عاد الهتاف الفلسطيني في باب الأسباط هتافاً حيّاً فاعلاً وسلاحاً نفسيّاً مهماً، يرفع من الروح المعنوية للمعتصمين من جهةٍ، وقادرٌ على التأثير في نفسيّة العدوّ من جهةٍ أخرى.
الجزء الأول، هنا.
(9)
تحوّل باب الاسباط إلى ساحة المواجهة الأساسية، ومنذ الأيام الأولى بدأت الأمور تأخذ طابعاً شبه مُنظم، يُمكن ملاحظة أثره دون مشاهدة من يقوم به. كانت العائلات والعشائر المقدسية قد بادرت إلى الدعوة للاعتصام باب الاسباط، برز منها أهالي العيسوية وجبل المكبر. ومن العائلات مَن أعلن أنه سيتبرأ من أي فردٍ من العائلة في حال دَخَلَ الأقصى عبر البوابات الالكترونية. وعلى صعيد مشابه، تعددت المبادرات الفردية والجماعية لتوفير الماء البارد والطعام وغيرها من احتياجات المعتصمين.
ومن المهم الإشارة هنا إلى “شريحة تجار البلدة القديمة”، والتي عادة ما تتحسب من تضررها من حالة “عدم الاستقرار”، فإنها في هذه المرة استفادت من الحراك الاحتجاجي الجماهيري، وذلك بسبب الأعداد الضخمة التي تجمعت في البلدة القديمة، مما أدى إلى تنشيط الحركة التجارية، وكذلك بسبب التعاقد مع الكثير من التجار من قبل العائلات والأفراد لتوفير احتياجات المعتصمين. كما أن دخول الأقصى بأعداد كبيرة أيام الخميس والجمعة والسبت بالذات (27 -29 تموز) أدى إلى إنعاش العديد من المحلات المجاورة للأقصى أو تلك التي تقع في طريقه.
وشريحة التجار من الشرائح القلقة وطنياً؛ يتعامل معها العدوّ في كثير من الأحيان كوسيط لقمع الفعل الوطني، وإن كانت تخضع للقمع هي ذاتها. وقد تعالت بعض الأصوات من هذه الشريحة بالاحتجاج والتشكيك بعملية باب العامود في رمضان الأخير (ثلاثي دير أبو مشعل) مُعتبرة أن العملية مريبة في توقيتها، وأنها جاءت لضرب الحركة التجارية النشطة في رمضان.
(10)
أطلق المصلّون على صلاة الجماعة على طول طريق المجاهدين، بدءاً من منطقة داخل باب الأسباط إلى خارجه حيث شارع أريحا التاريخي، اسم “صلاة النكاية” و”صلاة الجكر”، حيث جمعت الصلاة بين البعد الديني وبين البعد السياسي الاحتجاجي والمتحدّي لقوات الاحتلال. وينطبق ذلك على وجه الخصوص على صلاتي المغرب والعشاء على إسفلت شارع أريحا القديم (نزلة الجثمانية)، وما يترتب على ذلك من إغلاق للشارع، وتعمد إطالة هذا الإغلاق بإطالة الصلاة وخاصّة الدعاء.
وقد واجه العدوّ معضلة في التحكم في ساحة الصلاة سواء خارج باب الاسباط أو داخله، حيث كان التجمع الكثيف داخل باب الأسباط يضع كتلةً بشريةً هائلةً من المصلين بالقرب من البوابات الالكترونية المنصوبة على مدخل الأقصى، وكان هنالك تخوفٌ حقيقيٌ من أن يتوّجه المصلون إلى إزالتها بالقوة.
أما وجود الناس خارج باب الأسباط فكان يعني إغلاق الشارع العام، وفي البداية لم يتسامح العدوّ مع إغلاق الشارع، وكان يفضّ المعتصمين بالقوّة ويمنعهم من إقامة الصلاة على الشارع، إلا أنه عاود واستسلم لوجودهم في الأيام الأخيرة، وخاصة الأسبوع الثاني من الاعتصام. وقد شكّل إغلاقُ الشارع كسراً لإحدى الخطوط الحمراء في عقيدة الشرطة القمعية، والتي تقوم على ضرورة الحفاظ على كل محاور الطرقات مفتوحة، خاصّة أن هذا الطريق هو مسلك الحافلات الصهيونية في طريقها لنقل المستوطنين إلى حائط البراق.
(11)
شكّل باب الأسباط طيلة أيام الاعتصام الاثني عشر معسكراً للتربية الوطنية الحيّة، وخاصةً عبر أداة الهتاف والأناشيد. ويمكن القول إنّ الهتاف والأغاني والأناشيد الدينية والوطنية تغلبت على الخطابات في وظيفتها الثورية، بل عمد مطلقو الهتافات إلى التغطية على الخطابات كتعبير عن عدم رضاهم عن فحواها في بعض الأحيان.
وكانت هذه الخطابات على نوعين: خطابات من قبل أبناء حزب التحرير، المعروف عنه انكفاؤه عن المشاركة في النضال الوطني، والذين حاولوا استثمار التجمع لنشر أفكارهم السياسية والدينية. أما النوع الثاني من الخطابات هو الخطاب الدعوي التاريخي الذي يتحدث عن المسجد الأقصى وأهميته، وعن ضرورة الصبر والتكاتف، وغاب الخطاب السياسي الذي يشرح طبيعة المعركة وأفقها، أو دون أن يطرح تحليلاً للتغييرات على الميدان، وتغير الموقف تباعاً. ومن المهم أن نذكر، أن الدعوة “للحفاظ على الهدوء” تكررت بشكل لافت من قبل الخطباء، ، وهذا مفهومٌ إلى حدٍ ما كإجراء تنظيمي، ولكن في المقابل، كان من المهم على الصعيد التكتيكي إعطاء العدوّ صورة بأن الأمور قد تخرج عن السيطرة في أية لحظة.
في مقابل تلك الخطابات ساهمت المجاميع الشبابية عبر الهتاف والأناشيد، ومنذ اليوم الأول (الأحد 16 تموز) في خلق هوية ميدانية نضالية، تعطي العدوّ انطباعاً بالعناد والاستعداد للمواجهة والتضحية والنفس الطويل. وكانت الهتافات والصوت العالي يترافق مع نظرات مباشرة في أعين الجنود.
كان الصوت سلاحاً أساسياً في هذه المواجهة، الهتاف والتكبير من جهة المعتصمين، وقنابل الصوت عند الصهاينة. وكان واضحاً بأن المخابرات الصهيونية قد خصصت مراقباً، يقف على زاوية مقبرة باب الرحمة، مهتمه متابعة المبادرين بإطلاق الهتافات. (أحد الشبان بادر إلى تصوير ذلك الجندي الذي يُصوّر، إلى أن ارتبك ذلك الجندي وتوقف عن التصوير،” إنت بتصوّر واحنا بنصوّر كمان”).
عاد الهتاف الفلسطيني في باب الأسباط هتافاً حيّاً فاعلاً وسلاحاً نفسيّاً مهماً، يرفع من الروح المعنوية للمعتصمين من جهةٍ، وقادرٌ على التأثير في نفسيّة العدوّ من جهةٍ أخرى. وعدا عن الطابع المرح وجو الفرح الذي كانت تنشره الأناشيد والهتافات بين المعتصمين، فإن الهتاف كان كذلك تعبيراً عن موقف الجماهير بشأن المتغيرات. على سبيل المثال، كان الهتاف الطاغي في بداية الاعتصام “الثبات، الثبات، لا لا للبوابات”، وعندما أزيلت البوابات الالكترونية، تغيّر الهتاف ليصبح “الثبات، الثبات، لا لا للكاميرات”.
ولا يمكن هنا أن نغفل العفوية والتلقائية في ولادة الهتاف ليتناسب مع أي حدث طارىء، وقد بدا ذلك جليّاً في المواجهة الكبرى على فتح باب حطة عصر الخميس 27 تموز 2017. أشيع قبيل صلاة الظهر من ذلك اليوم أن شرطة الاحتلال منعت حراس المسجد الأقصى من فتح باب حطة، قائلة لهم “بالاحلام يفتح الباب”. بعد ما يقارب ساعتين من هذا الخبر، كانت الجموع تقف أمام باب حطة، دون انتظار رأي أي من “مرجعيات”، تهتف: “ما في دخول وما في دخول، وباب حطة لسة مقفول”، وفي هتاف آخر: “بالطول بالعرض، باب حطة يهزّ الأرض”.
(ما بين ظهر الخميس وقبيل العصر، “غابت” المرجعيات وتعذر التواصل معها، وسرت حالة من البلبلة حول الوضع في باب حُطة، وخاصة أن بعض المرجعيات كانت تقف عل باب الأسباط ومستعدة للدخول منه عصراً، وتأجيل مسألة فتح باب حُطة. إلى أن علا الهتاف الشبابي من كراج الأوقاف باتجاه هذه المرجعيات” ارجع… ارجع… ارجع ” وأعلن أن لا دخول للأقصى إلّا من باب حُطة. لقد كانت تجربة إغلاق باب المغاربة حاضرة وبقوة في الأذهان، وضرورة عدم السماح بتكرارها).
(13)
عادة ما تترافق مع جولات المواجهة على الأقصى، التحذيرات بأن “إسرائيل” تسعى إلى تحويل الصراع الوطني إلى صراع ديني، وأن هذا التحويل في هذه الظروف له خطورته المضاعفة من ناحية مسعى “إسرائيل” إلى قبولها كدولة يهودية. وهذه التحذيرات يمكن تفهمها، ولكنها في كثير الأحيان تعبر عن استعمار للعقل، فهي لا ترى الذات الفلسطينية وهويتها إلا انعكاساً (ردة فعل لما تقوم به “إسرائيل”)، كما لو أن هويتنا هي دائماً ردة فعل على هوية العدوّ.
وإن كانت هذه الحالة يمكن ملاحظتها عند بعض الإسلاميين الذين يشرعنون للحرب الدينية العقيدية بالآخر الصهيوني وأفعاله. ولكن هذه المحاذير لا يجب أن تعمي أعيننا عن الدين كمكوّن وفاعل أساسي في المجتمع بشكل عام، وفي الهوية الوطنية الفلسطينية بشكلٍ خاصٍّ، ولا يجوز أن نقفز عن البعد الديني في الصراع بمراهقة فكرية. إنّ رؤية الدين كأيديولوجيا مقابل أيدلوجيات علمانية لهي عائقٌ أمام فهم أكثر عمقاً وواقعيةً للدين، وخاصة في حالة الصراعات، فإن الدين يُقدّمُ معجماً لغوياً جاهزاً وواسعَ الانتشار، ذا قدرة هائلة على خلق حالة من الوحدة العاطفية الفاعلة.