«نحنُ كارهون لهذا العمل، ولكن، لا فرصة متاحة أمامنا، لا خيار آخر، ما من شيء في أيدينا، خلقت «إسرائيل» منّا، حين احتلّتنا، قوّة عمل رخيصة، هم يعرفون هذا، ونحن نعرفه أيضاً».

«وبالنسبة إلى أناس مثل فضيلة، إنّ الإحساس بأنّك مرغم على العمل على الأرض التي نُهبت من عائلتك، بل العمل من أجل تحقيق مكاسب لمن احتلّوا تلك الأرض، هو أقصى درجات إذلال الاحتلال لهم».

«أنا أعمل في أرضي [المنهوبة]، هل يمكن أن تصدّق أنّ هذا هو وضعنا؟.. نحن، كثير منّا، نعمل في أراض نُهبت من عائلاتنا، من قرانا. أراض نُهبت على يد المستوطنين أو بسبب الجدار [العازل]، يُغرقني هذا الأمر في الخزي ..»

«الخزي ثيمة مطروقة دائماً لدى العُمّال الفلسطينيّين، بل على نحو أكثر لدى من يعملون في أراض نُهبت من قراهم… أعملُ في أرض أعرف أنها نُهبت من عائلتي، وكذلك في أراضٍ أعرف أنها نُهبت من عائلات أعرفها – الشعور رهيب».

يقدّم هذا المقال مراجعةً للكتاب المعنوَن «تشغيل العدوّ: قصّة العمّال الفلسطينيّين في المستوطنات الإسرائيليّة»، للصحفيّ الاسكتلنديّ «ماثيو فكري»، والذي صدر عام 2017 بالإنجليزية وترجمه إلى العربيّة يزن الحاج في عام 2021. 

يتطرّق المؤلف في كتابه إلى أكثر المواضيع التي تتغنّى بها دولة الاحتلال أمام العالم؛ حجم العمالة الفلسطينيّة لديها، حيث تسعى لاستعراض فرص العمل الكبيرة والعديدة التي توفّرها للفلسطينيّين سواءً في الأراضي المحتلّة عام 1967 أو في الأراضي المحتلّة عام 1948. يتناول الكتاب حيثيّات العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الصهيوني، بما في ذلك ظروفها وقوانينها وواقعها، فيدرك المرء أنّ هذه العمالة ما هي إلا «نظام استغلال ذكيّ، خُطّط له وطُبّق على نحو واسع مع مرور السنوات».

 في طرحه لهذا الموضوع، يقسّم الباحث كتابه إلى فصلين رئيسين، وهما «تشغيل العدوّ» و«استغلال العدوّ»، مستعرضاً خلالهما شواهد متعدّدة على الانتهاكات «الإسرائيليّة» والتمييز العنصريّ الذي يفرض نفسه واقعاً في هذه الأعمال.

أوّلاً، يتحدّث الكاتب عن انعدام خيارات قطاع كبير من سكان الضفّة الغربيّة، واضطرارهم إلى العمل في المستوطنات المقامة على الأراضي المحتلّة عام 1967 أو ما يسمّى بـ «الداخل» الفلسطينيّ المحتلّ. ويشير مراراً إلى أنّ سبب انعدام الخيارات لا يعود فقط إلى عجز السلطة الفلسطينيّة عن خلق فرص عملٍ جديرة ودفع مستحقّات ماليّة كافية، بل أيضاً إلى سياسة الاحتلال المتعمّدة لسلب هذه الخيارات واحداً تلو الآخر، حتّى يضطرّ الفلسطينيّ إلى [قبول] عمل ذليل لا يصل فيه أجره إلى الحدّ الأدنى من الأجور بحسب القانون «الإسرائيليّ».

يقع الاقتصاد الفلسطينيّ في قبضة نظيره «الإسرائيليّ،» فيُمنع الفلسطينيّ في المنطقة «ج» من بدء عملٍ يخصّه، أو بناء منشآت اقتصاديّة مستقلّة، أو تملّك أراضٍ زراعيّة يعمل فيها، هذا عدا عن سيطرة الاحتلال على الموارد الأصل فيها كالأرض والمياه. يُضاف إلى ذلك هدم الاحتلال المتكرّر للمنشآت والدور والمباني عبر استخدام حجج وذرائع مختلفة ، في سياسة تهدف إلى سلب الفلسطينيّ الحقّ في العمل لحسابه الخاصّ.

أمّا خيار العمل في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة الواقعة تحت إدارة السلطة الفلسطينيّة، فغالباً ما يكون غير ناجع، خاصةً إذا تطلب التنقّل بين القرى والمدن. ويعود ذلك إلى التضييقات العسكريّة المتواصلة والتأخير المتعمّد في فتح الحواجز، والإغلاقات المستمرّة للطرق، سواءً بشكل عشوائي أو نتيجة لأعمال المقاومة بين الحين والآخر، بالإضافة إلى الأزمات المروريّة التي تنتج عن سياسات الاحتلال والتنقل بين المناطق الفلسطينيّة التي يخترقها الجدار العازل.

وعندما تُسلب الإمكانيّات والخيارات الأخرى، يجد عدد كبير من العمّال الفلسطينيّين أنفسهم متّجهين إلى المستوطنات القريبة للبحث عن عمل، أو تقديم طلبات تصاريح للعمل في «الداخل المحتلّ».

من هنا، ينتقل الكاتب إلى الحديث عن ظروف العمل في مستوطنات الضفة الغربية، والتي تشغّل قطاعاً كبيراً من العمّال الفلسطينيّين، بالإضافة إلى عدد كبير من الأطفال المضطرّين للعمل. وبسبب إحجام معظم «الإسرائيليّين» عن الأعمال اليدويّة في المزارع والخدمات والبناء، يشغل الفلسطينيّون هذه الوظائف، على الرغم من منعهم من العمل في قطاعات أخرى. 

اقرأ/ي أيضاً على باب الواد:
سياسة تشغيل العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الصهيوني (1967-1969)

 

وبالنسبة لأجور العمل، فغالباً ما تكون أقلّ من الحدّ الأدنى المقرّر في قانون العمل «الإسرائيليّ»، خاصّة في مستوطنات الضفة الغربية. ويفتقر العاملون فيها إلى عقود العمل والحقوق المدنيّة، بما فيها الحقّ في الاعتراض على سياسات العمل الجائرة. وفي المصانع والمنشآت التي تضمّ عمّالاً فلسطينيّين و«إسرائيليّين» سويّة، يتقاضى «الإسرائيليّ» ضعف أجر الفلسطينيّ. وعلى الرغم من محاولاتهم العديدة لتحسين ظروفهم وأجورهم، يقابَل اعتراض الفلسطينيّين بالطرد أو الوضع على اللائحة السوداء، أيّ يُمنع الفلسطينيّ المعترِض من العمل ثانية، وعادةً ما يشمل القرار أفراد عائلته أيضاً.

وفي حديثه عن عمل الأطفال في المستوطنات، يتناول الكاتب تشغيل المستوطنات لأطفالٍ في عمر الخامسة عشر والرابعة عشر وحتّى الحادية عشر، في ظلّ انعدام قانون «إسرائيليّ» يُجرّم ذلك، وسلب العائلات الفلسطينيّة خياراتها في العيش، بالتالي إرغامها على إرسال أطفالها إلى العمل في سنّ مبكرة. فيقول يزن ذي الخامسة عشر عاماً، والذي بدأ العمل في المستوطنات في الرابعة عشر من عمره:

«لا أملك خياراً سوى العمل هناك .. وأعرف أنّ عليهم أن يدفعوا أكثر، وأعرف أنّ هذا مخالف للقانون، حاولتُ طلب زيادة أجر، ولكنّ المستوطن رفض، رفض ببساطة وقال ’هذا ما سأدفعه لك، ابقَ لو أحببت، أو اترك العمل‘، ماذا بوسعي أن أفعل؟ .. لا أشعر بالارتياح في العمل هناك .. تعرف، أحياناً يأتي المستوطنون لمجرّد أن يصيحوا في وجوهنا بشأن العمل، وأحياناً قد يطرد المستوطنُ الناس لمجرد أن يُظهر بأنّه غاضب، ودائماً ما يصيحون بشتائم، لا يمكن لي أن أقولها، يسبُّون طوال الوقت، وبما أنّنا مُسلمون، دائماً يعمد المستوطن إلى سبِّ ديني».

يتناول الكتاب أيضاً الظروف الخطرة التي تحيط بالعمّال والأطفال في المستوطنات، حيث يتعرّضون إلى المخاطر بشكلٍ مباشر دون وجود وسائل الحماية الكفاية، مثل عند استخدام المبيدات الحشريّة، فضلاً عن العمل المرهق والمتواصل الذي يسبّب لهم مشاكل صحّية عديدة. أمّا إصابات العمل، فعادةً ما يتنصّل من مسؤوليتها أصحاب العمل المستوطنون ويكتفون بإعادة العامل إلى بيته أو إرساله إلى المستشفيات الفلسطينيّة، والتي تعاني أصلاً من نقص في الأدوات والمواد والقدرة على العلاج، يقول زكريا:

«الشهر الماضي دهس الجرّار قدمي .. كان على أبي أن ينقلني إلى المشفى، ولم يكترث صاحب العمل، اكتفى بالقول لي إنّه بإمكاني أن ‘أتلفن’ لأبي، لكي يرافقني إلى هناك، واضطرّت عائلتي لدفع أجور المشفى كاملة».

يتابع الكاتب الحديث قائلاً «كُسرت قدم زكريا بسبب هذا الحادث، وأعطاه صاحب العمل 70 «شيكل» يوميّاً طوال الأسبوعين اللذين قضاهما في نقاهة، وهو الأجر ذاته الذي يتقاضاه لقاء يوم عملٍ كامل في المزرعة، وهو أقل بـ15 «شيكل» في الساعة من الأجر الأدنى قانونيّاً، كما هو حال كلّ العمّال الفلسطينيّين في المستوطنات تقريباً. يقول المراهق إنّ التأمين الصحّي ليس جزءاً من عقد عمله، وليس خياراً مطروحاً أساساً. فالعقد الوحيد الذي يملكه، مثل محمّد ابن السادسة عشرة الذي يعمل لحساب صاحب العمل نفسه، هو مجرّد قصاصة ورق، أعطوه إيّاها حين بدأ عمله – حين كان لا يزال في الثالثة عشرة وحسب – والتي تنصُّ على أنّه وافق على ألَّا تسمح له المطالبة بتعويض في حال طرده من العمل، أو إصابته خلال العمل. ولم يُسمح له البدء بالعمل قبل توقيع تلك الورقة». 

وعندما قيل لزكريا إنّ الحد الأدنى للأجور هو 25 «شيكل» للساعة، في الوقت الذي يتقاضى فيه أقلّ من عشرة «شواكل»، لمعت عيناه لسماع المبلغ، في حين ردّد صوته «أشعر أنّ المزرعة استهلكتني».

يتناول الكتاب أيضاً قضيّة السماسرة الفلسطينيّين الذين يُعدّون جزءاً من هذا المشهد وحلقة الوصل بين العامل الذي يطلب التصريح والجهات «الإسرائيليّة» التي تمنحه، فيوفّرون الأيدي العاملة لأصحاب العمل، ويساهمون في الضغط على العمّال ومنعهم من المطالبة بحقوقهم، ملوِّحين باستمرار لإمكانيّة استبدالهم في أيّ يوم. فيقول الكاتب «لا تدوَّن أجور السماسرة على السجلّات، وتبدو أجور العمّال قانونيّة، ولكن، فيما يلاقي العمّال إجحافاً كبيراً في أجورهم، يعود السمسار إلى بيته بجيبٍ مليء. وبذلك يبدو مشروع صاحب العمل فوق الشبهات».

يسرد الكاتب العديد من شهادات العمّال حول التمييز وظروف العمل المهينة والمذلّة، ويتناول أيضاً نظرة المجتمع الفلسطينيّ إليهم، المتراوحة ما بين التعاطف معهم لكونهم مضطرّين لذلك وبين تخوينهم. يقول خالد:

«حينما أصل إلى نقطة التفتيش قبل دخول المستوطنة للعمل، يعاملنا «الإسرائيليّون» هناك كما لو كنّا حيوانات. يرغموننا على الوقوف لساعات في انتظار السماح لنا بالدخول، يصوِّب الجنود أسلحتهم نحونا، كما لو كنّا مجرمين. ويفعل المستوطنون هذا أيضاً حينما نكون في العمل. هم يكرهون الشعب الفلسطينيّ، ولكنّهم يريدون منّا أن نعمل هناك، بحيث نبني بيوتهم لقاء أجر بخس، ولكن، حالما ننتهي من العمل، نُطرد مباشرة.. أكره هذا العمل، وأعرف أنّ هناك أناساً يرونني خائناً لأنّني أعمل هناك – وأتفهّم هذا، بل وأتّفق معهم أيضاً، ولكن، ليس لديّ خيار آخر، أنا مُرغم على هذا العمل».

ويتابع الكاتب الحديث عن السياسات «الإسرائيليّة» الممنهجة لخلق فائض من العمّال دائماً، والحفاظ على حالة يُسلب فيها الفلسطينيّ أيّ خيار آخر سوى العمل في المستوطنات، بأجرٍ زهيد لا يُمكّنه من الاستقلال لاحقاً. ووسط حالة الطرد المستمرّ والاستبدال، وكثرة أعداد المستعدّين للعمل بأيّ أجر، لا توصيف لهذه الحالة سوى العمل القسريّ والانتهاك الكامل لحقوق الإنسان؛ بعد امتهان كرامته واستغلال حاجته لإطعام عائلته لإذلاله ومنحه فتات ما يستحقّه.

أخيراً، يتناول الكاتب التسهيلات التي تقدّمها الحكومة «الإسرائيليّة» لأصحاب العمل في مستوطنات الأراضي المحتلّة عام 1967، مقارنةً بنظرائهم في الأراضي المحتلّة عام 1948، وذلك لدورهم وإسهامهم في إبقاء الوضع الراهن وفي تعزيز حالة الذل والمهانة التي يتعرّض لها الشباب الفلسطينيّ عند بحثهم عن فرص عمل في السوق «الإسرائيلي». بالمقابل، يتناول الكاتب التقييدات الاقتصاديّة الشديدة التي يتمّ فرضها على الفلسطينيّين العاملين في مدنهم وقراهم، بما تشمل تقييد الصادرات وتأخيرها والتحكّم بموارد الأرض وقوانين السوق، بحيث باتت السلطة الفلسطينيّة معتمدةً بشكل كبير على المساعدات الخارجيّة، والتي تقدّمها دول لها مصلحة في إبقاء الحالة الراهنة، وتجاهل المشكلة الحقيقيّة. في الختام، توصي كاتبة هذا المقال كلّ فلسطيني بالاطّلاع على هذه الدراسة لأهمّيتها.