت أدواته ونهجهه جيداً؛ إذ تربطها علاقة وثيقة بالثوار، فكما حافظت على خنجر أبو درّة، أرادت أن تحيي اسم “عطا الزير” فسمّت ابنها الأول على اسمه.
في الانتفاضة الأولى ظهرت مجموعات الفهد الأسود، وكانت بمثابة القوة الضاربة لحركة فتح، وتقوم مهمتها بالأساس على تصفية وقتل الخونة ومواجهة جيش العدو ووحدات المستعربين، إضافةً إلى رمي الحجارة وزجاجات المولوتوف وخط الشعارات الوطنية والثورية على الجدران. كان للفهود السود حضورٌ جيّد في السيلة الحارثية، والتحق في صفوفها العديد من الشباب، اتخذوا من كهوف الجبال مركزاً لتجمعهم واختبائهم، حالهم لم يعجب إم عطا، فجعلت منزلها ملاذاً لهم ولأسلحتهم. وكان منزلها مميزاً ومناسباً للإختباء، إذ له مخارج عديدة ويقع في حي قديم مليء بالزقاق، مما يسهّل عملية الهروب فيما لو كشف أمرهم.
اتخذت أم عطا لنفسها مهمةً في العمل الوطني تتمثّل بجعل منزلها مخزناً لأسلحة المقاومين، من أسلحة بدائية وسكاكين وخناجر ومولوتوفات، إضافةً لجعله مسكناً للمطاردين، وكان هذا يتطلب منها أن تقوم في كل صباح بجولةٍ تفقدية حول المنزل والمنطقة المحيطة للتأكد على سلامة الشباب قبل خروجهم، وقبل ذلك كانت تعد لهم الفطور وتوقظهم على مقولة:
“ما انخلكت البواريد للمخازن وما انولد الثوار للنوم”.
احتضن منزلها العديد من الشباب، توزعت أحوالهم ما بين شهيد وأسير، استشهد منير جرادات عام 1992 واعتقل الشيخ رائد السعدي وما زال معتقلاً ومحكوماً بمؤبدين اثنين، واليوم هو عميد أسرى حركة الجهاد الإسلامي في سجون العدو، أما نعمان الشلبي فقد خرج في الإفراجات عام 2013، والتي كانت “بمبادرة حسن نيّة تجاه الرئيس أبو مازن”، وقد قضى 22 عاماً في السجن، وقد خرج بنفس هذا الفوج مهند جرادات بعد أن قضى 18 عاماً، وأيمن جرادات بعد أن قضى 23 عاماً، فيما أنهى بشير جرادات محكوميته بعد 17 عاماً. ما زالت أم عطا تبكي عند ذكر اسم الشهيد أمامها، وتتألم لغياب رائد، ولا يخفى على أحد كم الفرح الذي داعب قلبها عند استقبال من خرجوا من السجن.
أهم ما يميّز تجربة الفهد الأسود، أنّ شبابها كانوا مخلصين لبعضهم، للحد الذي يدفع الفرد منهم، إذا اعتقل، لحمل كل التهم عن رفاقه، لذلك نجد أن جميع أحكامهم عالية وغالباً مؤبدات، في حين أن بعض زملائهم لم يسجنوا أساساً، أو سجنوا بأحكامٍ قليلة. لكن، ولأن ظاهرة “روابط القرى” كانت منتشرة في ذلك الوقت، وشبكات العملاء كثيرة ومعقدة، فقد وقعت التجربة في إشكالية التأكد من تورّط “العميل”، ولا زالت -حتى هذه اللحظة-، عائلات عديدة تطالب بدم أبنائها وتبرئتهم، وتوجيه الاتهامات ضد أبناء التجربة بأنهم قتلوا شباباً باسم التجربة لدوافع شخصية.
كانت مهمة الفهد الأسود بالأساس مرتبطة بتفكيك “روابط القرى” وشبكات العملاء، وبعد انتهاء الانتفاضة الاولى ومجيء الانتفاضة الثانية فيما بعد، أخذت السيلة الحارثية شكلاً مختلفاً للعمل المقاوم، تمأسس في بداية التسعينات ونما غرسه في بداية الألفية الثانية، وكان أهم ما يميّز هذا الاختلاف هو دخول مفهوم العمليات الاستشهادية على القرية.
رجالات تشرين: قراءة في تاريخ الاستشهاديين
يقول روبرت تابر في حديثه عن الثائر: “لا يوجد شيء يخسره سوى روحه وبندقيته”. وفي هذا تجلٍ صوفيّ يجرّد الثائر من كل شيءٍ سوى الوطن. خلال الانتفاضة الثانية خرج من السيلة الحارثية أربعة استشهاديين لا يملكون سوى أجسادهم وأحزمتهم الناسفة يقضّون بها مضاجع الصهاينة. ورغم عملية “السور الواقي” التي هدفت إلى اقتلاع المقاومة من المدن الفلسطينية، إلّا أن العمليات الاستشهادية في العمق الصهيوني في أراضينا المحتلة أتت لتقول أنه لا الجدران الحديديّة ولا الإسمنتية ولا العملياتية تمنع الفلسطيني من المقاومة والنضال.
سليمان طحاينة (23 عاماً):
ولد الاستشهادي سليمان طحاينة في القرية، وترعرع فيها ودرس في مدارسها. بُترت ساقه اليمنى أثناء ذهابه إلى المدرسة على إثر رصاصة تلقّاها من جنود الاحتلال في 31-6-1988. كان أخوه الشهيد صالح ناشطاً عسكرياً في صفوف حركة الجهاد الإسلامي، وكان استشهاديّنا ينام ويستيقظ وجنود الاحتلال في منزلهم في محاولاتٍ فاشلةٍ لاعتقال صالح، وفي حين كانت العائلة في حالة اشتباكٍ مستمرٍ مع جنود البغي، كانت “الآن الأبدية” تتشكّل في نفس سليمان.
تتلمذ سليمان على يد صالح عملياً ونظرياً، وبدأ نشاطه بكتابة الشعارات على الجدران؛ إذ كان خطّه جميلاً، إضافةً إلى تصميم المجسمات المستخدمة في مهرجانات ونشاطات حزبه الذي ينتمي إليه. وبسبب نشاطه هذا اعتقل وحكم عليه بالسجن لمدة عامين ونصف. في هذه الأثناء كان أخوه صالح مسجوناً، وفيما بعد تمكّن صالح من الهروب من السجن. عاش صالح بعدها ملاحقاً من العدو الصهيوني وآخرين، وكان سليمان شديد التأثر على حال أخيه فكتب له قصيدةً يقول فيها:
“حاولت جهدي أن أراك فلم أراك، فتشت عنك سطور قصيدتي وسط التفاعيل أو قوافينا الحزينة… أمل يداعب خاطري.. أخاطب طيفك المرسوم على ضوء الشمس.. المنسوج من ملامح كبرياء… من عزة مؤمن عرف الإباء.. عشق التمرد والفداء.. عشق الشهادة واللقاء..”
فيما بعد، استشهد صالح، وجد معذباً بأبشع طرق التعذيب في إحدى شقق رام الله، كان محروقاً ومشوهاً ومنكلاً به، تم اكتشاف جسده الطاهر بعد ثلاثة أيام. في تلك الأثناء كان لا يزال سليمان في السجن، وتألم كثيراً لاستشهاد أخيه وعزم على الثأر له – كما يتضّح من وصيته-. والتي جاء فيها:
“الثأر يكبر يا يهود فأبشروا… بالموت يحصد روحكم في كل واد… وتأهبوا فسيوف صالح قد أطلعت… مشرعات منذرات بالحداد… أنا إن تفجّر هيكلي فإنني … رجل تمرَس في المصاعب والشداد…الثأر يكبر يا يهود فأبشروا… واليوم في قدسي قد فتح المزاد”.
خرج من السجن وبدأ يتجهّز لعملية الثأر، لكن السجن -مرة أخرى- حال دون ذلك، وبعد خروجه وبفعل ضغط العائلة والمجتمع المحيط يخطب ويتزوج، ولكن ذلك لم يثنه عن ثأره المقدّس. في صباح يوم الجمعة 7-11-1998 خرج سليمان وصديقه يوسف الزغير الذي شاطره الشهادة متجهين نحو القدس حاملين شعار “الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين”. خرجوا بأحزمتهم الناسفة وسيارتهم المفخخة ليفجروا أنفسهم في سوق “محنا يهودا” بما فيه من مستوطنين وذاكرة مكانية دخيلةً على ذاكرتنا الفلسطينية.
سامر شواهنة (21 عاماً):
ولد سامر في القرية وترعرع فيها، في أسرةٍ عانت قهر اللجوء؛ فأصل العائلة (أبو تركي- شواهنة) من أم الفحم وشرّدوا عام 1948 وتنقّلّوا من مكانٍ لمكان حتى استقروا في السيلة الحارثية. درس في مدارسها وشكّل “آنه الأبدية” في مسجد خالد الاسلامبولي في حارة الشواهنة، ونشأ في جيلٍ قدّم الكثير من قرابين الثورة والحرية.
يروي أخو الاستشهادي أنه لاحظ سامر يكتب مرّة على صورة له: “نحن معشر الاستشهاديين ربما نكون قليلي الكلام، ولكن ندرك أن الدم يترك كلمته”.
وبالفعل وقّع وصيّته بالدم، ففي 29-11-2001 الموافق 15 رمضان، كان الاستشهاديّ وأسرته مدعوّين للإفطار في بيت أخيه، تناولوا إفطارهم وتبادلوا عذب الكلام، والابتسامة لا تفارق سامر، ضحك وشاهد الجميع ويكأنه يودّعهم. وقبل خروجه من المنزل قبّل يد أمه قائلاً “ارضِ عني يما”، ذهب إلى صلاة التراويح فصلّى ثماني ركعات وخرج بعدها ليهذّب ذقنه عند الحلاّق واختفى. اختفى كي تستيقظ السيلة الحارثية وكل الشعب الفلسطيني على خبر عمليّة استشهادية في الخضيرة.
نفّذ عمليته في حافلة صهيونية تابعة لشركة (ايجد) قرب معسكر (80) القريب من الخضيرة، وقَتل فيها ثلاثة جنود وأصاب العشرات، حسب الرواية الصهيونية. جاءت وصيّته لتؤكد على استمرارية نهج المقاومة داعياً إلى تصعيد الانتفاضة وتطويرها، ودعا -فيها- أبناء شعبه إلى مواصلة الكفاح المسلح، أما عائلته فقد أوصاها بالصبر وعدم البكاء، وتوزيع الحلوى والاحتفاء بعمليّته، وهذا ما فعلته العائلة بالفعل.
عبدالكريم طحاينة (21 عاماً):
ولد عبدالكريم طحاينة في القرية ودرس في مدارسها وكوّن “آنه الأبدية” في مسجد أبو بكرالصديق في حارة الطحاينة، كان فاعلاً وناشطاً وشارك في الكثير من المواجهات اليومية سواء في القرية أو محيطها. كان صاحب كلمة حقٍ وإنصاف ولا يقبل الضيّم له ولغيره، فكان يتدخّل في الكثير من المشاكل الاجتماعية لحلّها، وكان عنيداً متحفظاً على كل ما يخصه؛ إذ تكتّم على انتمائه للجهاد الاسلامي كي لا يكون مدعاة للمفاخرة.
كان الشهيد يمهّد لرحيله؛ إذ دخل إلى منزل العائلة يوماً ومعه صورة له وسلاحه، وقال: “شو رأيكم بالصورة؟ حلوة؟”، لم تكن العائلة تعلم بأن هذه الصورة ستعلق على جدران القرية فيما بعد، لكن عبدالكريم كان يعرف ذلك جيداً.
في 4-3-2002 كان عبد الكريم قد امتلأ بكل أسباب الرحيل، فخرج من منزله صباحاً وفي المساء اتصل على العائلة وأخبرهم أنه في العمل وسينام خارج المنزل، أصرّت العائلة عليه بأن يعود للمنزل وألا ينام خارجه، لكنه سرعان ما أنهى المكالمة. نام الأهل وبدأ عبد الكريم بالعمل متغلباً على منظومة المخابرات الصهيونية -والتي كان موقوفاً عندها قبل العملية بيومين-، ليستيقظ الجميع على خبر عملية استشهادية في إحدى الباصات في مستعمرة العفولة، يَقتل فيها جندياً ويوقع 25 جريحاً.
راغب جرادات (17 عاماً):
ولد راغب جرادات في القرية ودرس في مدارسها وشكّل “آنه الأبدية” في مسجد بلال من رباح في حارة الجرادات، كان متفوقاً في مدرسته وابن أسرةٍ متعلمة. ألقى كلمة “الجماعة الإسلامية” في جنازة الاستشهادي سليمان طحاينة، ومما قال فيها “دم صالح يبلغنا بأن الدم هو الطريق نحو النصر، وكل الحلول الاستسلامية ستسقط، ودم سليمان سيبقى شاهداً ومناراً”، وكانت تربطه أيضاً علاقة صداقة وثيقة مع كل من سامر وعبد الكريم، وربما هو بذلك كان يعاهد من سبقوه إلى الطهارة، بأنه سيتبعهم ويأخذ بوصاياهم جيداً.
في حين كانت زقاق مخيّم جنين مليئة بدماء الشهداء وبطولات المقاومين، وكل براثن بني صهيون تتجمّع لتحاصر جنين، خرج راغب من السيلة الحارثية إلى حيفا، ليبرهن أن طرقات الشهادة يمتد آخرها، وليثأر من جنود البغي الذين أنهكوا مدينة جنين وعربدوا في شوارعها، ليسجّل اسماً جديداً في سفر النضال والمقاومة.
كعادة الاستشهاديين يمهّدون رحيلهم ولا أحد يدرك ذلك إلا بعد الرحيل، كان راغب يصوم كل إثنين وخميس، وفي الإثنين الأخير لم يصم، وذهب خلال النهار ليقص شعره قصة (مارينز)، تعجّب والده من ذلك، لكنه لم يوبخه، بل جلس هو والشهيد وأحد جيرانهم يتناولون أطراف الحديث، وداعبه الجار معلّقًا بسخريةٍ على (كرش راغب)، فردّ راغب: “بكرا رح يعجبك كرشي عنجد”. في اليوم التالي قد خرج راغب من المنزل متوجهاً نحو المسجد لصلاة العشاء، وبعد الصلاة قام بجولةٍ على جميع أخواته المتزوجات، وبذلك كان قد امتلأ بكل أسباب الرحيل، وبدأ يسير خطاه وحزامه الناسف نحو حيفا ليفجر نفسه في أحد الباصات في 10-4-2002، ويوقع 23 قتيلاً بينهم عقيد يعمل مديراً في سجن مجدو و4 ضباط تحقيق في سجن الجلمة برتبة “ميجر”.
جاء اتصال هاتفي من الصين، أحد أقارب العائلة هناك كان قد شاهد خبراً على قناة المنار يفيد بأن هناك استشهادي من عائلة الجرادات، اتصل ليطمئن ويستفسر مَن هو الشهيد، وعندما سمعت أم راغب بأن هناك استشهادي، هتفت “عاشت إمه للي شفى غليلنا”، لكنها لم تكن تعلم بأن الدعوة موجهة لصالحها، هكذا قالت. في تلك الأثناء كان المئات من أهل القرية يقفون أمام منزل الاستشهادي والصمت يخيّم عليهم ولا أحد يجرؤ على طرق باب العائلة لإخبارهم باستشهاد ابنهم، فتحت العائلة التلفاز وشاهدوا الخبر، ليدخل الأب إلى غرفة ابنه ويتأمل سريره مستحضراً “فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ولا يستأخرون”.
ومما جاء في وصية الراغب للثورة والحرية:
” يا أبناء ديني وشعبي …. يا أصدقائي وإخواني..ها هو المجرم السفاح شارون والقذر موفاز يمعنون في إخوتنا في مخيم جنين قتلاً ودماراً … قتلوا الشيوخ والأطفال والنساء … هدموا البيوت ونشروا الفساد وإنه لمن العار أن نرضى بهذا الذل وأن نبقى صامتين ننتظر دورنا للذبح بسكين العبري … أيها العقلاء … أيها الأحرار … أيها الشرفاء تقدموا وأشعلوا الأرض من تحتهم … تقدموا بكل ما تملكون … بالعبوات بالقنابل … بالرصاص … بالسكين بالدم بالأشلاء … فلا وقت للبكاء فلا وقت إلا للعمل المقدس وإلا فلا تلوموا إلا أنفسكم”.
خاتمة
نص كهذا أكثر تواضعاً من أن يحيط بتاريخ المقاومة في السيلة الحارثية؛ فقد قدّمت السيلة الحارثية الكثير من قرابين الثورة والحرية في تاريخ نضالات وهبّات الشعب الفلسطيني على طول فترة الصراع، وضحّى أبناؤها بأجسادهم وسنيّ أعمارهم، فكان منهم العديد من الشّهداء والكثير الكثير من الأسرى. الرحمة للشهداء والفرج لِحَمَلَة الوصايا.