الصورة من تصميم: محمد أبو الخيران


يجادل هذا المقال في أنَّ المقاومة المستجدّة في الضفة الغربية تحديداً انبثقت في ظلّ تقاطعٍ بين زمن استعماري يحيل إلى المواجهة وما تستدعيه من عنف، وزمن ما بعد استعماري يحيل إلى خفوت قوة السرديات الوطنية والإسلامية واليسارية الكبرى.[i]  يشكل هذا التقاطع “فضاءً-إشكاليًا” كما يجادل ديفيد سكوت، أي أنّه فضاء يساهم في تشكيل نمطٍ خطابيّ محدد وذوات سياسية منبثقة عنه. تمتلك هذه الذوات اليوم القدرة والقابلية لإنتاج الفعل المقاوم، كما تتّجه نحو رهان الشهادة والموت، ولكنّه موت يقدم احتمالات وصوراً مستقبلية دون ما هو متصور Imageless Image. ولعلَّ هذا ما يجعل رهان الموت والشهادة اليوم متمايزاً عن أزمنة الانتفاضات الكبرى، لأنّه قائم على جذريّة اللا-تحديد والارتباك، بمعنى أنّ جذريته تكمن في القدرة على التضحية المطلقة في ظلّ تفكّك بعضٍ من السرديات الكبرى. إنّه موت يراهن على قوة التضحية في بناء أنظمة حقيقة جديدة، بمعنى توضيح المفاهيم وتصويبها مرة أخرى. وقد قدّمت لنا هذه الاستدارة نحو الموت فضاءاتٍ سياديةً تتميّز بأنّها تمتلك قرارها من خلال إعلائها للتجربة الفورية والمباشرة وإطالة أمدها، بل وقدَّمت فضاءات لا تستجيب لرسائل التهديد من المستعمِر ولا تكترث لها. ينطلق هذا المقال من الكرونولوجيا التي قدمها الصحفي عبد الباسط خلف في عدد مجلّة الدراسات الفلسطينية 133، موفرًا نقدًا للكرونولوجيا كبناءٍ أوليّ للتأريخ، وبالوقت نفسه مستندًا عليها كمادة خام شكّلت أساس هذا التحليل والبناء المفاهيمي. كما يقدم المقال تشريحًا مقتضبًا لجدل التكتيك بين الاحتلال والمقاومة في الضفة الغربية. 

 

ملاحظة: هذا المقال جزء من عّدة مقالات يعمل الكاتب عليها محاولًا الإجابة على بعضِ أسئلةِ اللحظة السياسية الراهنة من خلال استحضار مخزون فلسفيّ-نظريّ في بناء معالم هذه اللحظة السياسية. 

 

الكرونولوجيا وكتابة التاريخ

 

هناك فرق هام بين بناء الكرونولوجيا التي تدوّن وقائع التاريخ بمنطقٍ متسلسلٍ زمنيًا، وكتابة تاريخ اللحظة الراهنة. ففي كتابة التاريخ الراهن هناك ما يتجاوز سردية الزمن المتسلسل، وما يتعدّى حدود تدوين الوقائع والتأكد من حدوثها في موعد حدوثها على الرزنامة. تتجاوز كتابة التاريخ التدوينَ إلى محاولة استنطاق “الأسباب” و”المحددات” التي أنتجت إمكانية الكرونولوجيا نفسها، أو التي صاغت إمكانية انبثاق الحدث الذي يتطلب تدويناً في المقام الأول. يقول المؤرخ مارك بلوخ  Marc Bloch  إنَّ التاريخ ليس إلّا علم التقاط تحرك “البشر في الزمن”، والكرونولوجيا قد تكون أوّلَ محاولة لصياغة هذا الالتقاط، أو أوّل تدوين لهذا التحرك وإن كانت في منطقها الناظم التقاطًا تراتبيًا ورتيبًا للحدث، قائماً على تسلسل الأحداث على الرزنامة وتعدادها.[1] ولكنّ الكرونولوجيا وحدها بالتأكيد لا تكفي، فالتقاط تحرك البشر في الزمن، يحتاج إلى صياغة ودراسة “أفعالهم” و”إبداعاتهم”، وقدرتهم على بناء أنظمة اجتماعية، من جهة، وقدرتهم من جهة أخرى على تجاوزها. لهذا، يكمن السؤال الأهم لأيّ قراءة تحاول أن تستند إلى الكرونولوجيا، في الإضاءة على ما جعل هذه الكرونولوجيا ممكنة في المقام الأول، إي ما وراءها.

 

تقدّم لنا الكرونولوجيا مادة خام، تستقدم التسلسل وخطَّه الأحادي في صياغة صورة التاريخ في اللحظة الراهنة. ولكن في البناء الكرونولوجي توتّر صارخ، بين ادّعائها تدوين الوقائع والأحداث التاريخية، والكيفية التي تم اتباعها في بناء هذا الخط الأحادي المتسلسل زمنياً، ولربما الأهم هو فيما تتركه هذه الكرونولوجيا خارجها. فقد تقدم لنا عدد الشهداء وأسماءهم، وعدد الأسرى، أو قد تقدم لنا حالة الأسير (امرأة، رجل، طفل)، ولكنّها تغفل عن لحظة الأسر نفسها أو تبعات الأسر على الأسير. بتعابير أخرى، إنَّ سؤال الكرونولوجيا الأول يكمن في تحديد ما يمكن اعتباره حدثًا يتوجب تدوينه؟ وفي هذا الكثير من المحو قبل أن يكون فيه الكثير من التدوين.[2]

 

فالكرونولوجيا، باختصار، هي أوّل محاولة لالتقاط تحرّك البشر في الزمن، وتقدّم لنا مادّة خام لكتابة تاريخ يشمل محاولات التفسير، ولكن في بناء هذا التسلسل الزمني وهندسة هذا البناء ثمّة منظور محدّد لهذا التاريخ، أو لنقل ثمة عين ترى ما تراه لتدوّنه، وترى ما تراه فتتركه جانباً، أو قد لا تدرك ما الذي أمامها فلا تدوّنه. وبمعنىً آخر، فالكرونولوجيا تبني منظارًا محددًا لرؤية هذا الواقع، بل وتمنح هذا الواقع أوّلَ معانيه واستخلاصاته بتقديم سردية الزمن على شكل إحصاءات كلية، كحقيقة أنَّ العام الماضي شهد ارتقاءَ أكبر عدد من الشهداء في الضفة الغربية منذ العام ٢٠٠٦، أو أنَّ العام الماضي شهد ارتفاعًا ملحوظًا في عدد عمليات إطلاق النار على الطرق الالتفافية، أو العمليات التي تستهدف المستوطنات وقوات الاحتلال وقواعدها وحواجزها في أنحاءَ مختلفة من الضفة الغربية. ورغم ولادة أشكال تنظيمية مختلفة، إلا إنّ العمليات الأكثر إيلاماً كانت ولا زالت تحدث دون محركات تنظيمية تقليدية توجهها، ما أطلقتُ عليه في ورقة أخرى مسمّى “العمليات الذرية”.[4]

 

وعلى ذلك، هل يمكن لنا، كما يؤطّر الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، رؤية الحدث من منظور اختلافه واستحضاره لما هو جديد حتى لو كان ضمن موجة أوسع من التدفقات الاجتماعية؟ يزداد هذا السؤال وجاهة عندما يتعلق الأمر بالعام ٢٠٢٢، عام التمردات الصغيرة، والانفكاك عن البيروقراطية الفلسطينية المتضخمة، وإعادة إنتاج الفضاء المقاوم في أزقّة البلدات القديمة والمخيمات، وهو عام تصاعد الأحداث- الشهادة والاسر والهدم والعمليات- وتكثيفها، ولكنّه أيضاً عام يميزها من خلال قراءتها في لحظة تحققها نفسها.[ii] هل يمكن لنا كما يقول بلوخ رؤية التاريخ ليس من زاوية حصاد كل ما حدث في الماضي، بل من خلال محاولة الإضاءة على تلك العوامل والقوى التي تساهم في بناء التغير والتحول المستقبلي، أي أن نلتقط انبثاقاً جديداً؟[3]

 

نحن، إذن، لسنا أمام محاولة بناء كرونولوجيا مختلفة، فكل كرونولوجيا ستفشل في التقاط كليّة اللحظة السياسية. وبتعبيرٍ آخر، فإنّ الكرونولوجيا أُعدت لتفشل، إن صح التعبير،  كما أنَّ المادة التي قدّمها لنا الصحافي عبد الباسط خلف تعالج الكثير من الإشكاليات المتعددة التي طرحتُها سابقاً، وتسعى لإظهار المختلف، والوفاء لكل حدث خاصة حدث الشهادة، وتحاول أن تغذّي القارئ الفلسطيني برؤية عامة لشكل المواجهة مع المحتل في العام الماضي، بما في ذلك إظهار بعض التفاصيل الدقيقة لكل حدث، وتدوين يتجاوز الإحصاء والأرقام إلى تقديم حيثيات تخدم عملية التحليل.[5] ويتتبع خلف في تقويم الأحداث على المستوى المصغَّر، كما يتناول الأحداث التي تظهر بعض مفاصل ما يحدث على رأس الهرم السياسي الفلسطيني، مظهرًا التناقضات الداخلية الفلسطينية دون الإشارة بالضرورة لها بشكل واضح. وبذلك، فهناك محاولة حثيثة في الكرونولوجيا التي قدّمها عبد الباسط خلف وفاءًا لنقل الحقائق بمعناها النقي، كمعطيات إمبيريقية تنظم مدخلًا لرؤية الواقع بمنطق يخدم فهم وتفسير الواقع.

 

وما يهمنا في هذا المقال ونسعى له، أمران على وجه التحديد: الأول أنَّ الأحداث التي اتّسم بها العام الماضي ٢٠٢٢ كثيرة ومتشعبة فهي تتضمن ارتقاء أكثر من ١٤٦ فلسطينيًا وهو العدد الأكبر في عام واحد منذ نهاية الانتفاضة الثانية، وثمة مداخل عدة ممكنة لمحاولة التقاط المحددات التي جعلتها ممكنة. والآخر، أنَّ الكرونولوجيا منهمكة في محاولة التقاط “عصارة المواجهة”، أي عصارة الحوار التكتيكي والاستراتيجي بين آلة الحرب الإسرائيلية والتشكيلات التنظيمية الفلسطينية الجديدة.  بينما سيحاول بقية هذا المقال الإجابة على سؤال ما الذي جعل هذه الكرونولوجيا ممكنة وما هي دلالاته أو المفاهيم التي يمكن لها أن تنظّم “مفهمتنا” لهذه المقاومة.

 

تقاطعات زمنية: رهان الموت والفضاءات السيادية

 

لو وضعنا فرضيةً حول نشأة التمردات وتصاعدها في الضفة الغربية العمليات الذرية والهبات الجماهرية والتنظيمات المسلحة- فعلينا أولًا أن نضعها في قلب العلاقة مع بنية استعمارية متوغلة ومتوسعة، تستدعي نشأة المقاومة في مواجهتها.[6] ولكن هذا لا يكفي في صياغة فهم وتفسير طبيعة المواجهة في الزمن الحالي، أي فهم سبل وشكل فعلها، بل ولربما الأهم من ذلك، هو مدلولها السياسي. فلا يمكن الحديث عن شكل التمرد في الضفة الغربية دون الإشارة بدايةً إلى الأزمة في المجال السياسي، والتي تشكّل هذه التمردات أحد عوارضها. فالسياق الفلسطيني يعاني من مثالب الدولة ما-بعد الاستعمارية، ولكن في ظلّ استمرارية العلاقة الاستعمارية الإحلالية. والسياق الفلسطيني قائم في الزمن الما-بيني، زمن تتقاطع فيه معضلات الدولة الوطنية أي تمحورها حول خدمة الرأسمال المحلي، وإعادة إنتاج المجتمع على شاكلة صراعات طبقية ظاهرة وخفية، وحرب إيديولوجية تخدم إعادة إنتاج سيطرة الطبقات الحاكمة مع ديمومة العلاقة الاستعمارية وما تحيل إليه من ثنائيات سياسية مثل المستعمِر والمستعمَر. بمعنى أنّنا أمام تقاطعية زمنية تجعل من اللحظة الراهنة مختلفةً عما سبقها، أي لحظة نشأة الثورة الفلسطينية الحديثة في أوساط القرن الماضي وارتداداتها الإسلامية في ثمانيات القرن الماضي.[7] ما يشير إليه هذا التقاطع الزمني، في خضمّ المعركة المندلعة في الضفة الغربية وعموم فلسطين، أنَّ هناك أزمة تعريف الأفق السياسي بين المحتمل والممكن.

 

هذه الأزمة هي نتاج ما يطلق عليه ديفيد سكوت (David Scott) “فضاء-مشكلة (Problem-Space).[iii] يستحضر سكوت التقاطع بين الأزمنة الاستعمارية الحداثية التي تمتلك ثنائيات واضحة (مثال: مستعمِر ومستعمَر) كما تحضر في نصوص وتجارب تاريخية سابقة، ويضعها مقابل أنماط السرديات الممكنة في أزمنة ما-بعد الاستعمار، ليظهر كيف تتشكل سرديات محددة في هذا الزمن التقاطعي الإشكالي الذي يتميز بما يطرحه من “مشكلات خاصة”، وبقدرته على تحديد “الأسئلة التي تستحق أن تُسأل، ونوع الإجابات التي يبدو أنّها تستحق الإجابة”.[8] بتعبير آخر، يقدِّم سكوت هذه الفضاءات الإشكالية على أنَّها نمط خطابي محدد يتسم بالارتباك والتردد ويساهم في تشكيل ذوات سياسية ويضعف قدرتها على بناء تصورات مستقبلية. لهذا، فإنَّ تجربة المقاومة ليست ثورة للاستحواذ على السلطة، أو ثورة لإنشاء بديل سياسي عن السلطات القائمة، بل هي ممارسة للحرية من خلال إعلاء الفعل المقاوم نفسه، أي تغليب الممارسة على السرديات ذاتها التي تمهّد للممارسة. ولذا، تضطرب هذه التجربة في الإجابة عن أسئلة “ما العمل؟” بمعناها السياسي، أو في الإجابة على شكل العلاقة مع السلطة الفلسطينية، أو في تحديد الممكن سياسيًا من خلال استدعائها للفعل المقاوم.[9] بكلمات أخرى، لا تقدِّم تجربة المقاومة اليوم ادّعاءات سياسية كبرى، ولكنَّها تشكِّل حالة مشتبكة دون امتلاك أفق صريح للممكنات السياسية، فهي تقاتل على البنية المفاهيمية التي يُمكن لها أن تنشئ تلك المقومات في الدرجة الأولى، وتتّخذ من التجربة المباشرة العمليات والمطاردة والقتال والاشتباك والأسر- والثقة بالقدرة على إعادة إنتاج هذه التجربة أساسًا لثقتها بالمستقبل.[10]

 

تقدّم لنا الكرونولوجيا نظرة خاطفة على شكل الفدائي الجديد ونوعه، وما تفيد به تحديدًا هو أنّه ليس ثمّة خط ناظم اجتماعيً يمكن لنا البناء عليه في التقاط صورة الفدائي الجديد وإن توافر عنصر جيلي. أي إنَّ أية محاولة لتحديد طبقة اجتماعية ووضعها على أنّها الطبقة الثورية ستأتي بمعطيات متضاربة، بل وسيحضر الاستثناء في كل محاولة لبناء تجانس في شكل المقاتل الجديد. ولكن ما يجمع عليه الكثيرون في هذه الكرونولوجيا بالتحديد، هي القدرة على بناء خطاب موجَّه نحو التضحية المطلقة، أي تشكيل تكتلات تبني من جهة فضاءات سيادية، ومن جهة أخرى فضاءات قائمة على القدرة على إنتاج الفعل المقاوم والإقدام على التضحية.[11]  ولعلَّ ما يجعلها ثورية أنَّها لا تقوم بهذا ضمن مخيال سياسي موجَّه نحو المستقبل، بل تقوم بتلك التضحية في ظلّ تشظي هذا المخيال، أي إنَّها تضحية تتجاوز السرديات الكبرى وما تستدعيها من قوةِ التضحية لأجل مشروع سياسي- دولة، أو استعادة فلسطين أو غيرها.

 

نحن أمام مجموعة بشرية تقبل معادلة التضحية في ظلّ معرفتها المسبقة بأنَّ التضحية لا تعني بالضرورة أفقًا سياسيًا واضحَ المعالم، وهي تقدّم صورة لا تحوي داخلَها ما هو متصوّر. بهذا المعنى تحديداً، تكمن قوة الفدائي الجديد كذات معلّقة ومترنّحة بين الحياة والموت وتقاتل على إطالة أمد هذا الترنح. وبالتالي، فهي قوة متحررة من أدوات الهيمنة والسيطرة التي تسعى لبناء ذوات خاضعة، أو بالحدّ الأدنى ذوات ترضى بخضوعها.[12] في هذا السياق، نذكر المكالمة الهاتفية بين ضابط المخابرات الإسرائيلي والشهيد محمد الدخيل في بداية العام ٢٠٢٢ حين هدّد الضابط الشهيدَ الدخيل بالموت إن لم يسلّم نفسه لجهاز المخابرات الإسرائيلي، والذي بدوره لم  يرد عليه بتخبط، بل قال له بكل هدوء ” إحنا بنخافش الموت..يعني اتهدّدش بالموت”.[13] هذه هي اللحظة الثورية في الزمن الحالي، وهي لحظة يخط خلالها جيل جديدٌ هذه الاستعدادية وهذه الاستدارة نحو الموت في ظلّ تقاطعات زمنية تهاوى فيها جزء يسير من السرديات الكبرى وتهاوت معها مستقبليات هذه السرديات. وهنا تكمن ثورية، ولربما استثنائية، هذا الموت، لأنّه موت يفتح الممكنات والمستقبليات لكن دون أن يحدّد في بنيته الخطابية وداخله أيّ تصور عن الآتي (imageless image). أي إنّه يظهر احتمالات عدّة ولكن دون الإفصاح عن مضمون تلك الاحتمالات. ففي المكالمة الهاتفية، مثلاً، نجد ما يجعل الكرونولوجيا ممكنة، أي نجد ذاتًا فلسطينية لا تصلها رسالة الضابط. بمعنى أنّنا أمام مرسل لرسالةٍ لا تصل وجهَتها. لهذا لم يكن مستغرباً أنَّ الضابط ارتكز على قدرته الفعلية على إيصال الرصاصة إلى وجهتها حين فشلت اللغة، وكأنما الضابط كان يرسل رسالة إلى نفسه، أي كان يذكِّر نفسه بقدرته على القتل في ظلّ فشل اللغة.[14]

 

وهنا، علينا التوقف قليلاً للحديث عن المقاومة، وعن قوّة المقاومة في إحداث وتحقيق انقطاعات في صيرورة الزمن، ذلك أنّه في مفهوم المقاومة أيضاً مقاومةٌ لمفهمتها، خاصّة إن لم نضعها كردّ فعل أو كحالة تنتج فقط من خلال حضور سلطة المستعمِر، أي بكونها منتجًا استعماريًا.[15] فإذا كان المجال السياسي هو الفضاء الذي يتحدد فيه الحدّ، وبما أنّ المؤسسة الأمنية الاستعمارية وحلفاءها يراهنون على هذه القدرة على صياغة الحدّ وتمكينه وتحصينه بالمعنى المادي وعلى مستوى الوعي أيضًا، فإنّ للمقاومة كذلك محاولة لتعدّي وتجاوز هذا الحدّ، أي في إظهار وكشف اللا-محدود.[iv] ولهذا، يشكِّل الموت، تحديدًا، مدخلًا هامًا، لأنّهَ في الموت السياسي في فلسطين ما يظهر ويجسّد هذا اللا-محدود. ولهذا، أيضًا، نجد كرونولوجيا العام الماضي مليئة بمن تقبلوا احتمالات الموت ورهاناتها، ممّن يقاتل من جهة على البقاء، وممّن حوَّل الموت إلى احتمال قائم ومقبول. وهؤلاء من جعلوا من هذا التقبل إرادةً لخلق الفضاء السيادي على شاكلة بؤر تركيزية مقاتلة تسعى لإطالة أمدها وحضورها، أي إنّه فضاء يملك القدرة على إنتاج الفعل، وفضاء عصيّ على الدخول الاستعماري السلس، وهو فضاء يؤزم الفضاء الاجتماعي والاقتصادي المُحيط به.

 

وبمجرّد وجود هذه القدرة على عدم القابلية على استقبال رسالة المستعمِر، بل وبمجرد وجود رسالة يصدرها المستعمِر ولكنها لا تصل إلى المرسَل إليه لانعدام رغبته باستقبالها، يستدعي الموتُ الرصاصَ وتعيد آلة الحرب عملها. مرة أخرى، إن عدم تلقي الرسالة يعني أن الرسالة تحوَّلت إلى رسالة ذاتية يذكّر فيه المستعمِر نفسَه بقدرته على القتل. وهذا ما جعل من اللحظة الراهنة في فلسطين، وفي العام الماضي تحديدًا لحظة سياسية ثورية: أولًا لأنّها لحظة تكثيف التضحية في ظل تهاوي فحوى المخيلات الثورية خاصة بشقها المستقبلي، ولكنّها تقدّم صورة دون ما هو تصور فيها؛ وثانياً، لأنّ في تقبل احتمال الموت ورهانه تنشأ في الضفة فضاءات سيادية تمارس المقاومة وتتحدى ما هو خارجها، وتراهن على إطالة أمد التجربة الفورية والمباشرة. أيْ أمد حياة هذه الفضاءات والذوات المعلقة بين الحياة والموت.

 

التقاط تحرك المقاومة في الزمن

 

ورغم أهمية التشخيص السابق، إلا إنّ ذلك لا يفسّر نشأة المقاومة، أو نشأة هذه الاستدارة نحو موت يقبل رهان الموت ويرفض الموت في الوقت نفسه. وما يفسر هذه العملية ليس فقط حضور الاستعمار وتوغله وتوسعه، بل أيضًا تهاوي سردية الدولة التي وظفتها السلطة الفلسطينية منذ نهاية الانتفاضة الثانية، ما عنى تسارعًا في عملية الانفكاك والتحرر من قدرة السلطة على “الاستحواذ” و”الضم” الاقتصادي والإيديولوجي.[16] تلعب السلطة دورها بالاستحواذ وضمّ “البشر”، إي إنّها بناء اجتماعي موجه نحو إنتاج العجز السياسي من خلال بناء عُقد ربط متعددة اجتماعية وسياسية- كالوظيفة والنجاة المادية، والاستهلاك القائم على القروض، وتدفقات السوق- والتي تخدم إلحاق الكثرة الغالبية العددية من الفلسطينيين- بالقلة- بالنخب الحاكمة. بمعنى أنّنا أمام قوتين إحداهما “تستحوذ وتضمّ الأرض” (الاستعمار)، والأخرى تستحوذ وتضم البشر (السلطة).[17] لهذا، تحديدًا، لا يمكن فهم هذه الهبَّات والتمردات إلّا كانفلات وانفكاك عن قدرة السلطة على الضمّ والاستحواذ، وكتجاوز لسرديَّتها السياسية وأنماط تلك السردية التمثيلية. 

 

هناك شكلان للتمرد: أحدهما تمرد يهدف للوصول إلى السلطة، أي إنّه يقارع المؤسسات الحاكمة لأنّه يريد استبدالها، بمعنى أنه تمرُّد يملك تصوراً حول البديل السياسي ويحاول تحقيقه. والآخر، يرتبط بالقدرة على التحرر من المؤسسات القائمة وتجاوز بنائية تلك المؤسسات لأنماط تمثيلية وخطابية لا تعكس رؤية الذات الفلسطينية لنفسها بالمعنى الأخلاقي والسياسي. الشكل الأول للتمرد يعمل على مستوى تغيير الظرف الاجتماعي والسياسي الخارجي، بينما يعمل الشكل الآخر له على تجاوز تلك المؤسسات والتحرر منها ومن أنماطها التمثيلية والخطابية. وهذا ما ينسحب أيضًا على مفهمة الحرية في كل من الحالتيْن. ففي الحالة الأولى، الحرية هي نتاج الاستحواذ على السلطة، أي في تغيير الظرف الخارجي السياسي والاجتماعي. بينما في الحالة الثانية، فإنَّ الحرية تتجسّد في لحظة ظهور المقاوم والإصرار على التجربة الفورية والمباشرة، أي الإصرار على شكل آخر من العلاقات الاجتماعية خارج سطوة الدولة وقدرتها على خياطة شكل محدد من العلاقات الاجتماعية دون القابلية الكلية على الاستحواذ على السلطة.[18]

 

ما أعنيه تحديداً هنا أنَّ أنماط التمرد في الضفة الغربية تعمل على المستوى الثاني حتى الآن، إي إنَّها تشير إلى قدرة التجاوز وقوة التعدّي من خلال عملية انفكاك عن السلطة وخطابها السياسي والتمثيلي. وما تشير إليه الكرونولوجيا أنَّ قدرة الضمّ والاستحواذ لدى السلطة آخذة بالتآكل، وأنَّ قوة الانفكاك التي توجه الانفكاك نحو التضحية المطلقة، آخذة بالتصاعد. بتعبير آخر، إنَّ التجانس الخطابي والأيديولوجي، إنْ وجد، فهو فقط على مستوى الطبقة الحاكمة كطبقة تتفوّه وتنطق بإيقاع أقرب لأن يكون صدى لبعضها البعض. والتجانس، على مستوى الطبقة التي تدير البيروقراطية والسوق، يقابله تنوع ولا-تجانس اجتماعي إيديولوجي وسياسي اقتصادي على مستوى الطبقات الاجتماعية المختلفة التي تشكل المجتمع الفلسطيني ككل. وما يظهر اليوم بشكل جليّ أنَّ أنماط الخطاب السياسي والتمثيلي على مستوى النخب الحاكمة لا تستطيع ربط القاعدة غير-المتجانسة مع التجانس السياسي للطبقة الحاكمة. لهذا، نجد، على سبيل المثال وليس الحصر، تشكيلات عسكرية تخرج من القاعدة الاجتماعية التي وفّرت للسلطة شرعيتها التاريخية، وأقصد حركة فتح وأفرادًا من الأجهزة الأمنية، أو أبناءهم. بل ونجد أيضاً قدرة لدى حركات سياسية أخرى، خاصّة الجهاد الإسلامي، في اختراق وبناء ائتلافات واسعة تتجاوز الفصائلية الضيّقة في هذه التكتلات والطبقات الاجتماعية، لا سيّما في منطقتيْ جنين ونابلس.

 

أما التسارع في الانفكاك، فهو قائم على عوامل متعددة، منها: أولًا، استمرار المقاومة في جغرافيات فلسطينية خارج نفوذ السلطة، وبالتالي عودتها وارتداداتها في الضفة الغربية. وثانيًا، ارتباط التسارع في الانفكاك بالتحولات التي طرأت على المجتمع الاستعماري نفسه والذي يدفع نحو تحولات في شكل السلطة الفلسطينية وشخصيتها السياسية، كسلطة تنزع عن نفسها مسمّى الفلسطيني، أي تخلع رداء “الوطنية”، حتى لو كانت وطنية مردوعة، أو حتى لو كانت وطنية انتهازية توظف وطنيتها في بناء شرعية استمرار التعاون مع الاستعمار. وثالثًا، أنَّ هذا المقاومة تنشئ أيضًا في خضم معركة ارتبطت بالخصومات المالية والاقتصادية، أي إضعاف قوة السلطة الاقتصادية من خلال الحرب التي تخوضها دولة الاحتلال على مخصّصات الأسرى وعوائل الشهداء.

 

يشير هذا الانفكاك إلى موقع التوتّر الأساسي في الوقت الحالي، والذي يحمل معه بالضرورة قابلية ثورية. إنّه ذلك التوتر بين تهاوي “السردية” السياسية للسلطة القائمة في الضفة الغربية- بأن مشروعها مؤقت وموجه نحو بناء الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران العام ١٩٦٧- واستيطان يستدعي المواجهة، بل ومستوطن يقاتل حتى على شكل السلطة الرمزي. ولذا، فإنَّ هذا يعني أنَّ قدرة السلطة على الضمّ والاستحواذ الرمزي والإيديولوجي ترتكز اليوم على عاملين: الأول، استغلال الصدمة التاريخية المرتبطة بالمقاومة، كفعل سياسي لا يؤتي أكله بتعابيرها، ونشهد على ذلك  مستوى خطاب مكرر يقول إنَّ التعاون مع الاحتلال هدفه “حماية الفلسطيني” من آلة الحرب الإسرائيلية، أو ثانياً من خلال التركيز على التداخل البنيوي بين الاحتلال ووجود السلطة واستمراريتها بحيث يكون الخطاب موجهًا نحو كبت الرغبة العامة بالانفكاك عن السلطة من خلال التأكيد على ضرورتها المادية البحتة.[19] مرة أخرى، ما تشير إليه نشأة المقاومة وتصاعدها، بعيداً عن القوى التي مهّدت لها بالمعنى اللوجستي والدعم المالي والمعنوي، هو صلب المسألة المتجسّد في الانفكاك والرفض والتمرد القائم على التحلل والتحرر من التجانس الإيديولوجي للطبقة الحاكمة وقدرة الأخيرة على الاستحواذ وضمّ الكتل الاجتماعية والطبقية الأخرى على المستوى الرمزي، ولكن أيضاً على المستوى المادي المباشر.

 

حاولتُ هنا الإشارة إلى عمليتْين متوازيتيْن: العملية الأولى؛ هي استمرار الاستعمار والثنائيات التي ينتجها، وما يرافقه من انفكاك متصاعد عن إحدى تقنيات السيطرة والتحكم التي يمتلكها الضمّ والاستحواذ على البشر من خلال السلطة الفلسطينية- الأمر الذي وُلد كرونولوجيا العام الماضي 2022. وليس مستغرباً أن يكون شمال الضفة الغربية هو الموقع الأول لظهور عوارض التفكك، لما يملكه، أولاً، من فضاءات حضرية مكتظة قائمة على قوة الهوية المحلية التي تتجاوز التنافس والانتماءات الفصائلية من مخيمات وبلدات قديمة. وثانيًا لسياسات الإهمال والتهميش التي تعرض لها على حساب بناء وتوسع رام الله الحضري والاقتصادي. والعملية الثانية، هي انتقال جزء من الطبقة الوسطى المرتبطة بالوظائف الحكومية والعامة من شمال الضفة الغربية إلى رام الله، وبالتالي إخلاء النفوذ والحضور السياسي والاجتماعي للطبقة الوسطى المهنية في تلك المناطق. كما أنَّ التوسع الديمغرافي والتضييق المالي على السلطة أدّى إلى إضعاف قدرتها على التوظيف وخلق الشبكات الريَعيّة.[20] بمعنى أنّ مواقع التمرد نفسها تشير إلى تلك الفضاءات التي يضعف فيها حضور السلطة المالي والأيديولوجي. 

 

وفي ظلّ نشأة هذه المقاومة، كان الاحتلال يصوغ محاولات متعدّدة لفهم وبناء سبل للقضاء عليها. وقد أتى تصاعد عمليات إطلاق النار والفعل المقاوم إجمالًا ليضع المؤسسة الأمنية أمام ضرورة تطوير تكتيكات تدخل في معالجة هذه الحالة واحتوائها. وقد استقرّت الاستراتيجية على أربع تكتيكات أساسية.

 

التكتيك الأول مؤداه إغلاق المنافذ للداخل الفلسطيني، ونشر القوات في محيط جدار الضم ّوالتوسع في محاولة لمنع دخول منفذي العمليات إلى عمق المستعمرة الاولى الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨-، وبالتالي إعادة ترميم الحد والفصل المكاني بين عمق المستعمرة وأطرافها في مستوطنات نابلس وجنين وطولكرم وطوباس.[21] بهذا المعنى، وبمجرد حضور شبح المقاومة، ظهر مرة أخرى الحدّ الداخلي في المجتمع الصهيوني بين عمق المستعمرة خلف الجدار وبين استيطانها في الجهة المقابلة، بل وتم تعزيز هذا الحدّ رغم وجود المستوطن على جانبي الجدار.

 

أمّا التكتيك الثاني فيتمثّل في بناء تحليل استخباراتي مفصّل حول خطوط الإمداد من سلاح وتمويل، وحول الأفراد القائمين على المقاومة، وبنيتهم القيادية وشكل التموضع العسكري والتدريب والقدرة الإعلامية والسياسية التي يملكونها لإدارة المعركة مع الاحتلال. وقد اختارت المؤسسة الأمنية زيادة مدى وعمق الاعتقال في كافة أرجاء الضفة الغربية، خاصّةً على مستوى الكوادر والقيادات السياسية التي تنتمي إلى تيارات سياسية متنوعة تمتلك نزعة قتالية وثورية. فقد تمركز خوفها حول أن تكون نشأة الفضاءات السيادية في شمال الضفة الغربية مقدّمة لبناء إطار قيادي سياسي حولها، ولتوسع هذا النموذج في أرجاء الضفة الغربية. لهذا لم يشهد العام الماضي فقط زيادةً في عدد الأسرى المرتبطين بالفعل المقاوم المباشر، بل وأيضًا زيادة في الاعتقال الإداري الاحترازي والذي يحاول منع تطور وتعاظم الحالة السياسية في الضفة الغربية، بمعنى الحيلولة دون تشكيل قيادات بديلة عن قيادة السلطة الفلسطينية.[22] فقد أدّى ذلك إلى إضعاف قدرة الانفكاك عن السلطة والقابلية على تجاوز المؤسسات الرسمية، وبالتالي إلى عدم تحول ظاهرة المقاومة حتى الآن إلى نداء سياسي يقارع المؤسسة الفلسطينية الرسمية بشكل مباشر. أيْ التحول من التمرد كانفكاك وتحرر من المؤسسة إلى صيغة ثورية تسعى لاستبدال القائم سياسيًا.

 

بينما التكتيك الثالث فيتمثل في إيجاد استراتيجية تدخّل ناجعة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بحيث تبقي الضغط على هذه الفضاءات. وقد استقّرت على مزيج من توظيف أدوات تساهم في خلق وعي مكاني شبه كلي مرتبط بأدوات الرقابة، من قبيل: (استخدام التصوير الفضائي (3D)، وطائرات دون طيار، وأجهزة صوتية وتصويرية وأدوات اختراق للأجهزة التي يضعها أو يستخدمها الفلسطيني، والعنصر البشري)، وعلى توظيف الوحدات الخاصة ووحدات الدعم المموهة نسبيًا لمباغتة المقاومين في عمليات خاصة. وقد شهد العام الماضي العديد من العمليات التي وُظفت فيها وحدات خاصة على شاكلة “اليمام” و”المجدال” والمستعربين والتي توظّف أدوات التمويه أو التسلل خلف حدود العدو. ذلك أنَّ مردَّ نجاحها العملياتي هي أربع عوامل: وعي مكاني شبه شامل؛ قدرة على الوصول المفاجئ إلى الهدف؛ التمكُّن من الانسحاب الآمن عبر وحدات الدعم، ناهيك عن كثافة التدريب ووفرة الأدوات. 

 

وقد تكرر هذا المشهد في نابلس وجنين، مظهرًا، من ناحية، استقرار المؤسسة الأمنية الاسرائيلية على هذا النوع من التدخل الذي يهدف إلى استهداف قيادات المقاتلين ومفاصل مهمة في تشكيلاتهم التنظيمية. ومبقياً، من ناحية ثانية، الحالة الحوار التكتيكي بين المقاومة والاحتلال- في مستوى مواجهة لا تجرّ إلى اشتباك أوسع مع المجتمع الفلسطيني. بما يعني عزل حالة المقاومة اجتماعيًا. وكنتُ قد تناولت في مقالٍ آخر أهمية نابلس تحديدًا في هذا الصدد كونها تقع على تخوم البنية الاستيطانية.[23] ومن الجدير بالذكر هنا أنّه ورغم الارتكاز على هذا البعد التكتيكي، إلا إنّ النقاش في أروقة المؤسسة الأمنية ما زال يستحضر إمكانية توظيف القوة الجوية وأشكالًا أخرى من القوة النيرانية أو المدرعات في حال نجحت الفضاءات السيادية في إفشال عمل الوحدات الخاصة. فقد هدفت هذه الاستراتيجية العسكرية إلى الإبقاء على المواجهة داخلَ الفضاءات السيادية، بمعنى خوض المعركة في قلب هذه الفضاءات، والإصرار على دخول آمن لقواتها، ما يعني أيضاً المغالاة في عمليات القتل التي تطال كل من يقف عائقًا أمام آلة الحرب. وبكلمات أخرى، لم يكن المقاتل وحده هو المستهدف، بل الفضاء السيادي كلّه بوصفه كذلك.

 

وهنا، لا يمكن القفزعن التحليل الصهيوني الذي يرى في هذه المواجهة علامة على نشأة جيل لم يختبر آلة الحرب الصهيونية، وبالتالي، لا يُعد لها حساباً. أيْ لأهمية الذاكرة الاجتماعية الفلسطينية التي تسرد روايات البطولة في الانتفاضات والمواجهات التاريخية السابقة، ولكن تقفز عن سرد الألم من خلال تحويل الألم إلى صمت. بمعنى آخر، تضع المؤسسة الأمنية المواجهة على قاعدة ولادة جيل جديد لم يرتطم بجدار الاحتلال الحديدي بتعبير زئيف جابوتنسكي.[24] ولهذا، يشكل الإفراط في القتل محاولةً صهيونيةً للتذكير بقدرتها على فرض الموت، وكسب رهانها الخاص القائم على فكرة أنَّ كثافة الموت كفيلة بإيقاف اندفاع جيل جديد من المقاومين نحو المقاومة، بل وكسب معركة الألم مع جيل جديد من الفلسطينيين. ولهذا، نشهد في الضفة الغربية هذا الإفراط في القتل، كعملية موجَّهة نحو جيل جديد وهادفة في الأساس إلى التذكير بقدرة الاحتلال على إنفاذ الألم، أي إنتاج ذاكرة موت جديدة عند الفلسطيني.

 

وقد حاول التكتيك الرابع من المعركة التفاوضَ والانتزاعَ الرمزي للمقاومين- تحويل المقاوم إلى رجل أمن أو إلى شخصية تقبل المساهمة في إعادة ترميم شرعية السلطة الفلسطينية-  من خلال عروض مختلفة تسعى إلى إعادة إخراج المقاوم من هذا التموضع السيادي الموجَّه نحو تقبل إمكانية الموت، إلى موقع الطبقة الوسطى الفلسطينية التي تمتلك بيتًا وسيارة ووظيفة. فبدل أن يكون الانفكاك عن النظام السياسي والاجتماعي هو عنوان المرحلة السياسية والموقع المولّد للشرارة الثورية، كانت تتمحور المفاوضات التي دارت مع هذه المجموعات بشكل أساسي حول إعادة الربط والضمّ، والاستحواذ على الأفراد والفضاءات المشكَّلين لهذه الحالة، وبالتالي إلى الموت الرمزي لرهان الموت، الذي أعلنه الفدائي، ولفضائه السيادي الجديد.

 

وفي ظل هذه الاستراتيجية الإسرائيلية التي تجمع ما بين إنفاذ الألم، والتدخل التكتيكي العملياتي الحذر، والانتزاع الرمزي، تعمّقت أواصر العلاقة غير المباشرة بين الفضاءات السيادية المقاتلة وبين العمليات النوعية التي تحدث دون محركات تنظيمية حزبية توجّهها. وقد ظهر في العام الماضي العديد من تلك العمليات. ولعل في هذا ما يشير إلى أنَّ ثمة علاقة جدلية بين جميع الفضاءات المقاتلة في قطاع غزة وجنين ونابلس، وتصاعد أشكال المبادرة والإرادة للفعل المقاوم المفتقر لدعم تنظيمي مباشر. وقد أضحت هذه العمليات مصدر قلق أساسي للمؤسسة الأمنية الاسرائيلية، فهي من جهة تسعى لإبقاء المواجهة في حدود الفضاءات السيادية، ولكن من جهة أخرى تفشل في جعلها كذلك. فحتى بعد انتهاء عمليتها في جنين في السادس والعشرين من شهر كانون الثاني العام ٢٠٢٣، كانت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تستعد لرد فعل فلسطيني، ولكنها كانت تدرك أنَّ الرد قد يأتي ممن هو خارج رادارها الاستخباري، حتى تحققت نبوءة المؤسسة الأمنية في مستوطنة “نيڤي يعقوب” في القدس حين أقدم الشهيد خيري علقم على عملية إطلاق نار أدت إلى مقتل ٧ مستوطنين.

 

بمعنى آخر، استطاعت الضفة الغربية بناء فضاءات سيادية قبلت برهان الموت، ورفضت وصول رسالة المستعمر إلى أذنيها. وهي فضاءات تتحدى أيضًا تهاوي السرديات الكبرى، وإنْ كان تشكّلها أيضًا نتاجاً لهذا التهاوي من خلال التمسك بسرديات كبرى ترتبط بالشهادة، وما تعنيه الشهادة من قدرة على استنطاق الحقيقة من أفواه الأحياء، ومن السعي إلى بناء ذات أخلاقية ترضي الله. وفي الوقت نفسه، حققت معادلةً تمزج بين التموضع الدفاعي والقدرة الهجومية، في عمليات خاطفة تتجاوز قدرة المستعمِر الرقابية الكليّة. وبطبيعة الحال، تشكل هذه الحالة دعوةً لتوضيح المفاهيم مرة أخرى. وما أعنيه هنا تحديداً أنَّ عمق المسألة التي تقاتل عليها هذه التشكيلات هو توضيح المفاهيم وتحديد فحوى الأفق السياسي الممكن. ولذا، ورغم كثافة الموت في العام الماضي، ورغم ما يطلق عليه عبد الباسط خلف، “عام صعب مليء بالأحداث”، فنحن أمام كرونولوجيا تستدعي صورة مستقبلية دون ما هو متصوَّر حتى الآن، تبنى احتمالات دون أن توضحها. والأهم من ذلك كلّه أنّها تعلي من شأن التجربة الفورية والمباشرة، أي تلك التجربة التي يقول عنها باتاي إنّها سيادية لأن صاحب السيادة هو في الواقع القادر على الاستمتاع بالوقت واللحظة الحالية دون التلفّت إلى أي شيء آخر غير هذا الوقت وهذه اللحظة. وهذه طبيعة المقاومة في لحظتنا أيضًا، أي أنَّ قدرتها على اجتراح فضاءات سيادية مرتبطة أساسًا بقدرة المقاومين على إعلاء تجربة الحرية (الفورية والمباشرة) وإطالتها قدر الإمكان في ظل معرفة مسبقة ولكنّها معلقة حول لقاء قادم مع الموت.