النص التالي جزء من رسالة الدكتوراة التي تتناول اللحظات الحاسمة التي تشكلت فيها السيطرة الاستعمارية الصهيونية على الضفة الغربية (بما فيها القدس) وقطاع غزة في السنوات الأولى التي أعقبت حرب 1967 وحققت فيها ذروة قوتها ونفوذها. تقدّم الدراسة ما يمكن اعتباره أوّل تحليلٍ من نوعه لهذه الفترة، مع التركيز على السياسة والتخطيط والممارسة الاحتلالية فيما يتعلق بالمجتمع الفلسطيني في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك التوظيف والزراعة والتجارة وما شابه ذلك.

يتتبّع المقال تشكيل الكيان الصهيوني لسياساته العمالية تجاه الفلسطينيين في الأراضي المحتلة (الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة) في أعقاب حرب 1967 والتي تسمى صهيونياً بـ «حرب الأيام الستة» ويوضّح علاقة هذه السياسات بقضايا الأمن القومي والاقتصاد السياسي والديموغرافيا.

ففي أعقاب الحرب والاحتلال، حاولت «إسرائيل» تحقيق التوازن بين هدفين متعارضين: تثبيت نظامها العسكري الجديد في الأراضي المحتلة، وتشجيع الهجرة العربية منها، في إطار التكيّف الديمغرافي وتحقيقاً لشعار «أرض أكثر عرب أقل». وبينما تطلّب الهدف الأول خفض معدلات البطالة بين الفلسطينيين في محاولةٍ لتخفيف الاحتقان ونزع فتيل «ثورة جياع»، استند الهدف الثاني إلى معدلات البطالة المرتفعة التي تدفع للمغادرة إلى خارج حدود فلسطين التاريخية.

بعد مرور عامٍ على الحكم العسكري الصهيوني للضفة الغربية وقطاع غزة، اقترح وزير الحرب «موشيه ديان» تشكيل وسيلةٍ جديدةٍ وفعّالة للسيطرة على الفلسطينيين: قبولهم في «إسرائيل» كعمّال، وتطوير علاقة تبعيّةٍ معهم. وفي حين أيّد العديد من أعضاء الحكومة رأي «دايان»، والذي يعتمد في الغالب على اعتباراتٍ اقتصاديّة، أشار المعارضون إلى تناقضها مع المصالح القومية الأُخرى.

أدّى النقاش الحكومي حول هذا الموضوع إلى إيجاد حلٍّ وسط بين الأطراف: ستعمل «إسرائيل» على تطوير المناطق المحتلّة عام 1967 وزيادة فرص العمل فيها، بينما تسمح في نفس الوقت بدخول العمّال الفلسطينيين إلى «إسرائيل». وإلى حدٍّ كبير، كانت السياسة المقرّة أكثر انسجاماً مع مطالب «ديّان» وشركائه من خصومه في الحكومة. ومع ذلك، فقد تضمّنت سماتٍ مهمّة اقترحها معارضو «ديّان»، وهي: حماية العمّال اليهود من المنافسة العربية وتأمين المصالح الديموغرافية لـ «إسرائيل».

تُحلّل هذه المقالة مسارات هذه العملية استناداً إلى موادّ أرشيفية، حيث تسلط الضوء على كيفية تشكيل «إسرائيل» لنظام سيطرتها الفعّالة والمستقرّة على الفلسطينيين.

نشر النص في العدد 35-2021 من مجلة الدراسات وهي مجلة علمية متعددة التخصصات ينشرها معهد بن غوريون لدراسة إسرائيل والصهيونية. [1]

***** 

المقدّمة

كانت إحدى النتائج المهمة لحرب الأيام الستة هي السماح لسكّان الضفة الغربية وقطاع غزة بالعمل في «إسرائيل». في عام 1973، أيّ بعد ست سنواتٍ فقط من نهاية الحرب، كان أكثر من ثلث العاملين في الأراضي المحتلّة [عام 1967]، أيّ حوالي 65 ألف شخص، يعملون في الاقتصاد «الإسرائيلي»، خاصةً في الأعمال اليدوية في البناء والزراعة. في تلك السنوات، ازدهرت «إسرائيل» اقتصادياً، وانعكس هذا الازدهار بمعدل نموٍ بلغ 10٪ من الناتج المحلي سنويّاً.

 غالباً ما يُوصف العمّال الفلسطينيون في الأراضي المحتلة [عام 1967]، والذين ظل وجودهم بارزاً في «إسرائيل» منذ حوالي عقدين من الزمن، على أنّهم «حطّابون وسقاة ماء». ونتيجةً لذلك، يُطرح السؤال: لماذا، بعد فترةٍ وجيزةٍ من احتلالها العسكري، منحتهم «إسرائيل» الكثير من تصاريح الدخول للعمل، ولماذا اقتصر ذلك على العمل اليدوي؟

تناولت الأدبيات الأنثروبولوجية والاقتصادية حول المجتمع الفلسطيني في السبعينيّات والثمانينيّات نتائج السياسة الاقتصادية «الإسرائيلية» في «المناطق» بشكلٍ مكثّف. [2] وبناءً على مقابلات، تُظهر هذه الأدبيات بشكلٍ أساسيّ تأثير فتح سوق العمل «الإسرائيلي» أمام الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة [عام 1967]، بالتوازي مع إعاقة التنمية الاقتصادية فيها والتبعيّة الاقتصاديّة التامة للإدارة العسكرية والاقتصاد «الإسرائيلي» المتنامي. وقد تسبّب ذلك بارتفاعٍ كبيرٍ في المستوى المعيشي للفلسطينيين نتيجةً لتحسّن أجورهم، بينما نشأت طبقة جديدة عريضة من عمال المياومة بحقوقٍ منقوصة. تذكر هذه الأدبيات أيضاً أنّه، ومن خلال السماح بالعمل في «إسرائيل»، تمكّنت الإدارة العسكرية في «المناطق» من احتواء الاضطرابات السياسية بين الفلسطينيين، وتعزيز عملية «الضمّ الزاحف» للأراضي المحتلّة، وتوفير أرباحٍ سهلةٍ لمواطني «إسرائيل» على حساب العمالة الرخيصة للفلسطينيين.

بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الدراسات في مجال الاقتصاد السياسي كيف شارك الهستدروت، كمُشغّلٍ كبيرٍ والممثل الرئيسي للقوى العاملة «الإسرائيلية»، في إنشاء تقسيمٍ على أساسٍ وطنيّ لسوق العمل، وبالتالي إدامة مكانة سكان «المناطق» عند أدنى مستوى توظيف.

يتناول هذا المقال عملية صياغة سياسة التشغيل في «إسرائيل» فيما يتعلق بالقوى العاملة الفلسطينية في «المناطق» في العامين التاليين لحرب الأيام الستة، بناءً على مصادر أرشيفيّة.

في هذا الصدد، أسعى إلى رفع الستار عن عملية صنع القرار في الحكومة «الإسرائيلية» واكتشاف اعتباراتها المختلفة فيما يتعلق بالسيطرة على «المناطق». إذ يبدو أنه في السنتين الأوليين من الاحتلال العسكري، كان هناك انتقال حادّ بين نوعين من سياسة التشغيل. ففي السنة الأولى، كانت هناك محاولة لتحقيق التوازن بين هدفين «إسرائيليين» متعارضين: تقليل الأبعاد الكبيرة للبطالة في «المناطق»، من ناحية، من أجل تثبيت سيطرة «إسرائيل» على سكانها المعادين، والحفاظ على ارتفاع معدلات البطالة، من ناحيةٍ أخرى، لتشجيع العرب على الهجرة إلى دول أخرى. 

ولكن، في بداية السنة الثانية للاحتلال العسكري، قام وزير الدفاع آنذاك، «موشيه ديّان»، بخلط الأوراق عندما اقترح سياسةً اقتصاديّةً جديدةً تهدف إلى تقليص البطالة بشكلٍ كاملٍ في «المناطق»، وذلك من خلال تشغيل الفلسطينيين في «إسرائيل». كان «ديّان» مهتمّاً بهذه السياسة لأنها سمحت له بخلق علاقة تبعيةٍ بين الحكومة «الإسرائيلية»، التي وفّرت مصادر التوظيف للسكان الفلسطينيين الذين يحتاجون إلى مصدر رزق، وبالتالي تشديد وسائل السيطرة الأمنية عليهم. وطالب شركاء «ديّان» في الاقتراح – أرباب العمل والصناعيون والمزارعون والاقتصاديون ووزراء الحكومة – بإضافة عمّالٍ من ذوي الأجور المنخفضة إلى الاقتصاد «الإسرائيلي» من أجل خفض تكاليف الإنتاج وزيادة حجم الصادرات «الإسرائيلية». ويُشار إلى هذه الشراكة، التي تشكّلت في عام 1968 بين اعتبارات الرقابة الأمنية خارج «الخط الأخضر» والفوائد الاقتصادية لتوظيف العمالة الرخيصة داخله، بالتحالف الأمني ​​الاقتصادي. 

واجه هذا التحالف في البداية تحفظاتٍ شديدة من جانب كبار وزراء الحكومة، الذين أشاروا إلى تضارب بين مقترحه وأهدافه الوطنية التي تتعلق بتشتيت السكان واستيعاب الهجرة وتشجيع الهجرة العربية والأمن. كما أعرب الوزراء عن قلقهم من التناقض بينها وبين روح العمل العبريّ. وبدلاً من حلّ مشكلة البطالة في «المناطق» عبر جلب العمال إلى «إسرائيل»، اقترح الوزراء المتردّدون تطوير فرص عملٍ في الأراضي المحتلّة عام 1967. 

أدّى الخلاف بين أعضاء الحكومة حول هذا الموضوع إلى صياغة سياسة تسويةٍ حتى تمّوز 1969، ستفتح بموجبها «إسرائيل» وظائف جديدة في «المناطق»، وفي نفس الوقت تزيد عدد تصاريح الدخول للعمل في [الأراضي المحتلّة عام 1948]. ومع ذلك، في غضون فترةٍ قصيرة، ظهرت سياسة الأمر الواقع، والتي امتثلت إلى حدٍّ كبيرٍ لمتطلبات التحالف الأمني ​​- الاقتصادي. ومع ذلك، احتوت السياسة الفعلية على بعض المبادئ المتعلّقة بهم.

كانت هناك تحفظات على حماية القوى العاملة اليهودية من المنافسة وضمان مصلحة «إسرائيل» ديموغرافياً. وسرعان ما اكتسبت سياسة الأمر الواقع دعماً واسعاً من أعضاء الحكومة وكبار أعضاء النظام العام وكبار أعضاء مؤسسة الدفاع (من الآن فصاعداً: القيادة الإسرائيلية)، وكانت الدعامة الأساسية للسيطرة «الإسرائيلية» على «المناطق» لمدّة عقدين على الأقل.

البطالة في «المناطق»: مصدر قلاقل وتشجيع للهجرة

في الشهر الأول من الاحتلال العسكري، أجرى ممثلون عن وزارة الخارجية والموساد والجيش محادثاتٍ مع كبار الشخصيات والأسماء البارزة في الضفة الغربية، ناقشوا فيها المزاج السائد بين السكّان الفلسطينيين، وخلُصوا إلى ما يلي: عندما يكون الناس بلا مال، وبطريقة لم يسبق لهم اختبارها، وعندما يكون المسؤولون والمهنيون والتجار وكبار الشخصيات قد أنفقوا كلّ الأموال التي بحوزتهم تقريباً، فسيؤدي هذا إلى البطالة وخطر المجاعة، ويعتبر ذلك مادّة متفجّرة. 

بحسب هؤلاء، وبالإضافة إلى صدمة السكان من الهزيمة، وعدم اليقين بشأن مستقبلهم السياسي، وانعدام الأمن الشخصي، والقلق على أسرهم التي انقطعت صلاتهم بها، فقد تُركوا بلا مصادر رزق. وشدّدت الشخصيات والوجهاء على أنّ البطالة الشديدة تُهدد الهدوء الأمني ​​الذي يسود الضفة الغربية في هذه الأثناء.

كانت نسبة البطالة في الضفة الغربية وقطاع غزة مرتفعةً للغاية حتى قبل الحرب، وبلغت حوالي 20 % في الضفة الغربية وحوالي 50 % في قطاع غزة، لكنّ شلل الاقتصاد المحلي خلال الحرب أدّى إلى ارتفاع معدل البطالة إلى مستوياتٍ جديدة. وقد وجد إحصاء أجراه المكتب المركزي للإحصاء (الإسرائيلي) في الأراضي الفلسطينية في أيلول 1967، أنّه من بين 84500 رجلٍ كانوا يعملون في الضفة الغربية قبل الحرب، كان 51900 فقط يعملون بعد الحرب. ومن بين 64600 رجلٍ كانوا يعملون في قطاع غزة قبل الحرب فإن 26900 فقط أفادوا بأنهم يعملون بعدها. وفي كلا المنطقتين، حوالي 60٪ فقط من العاملين قبل الحرب استمرّوا في العمل في أماكن عملهم بعدها.

أدركت القيادة «الإسرائيلية» أنّ عودة الحياة الاقتصادية في «المناطق» كانت شرطاً ضرورياً لإقامة حكمٍ مستقرّ، وأنّ البطالة تمثّل أرضاً خصبةً للاحتجاج والاضطراب والتخريب السياسي للسكّان ضد الحكومة. لهذا السبب، بدأت الإدارة العسكرية «الإسرائيلية» في «المناطق» في العمل بنشاطٍ في الشهر الأول بعد الاحتلال العسكري لـ «إعادة الحياة إلى مسارها الصحيح» للسكان الفلسطينيين، ولا سيّما تنشيط الاقتصاد المحلي. ولهذه الغاية، أمرت الإدارة أصحاب المتاجر بفتح متاجرهم، والموظفين العموميين بالعودة إلى مكاتبهم، والمزارعين لزراعة حقولهم. وبالفعل، تمكّنت الإدارة من إعادة آلاف السكان إلى وظائفهم. كان الحلّ الآخر للبطالة الذي تبنّته الحكومة في ذلك الوقت هو توفير فرص العمل للعاطلين عن العمل، خاصةً في بناء الطرق وتجديد المباني العامة، من خلال حوالي 5000 عطاءٍ في الضفة الغربية وحوالي 4000 في قطاع غزة؛ أيّ خطة طويلة الأمد لتوفير سبل العيش للعديد من العاطلين عن العمل الباقين.

وعلى الرغم من اعتبار القيادة «الإسرائيلية» البطالة في المناطق «خطيرة» ويجب تحييدها من خلال عودة السكان إلى العمل، رأت أيضاً فيها عنصراً إيجابياً يحقّق بعضاً من أهدافها الديموغرافية. بعد حرب الأيام الستة، كان معظم أعضاء الحكومة «الإسرائيلية» يطمحون إلى إبقاء الضفة الغربية وقطاع غزة في أيدي «الإسرائيليين» قدر الإمكان، سواءً لأسبابٍ أمنيّةٍ أو وطنيّة، لكن لم يكُن لديهم نية لاحتواء سكّانها العرب، الذين بلغ عددهم حوالي المليون نسمة.

كان هناك صراع بين الرغبة في الاستحواذ على الأرض والرغبة في التخلّص من الناس الذين يعيشون عليها. وفي الغرف المغلقة، أعرب أعضاء الحكومة «الإسرائيلية» عن تطلّعٍ واضحٍ بأنّ التضييق في الأرض سيؤتي ثماره في تشجيع الهجرة العربية إلى دول أخرى، مثل الكويت التي كانت تزيد الطلب على العاملين في صناعة النفط المزدهرة. ولا تستطيع «إسرائيل» تحمّل الترحيل القسري للسكان الخاضعين لسيطرتها إذا أرادت الاستمرار في الحصول على الدعم الدولي، خاصةً من الولايات المتحدة. فتُرجمت هذه التطلعات الديمغرافية إلى تعليماتٍ واضحةٍ من وزير الدفاع «موشيه ديان» إلى عناصر الإدارة العسكرية، وأمرهم بتشجيع الهجرة من الأراضي المحتلّة عام 1967. 

أدركت القيادة الأمنية أنّ نقص فرص العمل كان الحافز الاقتصادي الرئيسي الذي دفع السكان إلى المغادرة طواعية. ومع ذلك، أمر «ديّان» المسؤولين الحكوميين بالامتناع عن زيادة البطالة وخلق وضعٍ خطيرٍ للغاية، حيث كان يعتقد في ذلك الوقت، أنّه سلوك يُعطّل الاقتصاد ويُثير الاضطرابات. بدلاً من ذلك، طلب منهم إيجاد «المسار الذهبي» بين مختلف الوجهات.

يتجلّى التوتر بين الهدف الديمغرافي واستعادة الاقتصاد المحلّي بوضوحٍ في الوثيقة الإرشادية للموازنة السنوية التي أعدّتها الإدارة العسكرية في تشرين الثاني 1967، والتي نصّت على ما يلي: الاتجاه هو تسهيل حركة السكان شرقاً – من قطاع غزة إلى الضفة الغربية ومن الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية – ويجب أن تُترجم في جميع مجالات نشاطنا. إن الرغبة هي في الحفاظ على «مستوى معيشي معقول» في هذه [الأراضي المحتلّة عام 1967] قريب من ذلك الذي كان موجوداً قبل الحرب. والاتجاه هو نحو الشرق فقط، ولن يُسمح بنقل العمالة إلى [الأراضي المحتلّة عام 1948]». 

تظهر الوثيقة أنّه من أجل تحقيق التوازن بين الهدف الديموغرافي والهدف الأمني​​، قرّر المسؤولون الحكوميون الإبقاء على مستوى عالٍ من البطالة في «المناطق»، ولكن ليس أعلى ممّا كانت عليه عشيّة احتلال [عام 1967]. من ناحيةٍ أخرى، ومن أجل ضمان عدم انخفاض مستوى البطالة عن المستوى الذي كان عليه عشيّة الحرب، حظرت الإدارة دخول العمال من «المناطق». ويُعزى ذلك إلى حقيقة أن «إسرائيل» لم تتعافَ تماماً بعد من الركود الاقتصادي، حيث بلغ معدل البطالة فيها ذروته بنسبة 12 % في عام 1966. ومع نقص الوظائف، بدا السماح للعاطلين عن العمل في الأراضي المحتلّة عام 1967 باحتلال وظائف في «إسرائيل» سياسةً غير معقولة على الإطلاق.

وعلى الرغم من الحظر المفروض على استقبال العمالة من «المناطق»، دفعت البطالة سكّانها إلى عبور الخط الأخضر دون تصريحٍ والبحث عن عمل في «إسرائيل». لم يتردّد العديد من أرباب العمل «الإسرائيليين» في توظيفهم بعد اكتشافهم بأنّ الأجور المنخفضة التي كانوا مستعدين للعمل من أجلها تؤتي ثمارها على أعمالهم. كانت وزارة العمل «الإسرائيلية» قلقةً من هذا التطوّر، فبدأت بالتعاون مع قوات الأمن بفرض غراماتٍ على «الإسرائيليين» الذين أصبحوا أرباب عمل الفلسطينيين القادمين من «المناطق». وسرعان ما تمّ اكتشاف أنّ هذا الإجراء العقابيّ غير فعال، وذلك لأنّ فجوات الأجور كانت كبيرة جداً لدرجة أن أصحاب العمل فضّلوا دفع غراماتٍ للحكومة، خاصةً في المناطق المجاورة لجانبي «الخط الأخضر»، و هكذا استمرّت حركة العاطلين عن العمل.

السماح بالعمل في «إسرائيل»: اعتبارات التحالف الأمني ​​الاقتصادي

بعد حوالي عامٍ من الاحتلال العسكري، وقعت عدّة أحداث على خلفيّة التغيير في سياسة التوظيف «الإسرائيلية» في الأراضي المحتلة [عام 1967]. أملت «إسرائيل» في حدوث تغييرٍ ديموغرافيٍّ كبيرٍ في الضفة الغربية بعد التشجيع على الهجرة.

لم تسفر الهجرة عن أيّ نتيجة، وبدأت الإدارة «الإسرائيلية» المؤقتة في «المناطق» تتّخذ طابعاً دائماً بعد أن أصبح واضحاً أنّ محاولات التسوية السياسية بين «إسرائيل» والدول العربية قد توقّفت. وفي «المناطق»، تزايدت وتيرة الاحتجاجات، بالتزامن مع نموٍّ في الاقتصاد «الإسرائيلي»، الذي سرعان ما أنهى ركود ما قبل الحرب إلى فترةٍ جديدةٍ من التشغيل الكامل. وفي ضوء هذه التطوّرات، تبنّى وزير الدفاع «ديّان» نهجاً جديداً للسيطرة على الأراضي.

تمثّل الشق الأول في سياسة الإبقاء على البطالة في «المناطق» التي ميّزت سياسة «ديان» في السنة الأولى للاحتلال، إلى مزيجٍ من الاهتمامات والمصالح الديموغرافية والإقليمية في القدس.

في نهاية حزيران 1967، طبّق الكنيست قانون «إسرائيل» على شرقي مدينة القدس ومحيطها. وبذلك، ربطت «إسرائيل» شطري القدس، لكنّها أيضاً فصلت القدس الشرقية بشكل قانوني عن باقي الضفة الغربية، التي كانت خاضعة للقانون العسكري. ومباشرةً بعد الضمّ، بدأت الحكومة «الإسرائيلية» التخطيط لبناء أحياءٍ يهوديّةٍ جديدةٍ في شرق المدينة لفرض سيطرتها على الأراضي المُسيطر عليها حديثاً، وهو ما تمّ التوصل إلى إجماعٍ [صهيونيّ] بشأنه، وسعت كذلك لزيادة الشقق المعروضة في المدينة بما يستوعب عشرات الآلاف من المهاجرين اليهود. كانت العقبة الرئيسية أمام تحقيق هذين الطموحين هي النقص في عمّال البناء في منطقة القدس، والذين لم يكُن بناء الأحياء المخطّط لها ممكناً بدونهم. وبسبب انفصال القدس عن الضفة الغربية، لم يكُن بمقدور مقاولي البناء «الإسرائيليين» توظيف عمّالٍ فلسطينيين.

بالتالي، وبسبب الحجم الكبير لأعمال البناء المخطّط لها في القدس، ونظراً للنقص في عمّال البناء وارتفاع مستوى البطالة في الضفة الغربية، قرّرت اللجنة الخاصّة المشكّلة من المدراء العامين للوزارات المعنيّة بالتعامل مع قضايا سكّان «المناطق»، في 11 نيسان 1968، سياسة غض الطرف عن توظيف عمّال بناءٍ من الأراضي المحتلّة [عام 1967] في القدس. 

يعني هذا القرار، وعلى الرغم من عدم منح تصريحٍ قانونيّ لتوظيف عمّال الضفة الغربية ومقاولي البناء، فقد أصبح بإمكانهم العمل في القدس دون أن تغرّمهم وزارة العمل، وأصبح بوسع عمال البناء من الضفة الغربية العمل وكسب لقمة العيش دون أن تعاقبهم قوات الأمن. 

كان هذا النهج الجديد فيما يتعلق بتوظيف سكان الضفة الغربية في القدس هو النهج الرئيسي للحكم «الإسرائيلي» في الأراضي المحتلّة [عام 1967] الذي اتّبعه «ديّان» في النصف الثاني من عام 1968. وكانت المرة الأولى التي اقترح فيها «ديّان» إجراء تغييرٍ رسميّ في السياسة العامة المتعلّقة بالقوى العاملة في «المناطق» قد وردت في محادثةٍ مع رئيس الوزراء «ليفي أشكول» في 21 أيار 1968. عرض فيها «ديّان» رأيه السياسي بأنه لا توجد فرصة حقيقية للتوصّل إلى تسويةٍ سياسيّةٍ موثوقة، وبالتالي من الضروري إقامة إدارةٍ عسكريّةٍ طويلة الأمد ومستقرّة وفعالة على الأراضي وسكانها. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، تابع «ديّان»، أنّه يجب على «إسرائيل» إيجاد طريقة لإبقاء عددٍ كبيرٍ من السكّان المدنيين تحت احتلالٍ عسكريّ دون أن يكونوا قادرين على مواجهته. وكانت الوسيلة الأكثر فاعليةً التي أدركها لهذا الغرض هي خلق علاقة تبعيّةٍ بين السكان وآليات الحكم العسكري. 

ولتوضيح هذه النقطة، ذكر «ديّان» كمثال نجاحات سياسة «الجسور المفتوحة» التي وضعها، والتي سمحت لمزارعي الضفة الغربية بمواصلة تسويق منتجاتهم على الضفة الشرقية لنهر الأردن، كما فعلوا قبل الحرب. وبحسب «ديّان»، لم تكُن الإدارة العسكرية «الإسرائيلية» ملزمةً بالسماح للمزارعين بتسويق منتجاتهم في أسواق عمّان، ولكن بمجرد إتاحة الفرصة، تملّكت الإدارة وسيلة ضغطٍ لا بديل عنها؛ وهي السيطرة على مصدر رزقهم. 

ووفقاً لـ«دياّن»، يعرف المزارعون جيداً أن رزقهم يعتمد على حسن نية «إسرائيل»، وفي حال معارضة الحكم العسكري، يمكن لـ «إسرائيل» إغلاق الجسور وترك جميع الخضار والفواكه تتعفن. واعتقد «ديّان» أنّه يُمكن تطبيق الطريقة التي استُخدمت لخلق اعتماديّة لدى المزارعين على القوى العاملة أيضاً. فإذا وافقت «إسرائيل» على السماح لسكّان الضفة الغربية بالعمل في أراضيها، فستُسيطر الإدارة بشكلٍ فعّال على سبل عيش عشرات الآلاف من الفلسطينيين الآخرين. في هذه المرحلة، أشار اقتراح «ديّان» إلى الضفة الغربية فقط. أمّا فيما يتعلق بقطاع غزة، فقد اقترح الاستمرار في سياسة تشجيع الهجرة – عبر مستوى معيشة متدنٍ ومستوى عالٍ من البطالة.

بعد عدّة أسابيع من المحادثة مع «إشكول»، قدّم «ديّان» عرضاً رسمياً لـلجنة الوزارية للاقتصاد بهذه اللغة: «البدء بوضع، وبأسلوبٍ خاضعٍ للمراقبة والإشراف، معظم العاطلين عن العمل من يهودا والسامرة في الاقتصاد «الإسرائيلي» في الأماكن التي يوجد فيها طلب فائض على العمال». وقد تمّت مناقشة الاقتراح في اجتماعين للجنة عام 1968. بدأت المناقشة بشرح «دايان» أنّ حلّ مسألة القوى العاملة هو القضية «الأكثر أهمية» على أجندة الضفة الغربية، واقترح – «لا أقل ولا أكثر» – السماح لسكان الضفة الغربية بالعمل في «إسرائيل» في «وظائف سوداء». 

وقد اشتمل اقتراحه على عدّة قيود إلى جانب توزيع تصاريح العمل، وهي: أولاً، تحديد عدد تصاريح العمل وفقاً لاحتياجات الاقتصاد «الإسرائيلي». وأن تكون الأجور مساويةً للأجور في «إسرائيل»، ثانياً. وإنشاء آليةٍ للإشراف على حركة العمال، ثالثاً. ومنع مبيت العمال في الأراضي [المحتلّة عام 1948]، رابعاً. وتهدف هذه القيود إلى ضمان ألّا يحلّ عمّال الضفة الغربية محلّ العمّال «الإسرائيليين» في العمل، وألّا يتنافسوا معهم على الأجور، وألّا يستقرّوا في أراضي دولة «إسرائيل». 

ومن هنا، انتقل «ديّان» إلى شرحٍ مفصّلٍ للميزة الأمنية الرئيسية لاقتراحه. فوفقاً له، إذا جلبت «إسرائيل» عمّالاً فلسطينييّن من الضفة الغربية، فعندئذ:

 «سيكون لدينا أولا وسيلةً لـ «السيطرة».. والتي من خلالها يتمّ إجبار سكان الضفة على قبول نتائح الحرب، ويصبح لدى سكان المناطق ما يخسرونه، لأنه من الممكن إغلاق الحاجز في رام الله ذات صباح، ولن يذهب بعدها 1500 شخص للعمل في القدس. ويمكن لذلك أن يتمّ بدون قرارٍ من الحكومة، ودون الحاجة لأيّ ترتيباتٍ خاصة. لا داعي للاعتذار عن هذا، لا في مجلس الأمن ولا في أيّ مكانٍ آخر. لستُ مضطرّاً للسماح لهم بالسفر من رام الله إلى القدس، فأنا أفعل ذلك من قبيل سيادة القانون. في الواقع، الأشياء التي نقدّمها لهم والتي يُمكننا منعها عنهم، هي أكثر وسائل السيطرة فعاليةً لدينا،  تلك الأشياء التي أعطيناها لهم بأيدينا ويُمكننا سلبها منهم» .

وكما أوضح «ديّان» لرئيس الوزراء في وقتٍ سابق، فقد كرّر أنّ إدخال العمّال الفلسطينيين إلى «إسرائيل» سيؤدّي إلى اعتمادهم عليها، وكان وزير الدفاع بحاجةٍ إلى هذه التبعيّة كوسيلةٍ للسيطرة على السكاّن على المدى الطويل بأقصى قدرٍ من الكفاءة. من ناحيةٍ أخرى، قدّم «ديّان» لأعضاء اللجنة الوزارية بديلاً لسياسة «إسرائيل» فيما يتعلق بوضع البطالة في «المناطق». يُمكن لـ «إسرائيل» أن تقرّر بنفسها الاستثمار بشكلٍ كبيرٍ في تطوير «المناطق». لم يكُن «ديّان» متحمّساً للفكرة وقال على الفور: «من الناحية النظرية، أُفضّل أن يغزو عرب جنين العفولة على أن يتمّ استثمار أموال الضرائب لسكاّن العفولة في تنمية جنين… [كما أنّ] سياسة التنمية في المناطق لن تساعد في خلق علاقة تبعيّة».

حشد «ديّان» دعم أصحاب المصلحة الاقتصاديين في اقتراحه بشأن القوى العاملة الفلسطينية، كان أحدهم محافظ بنك «إسرائيل»، «ديفيد هورويتز». طوال الستينيّات، شجع «هورويتز» سياسة تقييد الأجور في الاقتصاد كوسيلةٍ لخفض تكاليف زيادة القدرة التنافسية للمنتجات «الإسرائيلية» في الأسواق الدولية. وأعرب عن اعتقاده أنّه فقط من خلال زيادة الصادرات يُمكن لدولة «إسرائيل» ضمان ميزانٍ تجاريٍّ إيجابيّ يضمن لها الاستقلال الاقتصادي. 

كانت المحاولة الأخيرة التي قام بها مع «إشكول» وشركاء آخرين في عام 1965 للحدّ من الأجور في الاقتصاد قد تدهورت بشكلٍ لا يُمكن السيطرة عليه إلى الركود الاقتصادي الأشدّ الذي عرفته «إسرائيل» حتى ذلك الوقت.

وقال لأعضاء اللجنة الوزارية للاقتصاد إنّ النقص الحاد في العمالة في الاقتصاد «الإسرائيلي» سيؤدي قريباً، في تقديره، إلى زيادة الأجور «بطريقةٍ مذهلة». من ناحيةٍ أخرى، قال إن جلب العمال من «المناطق» سيوفّر للحكومة أداةً ضروريّةً لتنظيم الأجور ضمن حدود «الخط الأخضر». إذ وفقاً لتفسير «هورويتز»، عندما يزداد الطلب على العمّال سيسمح العرض للحكومة بتوظيف المزيد من العمال من الضفة الغربية، وسيعمل هؤلاء بأجورٍ منخفضةٍ لسدّ الفجوات. وإذا تجاوز عرض العمّال الطلب بعد فترة، فستكون الحكومة قادرةً على إلغاء توظيف هؤلاء المقيمين في الضفة الغربية دفعةً واحدة. وبهذه الطريقة، ستُمنع حتماً زيادات الأجور؛ لأنه في حالة نقص العمال، تزداد القدرة التفاوضية للعمّال مقابل أرباب عملهم. أضاف منطق «هورويتز» طبقةً اقتصاديةً لمنطق «ديّان» الأمني​​. لكن، ومثل «دايان»، رأى «هورويتز» أنّ تصاريح العمل للفلسطينيين ميزة بحسب اعتباراتها واحتياجاتها.

وكان ثمة وزير آخر مؤيّداً للاقتراح، وكان أيضاً مؤيداً قوياً لزيادة الصادرات «الإسرائيلية» في التجارة والصناعة، وهو «زئيف شيراف»، وزير الصناعة والتجارة، الذي أخبر زملائه كيف اشتكى أهل الصناعة «الإسرائيلية» له من أنها لم تدفع لهم مقابل فتح مصانع جديدة بسبب قلة المعروض من العمالة. لهذا السبب، رأى «شيراف» أنّه من الأهمية بمكان السماح للمصنّعين بتوظيف عمّالٍ من «المناطق» بأجورٍ منخفضة. وعزّز «دان حيرام»، منسّق لجنة المديرين التنفيذيين، تصريحات «شيراف» متحدّثاً عن الحاجة إلى عمالةٍ إضافيّةٍ للصناعة الزراعية أيضاً. فعلى سبيل المثال، ذكرت جمعية مزارعي اللوز أنّه بدون العمّال العرب، لن يتمّ حصاد اللوز من الأشجار هذا العام. 

طلب «ديّان» من اللجنة الوزارية للاقتصاد السماح بدخول ما يصل إلى 5000 عاملٍ من كل الضفة الغربية. هؤلاء العمال لن يحلّوا مشكلة البطالة في الضفّة بشكلٍ كامل، لكنّهم، بحسب «ديان»، خفّضوها إلى مستوىً معقول مع بدء التوظيف. كان عدد الموظّفين منخفضاً بما يكفي للتأكّد من أنّ الوزراء الآخرين لن يعارضوه. بعد كلّ شيء، قال الوزراء لأنفسهم إنّه لم يكُن من المتوقع أن يُحدث 5000 عاملٍ تغييراتٍ ضخمةً في الاقتصاد «الإسرائيلي» أو تغييراً جذريّاً في العلاقات الاقتصادية بين «إسرائيل» والضفة الغربية. وإذا كانت هناك حاجة أمنية، بالإضافة إلى ضرورة اقتصادية معقولة، فلماذا يقاومون؟ 

في الواقع، عبّر وزراء من أحزاب مختلفة من شتى الأطياف في الآراء السياسية والاقتصادية، مثل «يوسف سابير» و«يغال ألون» و«مردخاي بينتوف»، عن آراء إيجابيّةٍ حول الاقتراح وصوّتوا لصالحه. وهكذا، على الرغم من التحفّظات التي أثارها أعضاء اللجنة في مواجهة «ديان»، تمّت الموافقة على الاقتراح بالإجماع. كما تقرّر إنشاء آليةٍ تمنح وزارة العمل المسؤولية والسلطة لمنح تصاريح العمل في «إسرائيل» وفقاً لاحتياجات الاقتصاد، بالتنسيق مع الهستدروت والإدارة العسكرية. وتمّ تطبيق هذا القرار على قطاع غزة بعد حوالي ستة أشهر فقط. وبالنسبة للحكومة، أصبح واضحاً أنّ الموجة الكبيرة من الهجرة لم تحدث، واشتدّت الاضطرابات السياسيّة بين أعضائها.

بدأ تنفيذ القرار عمليّاً في آب 1968، عندما أنشأت وزارة العمل في «إسرائيل» مكاتب توظيفٍ في المدن الوسطى من الضفة الغربية من أجل استخدامها لتوظيف عمّالٍ فلسطينيّين للعمل في «إسرائيل». كان الدور الرئيسي لمكاتب التوظيف هو ربط أرباب العمل «الإسرائيليين» الباحثين عن عمّال مع سكّان الأراضي المحتلة [عام 1967] الباحثين عن عمل. تمّ إصدار تصاريح العمل لفتراتٍ محدّدةٍ فقط، مع ذكر اسم صاحب العمل «الإسرائيلي» لكلّ عامل (وليس الكثير من العمّال)، وتمّ دفع أجور العمّال في نهاية الشهر من خلال مكاتب العمل، وليس مباشرةً عبر صاحب العمل «الإسرائيلي»، لضمان مطابقة رواتبهم لمستوى الأجور في «إسرائيل».

هدفت هذه الآلية إلى ضمان عمل سكاّن الأراضي المحتلة [عام 1967] في «إسرائيل» فقط إذا لم يتمّ العثور على عمال «إسرائيليين» مناسبين لنفس الوظائف. وتُشير سجلّات مكاتب العمل إلى أنّ معظم الباحثين عن عملٍ من الفلسطينييّن تمّت إحالتهم إلى مجال البناء في «إسرائيل»، وشملت قائمة أرباب العمل في هذه الصناعة: «سوليل بونيه» و«الهستدروت» و«راسكو» والعشرات من مقاولي البناء الآخرين. بالإضافة إلى ذلك، أحالت المكاتب العمّال إلى عشرات البساتين في جميع أنحاء البلاد وإلى العديد من المصانع بما في ذلك مصنع «فيتا» للأغذية في «بني براك»، ومصنع المنسوجات (Crimson) في يبنة ومصنع (Kargel) للكرتون في اللد.

المدى البعيد وتحفّظات التحالف الأمني ​​الاقتصادي

بدأ النقاش حول سياسة «إسرائيل» تجاه القوى العاملة الفلسطينية في اللجنة الوزارية للاقتصاد في حزيران 1968، واستمرّ تداوله في اللجنة الوزارية للأراضي (التي تأسّست في أيلول 1968) من كانون الأول 1968 وحتى تمّوز 1969، وذلك حتى صياغة سياسة التوظيف. وبحلول الوقت الذي استؤنف فيه النقاش، كان موقف «ديّان» من القوى العاملة الفلسطينية علنياً، وحتّى مثيراً للجدل. ففي اجتماعٍ عام في عُقد بئر السبع، في 6 تشرين الثاني 1968 ، قال «ديّان» إنّ لا أحد يعرف عدد السنوات التي ستمرّ قبل أن يكون هناك سلامٌ بين «إسرائيل» والدول العربية، ولكن في هذه الأثناء من الممكن «نسج حياة مشتركة» بين اليهود والعرب. ناشد «ديّان» مستمعيه: بدلاً من الاستمرار في الأمل – آمال كاذبة – بطرد السكان العرب من البلاد، يجب إنشاء وحدةٍ اقتصاديّةٍ واحدةٍ مع تلك الأجزاء من البلاد «التي لا نريد أن يكون لدينا أجانب فيها». لذلك، من المنطقيّ أن يتمكّن العمّال في الخليل، الذين يعانون من نقص فرص العمل، من العمل في بئر السبع التي تعاني من نقصٍ في الأيدي العاملة. 

كان الشخص الذي ردّ علناً على «ديّان» هو زميله في الحكومة، وزير المالية «بنحاس سابير»، قائلاً للصحفيين إنّ تصور «ديان» يمثّل خطراً أمنياً واقتصادياً وسياسياً على دولة «إسرائيل». رأى «سابير» أنّ مزيجاً من الاقتصادات والسكّان يشبه الجلوس على المتفجرات، لأنّه من خلال القيام بذلك، يجب أن تكون دولة «إسرائيل» دولةً ثنائية القومية.

في بداية المناقشة المبدئية في اللجنة الوزارية للأراضي المحتلّة، فيما يتعلق بسياسة التوظيف طويلة الأجل، كرّّر «ديّان» الخيارين الرئيسيين المطروحين أمامهم: أن تسمح «إسرائيل» للعاطلين عن العمل بالعمل لديها، أو أنها ستضطر إلى تطوير وظائف لهم في «المناطق» لمنع حالة البطالة التي استبعدها «ديّان» فوراً بحجّة أنّ البطالة وصفة أكيدة لتوتّراتٍ أمنيّةٍ مستمرّةٍ في «المناطق». لم يدّخر «ديّان» كلماتٍ ليشرح لأعضاء حكومته سبب اعتقاده أنّ الخيار الأنسب هو السماح بالعمل في «إسرائيل». بالإضافة إلى الحجج التي قدّمها سابقاً، أوضح «ديّان» أنّ تسجيل العمّال الفلسطينيين في مكاتب العمل سيسمح لـ «إسرائيل» بأن تكون أكثر قرباً، وتراقب حركتهم وأنشطتهم اليومية. وعلى حدّ قوله، عندما يغادر العامل منزله للعمل في الصباح، ستعرف الإدارة من خلال التسجيل إلى أين يتّجه، وعندما يعود العامل إلى منزله في المساء، ستعرف من أين يعود.

 كما أوضح «ديّان» أن هذا النوع من التوثيق لا يُقدّر بثمن. وبشأن الانطباع الذي خلفته حادثتان «إرهابيتان» وقعتا في ذلك الوقت – إلقاء قنبلة يدوية على زوار «إسرائيليين» في الحرم الإبراهيمي في تشرين الأول 1968 وانفجار سيارةٍ مفخّخة في تشرين الثاني في سوق «محانيه يهودا» في القدس – أوضح أنّ العاطلين عن العمل المجهولين وحدهم من يمكنهم تنفيذ أعمال تخريبيّة كهذه، مضيفاً: «كل من يذهب إلى العمل، واسمه وعنوانه معروفين، لن يفعل ذلك»، وإذا أقدم على ذلك، فستتعقّبه قوّات الأمن بسرعةٍ بفضل سجلّات مكاتب العمل. ومن المتوقّع أن يثني التهديد بإلغاء تصاريح العمل العمّال الفلسطينييّن عن أي نوعٍ من التخريب، لأن أيّ شخص منخرط في عملٍ شبيهٍ سيُعاقب بإلغاء تصريح العمل الخاص به. وفي واقعٍ تكون فيه فرص العمل الأخرى محدودة، كان هذا البديل كئيباً بشكل خاص، لأنه لم يترك للعامل المتمرّد العديد من الخيارات بخلاف الهجرة إلى بلدانٍ أخرى لأغراض كسب العيش.

دعم حلفاء «ديّان» الاقتراح مرّةً أخرى لاعتباراتٍ اقتصادية. وفي مداولات اللجنة هذه المرّة، أوضح وزير العمل «يوسف ألموغي» أنّ هناك نقصاً «متفاقماً» و«مخيفاً» في الأيدي العاملة في هذا الوقت في «إسرائيل». وحذّر من أنه إذا لم يعُد هناك عمّال، فسيتمّ إغلاق بعض المصانع «الإسرائيلية»، وستتأخر الصادرات للخارج. وتلك نتيجة غير مرغوب فيها وغير منطقية، حسب رأيه، بينما يوجد آلاف الباحثين عن العمل خلف «الخط الأخضر». كما اعتبر أنّ توظيف أي شخص إضافي في المصانع «الإسرائيليّة» سيعني زيادة الصادرات، وكان هذا، كما رأينا، هدفاً رئيسياً للحكومة. 

حتى أن «ألموغي» عزّز اعتبارات «ديّان» الأمنية، قائلاً إنه على حدّ علمه من تجارب الدول الأخرى حول العالم، فعندما يتجاوز معدل البطالة عتبة الـ 70%، تتصاعد الاضطرابات المدنيّة ضد الحكومة – في الأماكن التي لا يوجد فيها احتلال عسكري أجنبي، والبطالة التي زادت عن نسبة 20 % قد اعتُبرت بالفعل مدعاة للقلق وشبيهة بالتعامل مع المتفجرات.

عندما تطورت المناقشة إلى مسألة اقتراح مبدأ حول سياسةٍ طويلة الأجل، كان لدى «ديّان» وحلفائه اعتراضات وتحفّظات أكثر حدّةً ممّا كانت عليه عندما دار النقاش حول الحلول قصيرة المدى. كان أبرز المعارضين وزير المالية «بنحاس سابير»، الذي سبق أن واجه وزير الدفاع، كما رأينا، على الساحة العامة. نشأت معارضة «سابير» لاقتراح «ديّان» في مداولات اللجنة من رغبته في حماية القوى العاملة اليهودية في الأطراف من المنافسة مع القوى العاملة العربية. فقد اتّبعت الحكومة في الخمسينيات والستينيات سياسة تشتيت السكان. ونتيجةً لذلك، تمّ إنشاء عشرات المستوطنات على «الحدود» في ذلك الوقت، يسكنها عشرات الآلاف من المهاجرين الجدد. في البداية، تمّ إنشاء محليّاتٍ صغيرةٍ وزراعية، ولكن تمّ أيضاً تخطيط وتأسيس مناطق حضرية لاحقاً، كانت تسمى بأثرٍ رجعيّ مدن التطوير. سكن البلدات مهاجرون جدد، معظمهم من الدول الإسلامية، واعتمدوا على الدولة وآلياتها ويعانون من نسبة بطالةٍ عاليةٍ بسبب إقامتهم في الأطراف. ثمّ بدأت ظاهرة خروج السكان إلى المدن المركزية، حيث كان احتمال إيجاد فرص عملٍ متنوعة أعلى. 

عالجت الحكومة مشكلة البطالة في مدن التطوير من خلال خلق وظائف استباقية. وتبنّت مع نهاية الخمسينيّات من القرن الماضي سياسة التصنيع في مدن التطوير بهدف خلق وظائف دائمةٍ هناك. وهكذا، في عام 1959، تمّ تعديل لوائح جديدة لقانون تشجيع الاستثمار الرأسمالي. وقد وفّرت هذه التعديلات مزايا مختلفة لأصحاب المشاريع الذين كانوا على استعداد لإنشاء مصانع في جميع أنحاء البلاد. وأُعطيت الأفضلية للمنشآت كثيفة العمالة، خاصة في صناعات النسيج والغذاء، بدلاً من الصناعات كثيفة رأس المال. بدوره، شجّع «بنحاس سابير»، وزير التجارة والصناعة بين عام 1955 و1965، التصنيع المتسارع في الأطراف. وتحت قيادته، تمكّنت الحكومة من زيادة عدد الوظائف في الصناعة التحويلية بشكلٍ كبيرٍ في مدن التطوير، وفي الوقت نفسه خلق اعتمادٍ لسكان مدن التطوير على صناعات التوظيف التي تتطلّب بشكلٍ أساسيّ العمالة اليدوية مقابل أجورٍ منخفضة.

في المناقشات الوزارية، استند «سابير» في معارضته لـ«ديّان» إلى الأثر المتوقع على الاقتصاد «الإسرائيلي»، قائلاً: «بدلاً من وصول عشرات الآلاف من العمال من «المناطق»، يجب أولاً وقبل كلّ شيء تقوية العمال الضعفاء في أماكن العمل الضعيفة في «إسرائيل» … يجب أن تعلم أنّ هذا المخطط لا يضرّ موظفاً في بنك «لئومي» أو كاتباً في الحكومة، ولا محترفاً في معمل الورق في الخضيرة، لكنّ الإضرار سيكون في الأماكن الضعيفة والضعفاء».

كان الضعفاء، بلغة «سابير»، هم المهاجرون الجدد في خمسينيات القرن الماضي، وكانت الأماكن الضعيفة هي مدن التطوير. فقد اعتقد بأنّ جلب العمال من المناطق المحتلّة إلى الصناعة كثيفة العمالة من شأنه ترك هؤلاء السكان، الذين أقيمت المصانع من أجلهم في المقام الأول، بلا مصدر رزق لأنّهم لن يكونوا قادرين على التنافس مع الأجور التي يقبل العمّال [الفلسطينيون] بالحصول عليها. وإذا تُرك سكان تلك المستوطنات دون مصادر رزق، فسوف يتركون مجتمعاتهم ويرحلون إلى مدن المركز، وبالتالي ستنهار خطة التوزيع الديمغرافي الخاصة بالحكومة. 

لا يُمكن فصل موقف «سابير» من التوظيف عن موقفه السياسي بشأن مسألة «المناطق» ككل. إذ كان صوتاً بارزاً في الحكومة في دعم انسحاب «إسرائيل» من الضفة الغربية بأكملها (باستثناء القدس الشرقية) مقابل اتفاق سلام. لكن من المستحيل الإشارة إلى علاقةٍ مباشرةٍ بين موقف الوزراء من مسألة مستقبل «المناطق» وموقفهم من قضية القوى العاملة الفلسطينية.

 كان الموقف السياسي لوزير الأديان «زيراح فارهافتك» مختلفاً تماماً عن موقف «سابير»، ورأى أنّ على «إسرائيل» الاستمرار في الحفاظ على الضفة الغربية وقطاع غزة كجزءٍ من أرضها التاريخية. ومع ذلك، فقد عارض إدخال عمّال من «المناطق»، وإنْ كان ذلك لأسبابٍ أخرى. أصرّ «فارهافتك»، مثله مثل الوزراء الآخرين، على أن التكامل الاقتصادي يطيح بسياسة تشجيع هجرة العرب من «المناطق» إلى البلدان الأخرى. وأشار إلى أن تحسّن الوضع الاقتصادي في المناطق ورفع مستوى المعيشة سيغفل الهدف الأساسي الذي تتبناه «إسرائيل»؛ أيّ تشجيع الهجرة. ولخّص بشكلٍ جيّدٍ النتيجة المؤسفة، في عينيه، على القضية الديموغرافية لـ «إسرائيل» عندما قال في أحد اجتماعات اللجنة في نيسان 1969: 

«كانت لدينا سياسة لتشجيع أكبر قدرٍ ممكنٍ من العرب على الرحيل من البلاد إلى الكويت والبلدان الأخرى، لديّ انطباع بأنّ هذا الاتجاه قد ضعف في العام الماضي. لديّ انطباع بأنّ «إسرائيل» بالنسبة لهم هي الكويت … هناك عليك أن تسافر مسافات طويلة وهنا يمكنك كسب لقمة العيش على الفور. وإذا أضفنا المزيد من عمّال «المناطق» هنا بالإضافة إلى أولئك الذين تسلّلوا بأنفسهم، فيمكن أن تصل إلى أعداد كبيرة جداً، وستتوقف الهجرة من هنا تماماً. أعتقد أننا يجب أن نشجّع على مغادرة البلاد قدر الإمكان».

كان الموقف السياسي لـ «إيغال ألون»، وزير العمل في حكومة «إشكول» ونائبة رئيس الوزراء «غولدا مئير» (التي حلّت محلّ «إشكول» في المنصب بعد وفاته في شباط 1969)، مختلفاً عن موقف «فارهافتيك» وكذلك «سابير». رأى «ألون» أنّ السيطرة على غور الأردن وجبال الخليل وقطاع غزة مهمّةً أمنيّاً وقوميّاً، لكنّه كان على استعدادٍ للتخلي عن أجزاء أخرى من السكّان في المفاوضات السياسية. وعلى الرغم من الاختلافات في الرؤية السياسية، شارك «ألون» «فارهافتيك» في نقده للهجرة، وحذّر من أن «تحقيق الرخاء» عبر العمل في «إسرائيل» سيوقف حركة المهاجرين. ليس ذلك فحسب، بل سيشجّع أيضاً أولئك الذين غادروا الضفة الغربية بالفعل على العودة إليها.

كما انتقد أعضاء مجلس الوزراء الاعتبارات الأمنية لـ «ديان». قال وزير الشرطة «الياهو ساسون» إنّه في الحرب القادمة لن يكون عرب «المناطق» على الحدود إنّما في داخلها. وإذا كان سكّان المناطق يعملون في مصانع «إسرائيلية»، فسيكونون قادرين على شلّ الصناعة بأكملها دفعةً واحدة. وأثار وزير الصحة، «إسرائيل برزيلاي»، مخاوف مماثلةٍ لهذه، متسائلاً عن كيفية منع العمّال العرب من التأثّر ببيئتهم المعادية لـ «إسرائيل»، وحذّر من أن الضغط السياسي قد يشجع العمّال على استخدام تصاريح الدخول  لتنفيذ عملياتٍ تخريبية. وأوصى هؤلاء الوزراء بزيادة الفصل بين العرب واليهود بين نهر الأردن والبحر، كأفضل وسيلةٍ للحفاظ على أمن مواطني «إسرائيل» اليهود. وبذلك، قدّموا موقفاً استمرّ في النهج الكلاسيكي للحركة العمّالية فيما يتعلّق بالاندماج مع السكّان العرب في البلاد مقابل الانفصال عنهم، والذي يتناسب أيضاً بشكلٍ جيّدٍ مع تصوّر «سابير».

أثار مصدر رئيسيّ آخر الاستياء في الحكومة بشأن اقتراح «ديان»، وهو تصادمه مع فكرة العمل العبريّ الذي سيطر على الفكر الصهيوني بشكلٍ عام، وعلى أيديولوجية الحركة العمّالية بشكلٍ خاص. في الفترة التي سبقت قيام الدولة، عبّرت هذه الفكرة عن التطلّع إلى الانفصال عن مجالات العمالة «غير المنتجة» وخلق «يهوديّ جديد» يعمل يدوياً على الأرض. فقد منحهم العمل، وخاصةً العمل الزراعيّ الذي يتطلّب اتصالاً مباشراً مع الأرض، شرعيّةً أخلاقيّةً محدّدةً فيما يتعلق بعملية الاستيطان. 

وأيضاً، كان لهذه الأيديولوجية قيمة عمليّة للمسألة الديموغرافية الصهيونية حتى عام 1948. يعتقد قادة الحركة العمّالية ومنظّروها أنّ الحفاظ على مصادر الرزق لليهود واستبعاد العرب من المجالات كثيفة العمالة كانت تدابير ضروريّةً لضمان الاستيعاب الناجح للمهاجرين اليهود الجُدد. حسب اعتقادهم، سيتمكّن اليهود بهذه الطريقة من أن يصبحوا أغلبيةً ديمغرافيّةً في البلاد. وعلى الرغم من أن اعتبارات أيام الانتداب لم تعُد ذات صلةٍ في ظروف أواخر الستينيّات، مع هيمنة قيادة دولةٍ قوميّةٍ ذات سيادةٍ على الاقتصاد، فقد كان لمثل العمل العبري صلاحيته الخاصة. وعلى خلفية المناقشات الطويلة حول مزايا وعيوب جلب العمال من الأراضي المحتلّة [عام 1967] إلى «إسرائيل»، أعربت رئيسة الوزراء «غولدا مئير» عن قلقها البالغ إزاء إنشاء سوق عمل مجزّأ يتألف من طبقةٍ يهوديّةٍ من ذوي الياقات البيضاء وطبقةٍ عربيّةٍ من العمّال اليدويّين. ومن وجهة نظر «مئير»، ستؤدّي مثل هذه العملية إلى القضاء على نموذج العمل العبريّ. لم تكُن هي الوحيدة، إذ أعرب العديد من الوزراء عن مخاوف مماثلة.

طالب المعترضون على اقتراح التحالف الأمنيّ ​​الاقتصاديّ بحلّ مشكلة البطالة الفلسطينية من خلال خلق فرص عملٍ في «المناطق» أوّلاً، وقبل كلّ شيء. كان الاحتمال الأساسي الذي اعتبروه واقعياً هو سياسة صناعيّة لـ «المناطق» تحت القيادة «الإسرائيلية». لكن، وعلى الفور، بدا لهم أنّ التصنيع في «المناطق» قد يتعارض أيضاً مع مصالح جوهريّةٍ ووثيقةٍ في مجالات الاستيطان واستيعاب [المهاجرين اليهود].

مسألة التصنيع في «المناطق»

في كانون الأول 1968، ناقشت لجنة المديرين التنفيذيين طلباً من مالك مصنع بلاستيك من نابلس يُدعى كامل ملحيس لاستيراد معدّاتٍ لإنتاج الصنادل، ووافقت عليه على اعتبار أنّ توسيع المصنع سيضيف وظائف للعديد من العاطلين عن العمل. ومع ذلك، عندما وصل خبر التصريح إلى الوزير «ألون»، سارع للطعن فيه وطرحه للمناقشة في اللجنة الوزارية للأراضي المحتلّة [عام 1967]. موضحاً معارضته لمنح التصريح لأنّ تسويق الصنادل من مصنعٍ في نابلس سيؤدّي إلى إفلاس مصنع الصنادل الجديد في مستوطنة «عين زيفان»، وهي مستوطنة جديدة أقيمت في هضبة الجولان، وكان «ألون» أحد المبادرين إليها، وقد أقيم المصنع هناك خدمةً لغرضٍ واحد، وهو دعم المستوطنين الجُدد في الأراضي المحتلة [عام 1967].

جادل «ألون» أمام الوزراء أنّه وبالنظر إلى انخفاض الأجور والأسعار في نابلس، فلن تتمكّن المصانع «الإسرائيلية» من منافسة منتجاتها في السوق. بذلك، أراد توضيح دعمه الفعليّ لخلق فرص عملٍ في «المناطق»، ولكن دون أن يؤدّي ذلك إلى انهيار مستوطناتٍ جديدة، متابعاً أنّه بدون هذا المصنع في «عين زيفان»، ستنهار المستوطنة بأكملها.

كان أولئك الذين لم يقتنعوا بحجج «ألون»، أولاً وقبل كل شيء، ممثّلين عن مؤسسة الدفاع التي كانت تضع احتياجات الفلسطينيين الاقتصادية في صلب اهتمامها لأسبابٍ أمنيّة. أوضح منسّق العمليات الحكومية في الأراضي المحتلة «شلومو غازيت» لوزراء الحكومة أنّ لجنة الرؤساء التنفيذيين قد نظرت بالفعل في السوق «الإسرائيلية» في قرارها بمنح تصريحٍ لمصنع في نابلس، متساءلاً عن سبب الخوف من المنافسة مع مصنع الصنادل «الإسرائيلية» بما أنّه سيتمّ بيع معظم المنتجات في الخارج. 

 واصل «ألون» معارضته الشديدة للتصريح، وقال رداً على المزاعم المختلفة ضدّه إنّ القيود التي فرضتها لجنة الرؤساء التنفيذيين على التسويق داخل حدود الدولة لن تكون فعّالةً؛ فمن الممكن تهريب الصنادل بسهولةٍ دون الكشف عنها للجمارك. 

استمرّت المناقشات والتأخيرات والاختبارات حول هذا الموضوع لأشهر. أراد معظم أعضاء الحكومة أن يروا مستوطنة «عين زيفان» مزدهرة، واعتقدوا أنّ القيود التسويقية التي فرضها الرؤساء التنفيذيون على رجل الأعمال من نابلس أكثر من كافيةٍ لحماية المصنع الجديد من المنافسة، وانتهى الاصطدام بحلٍّ وسط صاغه وزير النقل «موشيه كرمل»، وقبلته الحكومة في الأوّل من حزيران 1969، ويفيد بمنح الترخيص للمصنع النابلسيّ، وتعويض مستوطني «عين زيفان» بالمقابل إذا أفلس مشروعهم، دون أن يشكّل خطراً على مستوطنتهم الجديدة. بذلك، أصبح من الواضح أنه بإمكان النمو الصناعيّ في «المناطق» تهديد الاستيطان اليهوديّ الجديد.

لم يكُن الجدل حول مصنع الصنادل سوى البداية لنقاشٍ أوسع حول التصنيع في الأراضي المحتلة [عام 1967]. في اجتماعٍ للجنة الوزارية للأراضيّ المحتلّة في 10 نيسان 1969، وافق معظم الوزراء، بمن فيهم رئيسة الوزراء «غولدا مائير» على حلٍّ مؤقت أو وسط يمكنهم الاتفاق عليه. كانت السياسة المرغوبة لحلّ مشكلة البطالة في «المناطق» مزيجاً من جلب العمال إلى «إسرائيل» من جهة، وخلق المزيد من فرص العمل في «المناطق» من جهةٍ أخرى. كان جلب المزيد من العمال إلى «إسرائيل»، باستثناء أولئك الذين يعملون هناك بالفعل، أمراً بسيطاً ورخيصاً بالنسبة لهم. في الواقع، كانت موافقة الحكومة «الإسرائيلية» هي العائق الوحيد بين العاطل عن العمل في «المناطق» وسوق العمل «الإسرائيلي» الذي يبحث عن عمالة رخيصة. 

أمّا خلق وظائف جديدةٍ في «المناطق»، فكانت قضيةً أكثر تعقيداً. يتطلّب هذا استثمار الموارد والتخطيط الاقتصاديّ المتعمّق. ولبحث المسألة، كلّف الوزراء الفريق الوزاريّ بإعداد خطّة عملٍ حول هذا الموضوع. بعد حوالي شهر، في 4 أيار 1969، قدم الفريق خطّةً أوّليّةً للحكومة. افتتحت الخطة بشرط أنّه، وما عدا بعض الاستثناءات، لا يهتمّ المستثمرون اليهود والعرب بتأسيس مصانع جديدةٍ في «المناطق». ولا يلجأ المستثمرون «الإسرائيليون» إلى الأراضي المحتلّة لأنّهم لا يتلقّون مزايا وحوافز من الحكومة كما هو الحال في مناطق التطوير في «إسرائيل»، كما لا يهتم روّاد الأعمال المحليون بالمخاطرة مالياً بفترةٍ يسودها عدم اليقين السياسي بشأن مستقبلهم.

كانت توصيتهم الأساسية هي تشجيع المستثمرين «الإسرائيليين» والشراكات بين المستثمرين اليهود والعرب لإنشاء مصانع جديدةٍ في «المناطق» من خلال حوافز رسميّة تكون مماثلةً لتلك المقدّمة في مناطق التطوير في «إسرائيل».

كان السؤال الرئيسي الذي ظلّ مفتوحاً في توصيات طاقم العمل الوزاريّ: ما هي الحوافز التي يمكن، ومن الصواب عرضها، على المستثمرين المحتمَلين؟ أُحيل ذلك إلى قرار أعضاء اللجنة الوزارية بخصوص «المناطق». وفي جلسة عُقدت في 6 حزيران 1969، قدّم المدير العام لوزارة التجارة والصناعة «دافيد غولان» الموقف المُقتَرح، وهو أنّ المصانع الجديدة ستقام في «المناطق» فقط إذا قامت «إسرائيل» بتقديم الفوائد لها حسب الحدّ الأقصى الذي يقترحه القانون لتشجيع الاستثمار الرأسمالي. 

اختلف ممثّل وزارة المالية «ابراهام اغمون» مع موقف «غولان» بسبب فجوات الأجور بين «المناطق» و«إسرائيل»، قائلاً إنّه، بذلك، سيتمكّن روّاد الأعمال في «المناطق» من التمتّع بميزة الأجور المنخفضة للعمّال، وهو ما يمثل حافزاً بحدّ ذاته. في قطاع غزة، على سبيل المثال، كان متوسّط ​​الأجر اليومي أربعة شيكل، بينما كان في «إسرائيل» 23 شيكل، موضحاً أنّ متوسط ​​الفارق كبير للغاية، لدرجة أنّه من غير المعقول منح حوافز متساويّةٍ من خزائن الدولة على جانبي «الخط الأخضر». بالمقابل، اتّفق المهنيون على ضرورة توفير ضمانٍ سياسيّ للمستثمرين «الإسرائيليين»، كنوعٍ من شهادة التأمين، التي تؤكّد على منح روّاد الأعمال تعويضاتٍ عن كافة نفقاتهم في حالة تعرّض أعمالهم للأذى بفعل التطوّرات السياسية أو انسحاب «إسرائيل» غير المتوقع مثلاً من «المناطق». فقد كان مفهوماً أنّ المستثمرين لن يختاروا وضع أموالهم على وجه التحديد في مناطق عليها نزاع سياسي ولا يزال مستقبلها غير واضح.

كان الاتجاه الذي بدأ بالظهور في الحكومة واضحاً: ستُدخل «إسرائيل» شكلاً من أشكال التصنيع في الضفة الغربية وقطاع غزة. قرّرت اللجنة الوزارية أنّه من أجل تشجيع هذا التصنيع، سيتمّ تقديم حوافز للمستثمرين «الإسرائيليين» أو «الشراكات اليهودية العربيّة» بموجب القانون «الإسرائيلي» لتشجيع الاستثمار الرأسمالي، ولكن بشكلٍ محدود (بدون منح) بسبب فجوات الأجور بين الجانبين. أُعطيت الأفضلية للصناعة كثيفة العمالة وغير كثيفة رأس المال. وأيضاً في هذه الحالة، لأنّ كل شيكل جديد يتمّ استثماره في الصناعات كثيفة العمالة يوفّر فرص عملٍ أكثر من الصناعات الأخرى. قدّمت الحكومة ضماناً سياسياً بنسبة 100% لجميع «الإسرائيليين». وهكذا، بالإضافة إلى حوافز القانون لتشجيع الاستثمار الرأسمالي، قرّرت الحكومة في اجتماعها في 4 تمّوز 1969 زيادة عدد العاملين من «المناطق» في «إسرائيل» من 5000 إلى 19550 عامل. وكما قيل، لن تزيد هذه الخطوة من عدد العمال الفعليّ بشكلٍ كبير، ولكنّها ستنظّم عمل «غير النظاميين» وتمكّن من مراقبتهم. 

لم تقرّر اللجنة الوزارية المعنيّة بـ «المناطق» أنّ السماح بالعمل في «إسرائيل» سيوفر حلّاً لمشكلة البطالة فيها، ولكنّها كانت تلك النتيجة في نهاية المطاف. فعلى الرغم من وضع الحكومة حدّاً أقصى لعدد تصاريح العمل، عندما كانت هناك حاجة لها في الاقتصاد «الإسرائيلي»، رفعت الحكومة الحدّ أكثر فأكثر. وتخبرنا المناقشة التي أجرتها اللجنة الوزارية للاقتصاد في كانون الأول 1970، بعد أكثر من عامٍ على وضع السياسة الأصلية حول الموضوع، عن كيفية ازدياد عدد عمّال «المناطق» في «إسرائيل»، على عكس النوايا الأصلية. في هذا الاجتماع، سعى وزير العمل «ألموغي» إلى زيادة حصّة تصاريح العمل في «إسرائيل» للعاملين من «المناطق» إلى 30 ألف. 

حضر الاجتماع ممثلو التحالف الأمني ​​الاقتصادي، مثل المحافظ «هورويتز» و«غازيت» منسّق العمليّات في «المناطق»، وقدّموا نفس الاعتبارات التي قدّموها في السابق لصالح مثل هذا القرار. هذه المرّة أيضاً، أعرب وزير المالية «سابير» عن معارضته للاقتراح، ولكن بعد تهدئة مخاوفه من فقدان العمال «الإسرائيليّين» في المناطق المدروسة مصدر رزقهم بعد المنافسة مع العمال من «المناطق»، استندت حججه هذه المرّة على الجانب الأخلاقي فقط. أخبر أصدقاءه أنّ قراراتهم خلقت أشخاصاً من «الحطّابين وسقاة المياه» المصمَّمين لخدمة المسؤولين في بنك «إسرائيل» والمهندسين في الصناعة العسكرية.

 ومع ذلك، بدا وكأنّه أدرك بدوره نهاية معركته عندما سارع لإعلان أنّه لن يصرّ على رأيه إذا لم يتمّ قبوله. ردّ «غازيت» على «سابير» بالقول إنّ قوى السوق كانت قويةً للغاية، وبالتالي لم تترك لهم أيّ خيار. وأضاف أنّ أرباب العمل «الإسرائيليين» مهتمون بالأيدي العاملة، وسكّان «المناطق» مهتمون بالحصول على تصاريح عمل. كما اتضح، لم يجتذب تمديد القانون لتشجيع الاستثمار الرأسمالي في «المناطق» المستثمرين، على الرغم من الحوافز. اقترح «غازيت»في هذا الوضع أنّ السياسة الأكثر منطقيةً هي الانضمام إلى قوى السوق مع الإشراف «من أعلى»، وعدم الاستمرار في محاولة توجيههم. واتّفق معه معظم الوزراء.

مع ازدياد عدد العمال من «المناطق» في «إسرائيل»، تزداد الحاجة إلى خلق مصادر عملٍ جديدةٍ في «المناطق». ومع تقلّص فرص الفلسطينيين في العثور على مصدر رزقٍ، يتزايد الطلب على تصاريح العمل في «إسرائيل». نتيجةً لذلك، ارتفع عدد العمّال الذين دخلوا «إسرائيل» من الأراضي المحتلّة بتصاريح عملٍ إلى حوالي 64 ألف عاملٍ في عام 1974، وبالإضافة إلى هؤلاء استمرّ تدفق الفلسطينيين بدون تصاريح، وكان عددهم يعادل أولئك النظاميين تقريباً. ووفقاً لهذه الزيادة، انخفض عدد العاطلين عن العمل في «المناطق» حتى عام 1973 وبلغت 8.0٪ فقط.

ذوو الياقات البيضاء

كانت حلول التشغيل المختلفة التي أقرّتها الحكومة في اجتماعاتها، في حزيران وتموز 1969، تهدف إلى توفير سبل العيش لسكّان «المناطق» من خلال العمل اليدويّ، سواءً في «إسرائيل» أو في «المناطق». ليس من قبيل المصادفة أنّه تمّ استبعاد الأكاديميين من القوى العاملة الفلسطينية، سواءً كانوا أطباء أو مهندسين، من برامج التوظيف الحكومية. كان السبب الرئيسي هو الرغبة في منع المنافسة مع القوى العاملة الأكاديميّة اليهوديّة في «إسرائيل». وتعتبر القوى العاملة المتعلّمة والماهرة في دولة «إسرائيل»، كما هو الحال في أيّ دولة أخرى، جزءاً لا يتجزأ من تنميتها الاقتصادية وهي ضرورية للازدهار، لأنّه بدون الأكاديميين كان يمكن أن يكون هناك اعتماد على المعرفة الخارجية والخبراء الأجانب. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك خوف في المجتمع «الإسرائيلي» من أنه في أوقات الأزمات، قد يهاجر العمال ذوو الياقات البيضاء الأوائل من «إسرائيل»، لأنهم يفضّلون ذلك على البطالة أو التوظيف في الوظائف المتدنية، وقد قيل إنّ الحرف اليدوية يمكن أن تلائم جماهير المهاجرين الجُدد، خاصةً من الدول الإسلامية، الذين كان مستوى تعليمهم منخفضاً نسبياً (ولم يكُن لديهم الكثير من الرفاهية).

أصبحت الهجرة إلى «إسرائيل» معتمدةً أيضاً على توفير فرص عملٍ للأكاديميين في أواخر الستينيّات، عندما بدا أنّ اليهود من الدول الغربيّة هم المصدر الأخير الذي لديه إمكانية للهجرة على نطاقٍ واسع (طالما ظلت البوابات السوفيتية مغلقة). صحيح أنّ يهود تلك الدول لم يروا في «إسرائيل» وجهةً جاذبةً لهم من حيث التوظيف. ففي النهاية، كان العرض الرئيسي للعمالة في «إسرائيل» هو العمل اليدوي في الزراعة والصناعة، وكان لديهم مهن وأكاديميون.

لكن، وبسبب نمو الصناعات الدفاعية في «إسرائيل» بعد حرب الأيام الستة، بدأت عروض الأعمال للمهنيين الأكاديميين في «إسرائيل» في الازدياد. منذ أوائل الستينيات، خطّطت القيادة «الإسرائيلية» لتطوير صناعاتٍ كثيفة المعرفة، مثل صناعة الإلكترونيات، من أجل زيادة حجم الصادرات من «إسرائيل» وتحقيق الاستقلال الاقتصادي.

وكان مفهوماً أنّه لا يُمكن تحقيق هذه الأهداف من خلال الصناعات التقليدية التي لم تكُن منتجاتها مطلوبةً بشدّة في الأسواق الدولية. وبعد أن اكتسبت «إسرائيل» مكانةً عسكريّةً كبيرةً في أعقاب الحرب، ركّزت الحكومة استثماراتها على تطوير صناعة الدفاع المحليّة؛ هذه الصناعة التي كانت غنيّةً بالمعرفة بشكلٍ أساسيّ ونجحت في النموّ بسرعة. وفي وقتٍ مبكر من عام 1971، كانت الصادرات الدفاعية هي صناعة التصدير الرئيسية لـ «إسرائيل». لذلك، ازداد الطلب على العمالة الماهرة لهذه الصناعة. ولكن، كانت هناك استجابة جزئية لهذا الطلب فقط بين أولئك الحاصلين على شهاداتٍ أكاديميّة في «إسرائيل»، والذين زاد عددهم في تلك السنوات. في الواقع، وفي وقتٍ مبكّرٍ من عام 1968، أبلغ التنفيذيون في صناعة الدفاع وزراءَ الحكومة وأعضاء الكنيست بشأن النقص الحاد في العمالة الماهرة لصناعتهم المزدهرة. وقيل إنّ هجرة اليهود من الدول الغربيّة، بحسب القيادة «الإسرائيلية»، يمكن أن تسدّ النقص في العاملين في الصناعات الدفاعية وتحسّن الوضع الديمغرافي لليهود بين النهر والبحر.

لأسبابٍ أمنيّة، رفضت الحكومة بشكلٍ قاطعٍ إصدار تصاريح عملٍ للعرب في الصناعات العسكريّة، حتّى العمل اليدوي. أيضاً، كان هناك رأي بين وزراء الحكومة يدعو لعدم توظيف الأكاديميين من «المناطق» في «إسرائيل» في أيّ عملٍ مهنيّ محجوزٍ لذوي الياقات البيضاء اليهود، والذي من الممكن أن يأتي على حساب رضا الأكاديميين «الإسرائيليين» وعلى حساب الهجرة الناجحة وفرص الاستيطان للمهاجرين المحتملين من الدول الغربية. وتوقّعت الحكومة «الإسرائيلية» أن تؤدي نتائج الحرب إلى موجة هجرةٍ لليهود من جميع أنحاء العالم، خاصةً اليهود من الدول الغربية ذوي المهن الأكاديمية. لم تكُن هذه التوقعات بعيدةً عن الواقع. فمن أتوا من جميع أنحاء العالم، خاصةً من البلدان المتقدّمة، كان لدى 30٪ منهم مهن أكاديمية. وبين حزيران 1967 ونيسان 1970، هاجر حوالي 100,000 يهودي إلى «إسرائيل» (بما في ذلك الطلاب، وكانت هجرتهم من أهم اهتمامات الحكومة «الإسرائيلية» لأسبابٍ اقتصادية وديموغرافية، ولم تكُن تنوي تعريض استيعابهم الناجح للخطر من خلال السماح للعاملين الفلسطينيين ذوي الياقات البيضاء بالعمل في «إسرائيل». علاوةً على ذلك، لم يرغب أعضاء الحكومة في ضمان استيعاب هذه الهجرة فحسب، بل كانوا يطمحون أيضاً إلى أن يفضّل المثقفون العرب المحليون الهجرة من «المناطق»، حيث فرص العمل قليلة، إلى بلدان أخرى حيث يمكُن لهم إيجاد مصادر رزق بسهولةٍ نسبيّاً بفضل مهاراتهم.

 بالتالي، وبدون فرصٍ للعمل في الأراضي المحتلة، كان من المتوقع أن يتمّ دفع هذه الطبقة المتعلّمة للهجرة إلى بلدانٍ أخرى. وفي أروقة الحكومة، اعتبُرت هذه الهجرة مرغوبةً بشكلٍ خاصّ، وذلك لأنّه كان يُنظر إلى الطبقة المتعلّمة في المجتمع الفلسطيني على أنها الأكثر وعياً وطنيّاً وأكثر تماسكًا وعداءً لـ «إسرائيل». واعتقد أعضاء القيادة «الإسرائيلية» أنّه إذا غادر المتعلمون الفلسطينيون إلى دولٍ أخرى، فإن درجة التخريب السياسيّ من جانب السكّان للحكم «الإسرائيلي» في «المناطق» سوف تتضاءل.

ملخص واستنتاجات

في نهاية حرب الأيام الستة، رأت القيادة «الإسرائيلية» أنّ القوى العاملة الفلسطينية على وشك الانفجار في وجهها إذا لم تنتهج سياسةً حكيمة، وكانت هناك خلافاتٌ عديدة بشأن ذلك. ففي السنة الأولى للاحتلال العسكري، صمّم وزير الدفاع «ديّان» سياسةً سُمّيت بالـ «المسار الذهبي» تهدف لموازنة هدفين متعارضين: إقامة إدارة احتلالٍ مستقرّةٍ من جهة وتشجيع هجرة الفلسطينيين من جهةٍ أخرى. منذ السنة الثانية للحكم في «المناطق»، سقط الحصن لصالح أوّل اعتبارين. دعا التحالف الدفاعيّ الاقتصادي، برئاسة «ديّان»، إلى توظيف العاطلين عن العمل من «المناطق» في سوق العمل «الإسرائيلي» من أجل تشديد الإجراءات الأمنيّة ومراقبة السكّان من جهة، ولتقريب «إسرائيل» من الهدف المنشود المتمثّل في الاستقلال الاقتصادي وإرضاء تزايد الطلب على الأيدي العاملة في الاقتصاد «الإسرائيلي»، من جهةٍ أخرى. اعتقد أولئك المعترضين على هذا التحالف أنّ جلب العمال من «المناطق» إلى «إسرائيل» سيُعرّض الأهداف القومية الرئيسية للخطر، وهي توزيع وتوطين السكان اليهود، والتصنيع في الأطراف، وتشجيع الهجرة العربيّة، وفصل اليهود عن العرب، واستمرار فكرة العمل العبري كروحيّة قوميّة مؤسِّسة. وبالنسبة لهم، كانت السياسة الأكثر صحّةً هي خلق فرص عملٍ «هناك» للعاطلين عن العمل، أيّ في الأراضي المحتلّة عام 1967، ولكن سرعان ما أصبح واضحاً لهم أن التنمية في «المناطق» تتعارض أيضاً مع الأهداف القوميّة. 

عكست القرارات التي اتّخذتها الحكومة عام 1969 بشأن القوى العاملة الفلسطينية محاولةً لاعتماد مسارٍ وسيط. وقامت السياسة الجديدة على أساس تطوير وظائف جديدةٍ في «المناطق» من جهة، وعلى زيادة حصّة تصاريح العمل في «إسرائيل» للياقات الزرقاء المتدنّية من جهةٍ أخرى. وكانت النتيجة إهمال فكرة التصنيع الكبير في «المناطق».

وجّهت آلية مكاتب العمل العمالَ الفلسطينيّين إلى سلّةٍ محدودةٍ من الصناعات في «إسرائيل»، والتي كان بحاجةٍ للعمالة الرخيصة. كانت هذه الوظائف، في الأساس، وظائف مادّية وغير مهنيّة ومؤقتة في «المناطق» كثيفة العمالة، حيث أتاحت إضافة العمّال زيادة الإنتاج والصادرات. في عام 1975، على سبيل المثال، عندما كان 63900 فلسطينيّ يعملون بالفعل في «إسرائيل»، عمل حوالي 90 % منهم في مهنةٍ واحدةٍ فقط من وظيفتين: الزراعة أو البناء. اتّسمت هذه الصناعات بالعمل الموسميّ وغير المهني، ولم تجد عدداً كافياً من العمال «الإسرائيليين» المستعدّين لشغلها، على الأقل ليس بالأجور التي يتقاضاها سكان «المناطق». 

منذ عام 1967، لم يٌسمح للفلسطينيين أصحاب المهن الأكاديمية بالعمل في «إسرائيل». وتُظهر المناقشات الوزارية في أواخر الستينيّات أنه تمّ توفير وظائف ذوي الياقات البيضاء، خاصةً في الصناعات الدفاعية، للإسرائيليين والمهاجرين المحتمَلين من الدول الغربية. ليس هذا فقط، ولكن يبدو أنّ الوزراء كانوا يطمحون إلى استخدام بطالة الأكاديميين في «المناطق» لتشجيع هجرتهم إلى دول أخرى، وبالتالي إبعاد أصحاب الوعي الوطني الأكثر تماسكاً عن المجتمع الفلسطيني. كانت نتيجة هذه السياسةفريدة: فكلّما ارتفع مستوى تعليم الفلسطينيين، قلّ احتمال عيشهم في بلدهم.

ومثلما كان صانعو السياسة «الإسرائيليون» يأملون ويؤمنون، دفع نقص العمل للشباب الفلسطيني المتعلّم هذه الفئة الاجتماعية، أكثر من أيّ مجموعة أخرى في المجتمع الفلسطيني، إلى اختيار خيار الهجرة.

ستسمح آلية مكاتب العمل للحكومة بحماية توظيف «الإسرائيليين»، خاصةً المهاجرين الجُدد من الدول الإسلامية في قطاع الصناعة في الأطراف بسبب المنافسة مع سكان «المناطق». في عام 1973، تلقّى 18% فقط من جميع العاملين من الأراضي المحتلة [عام 1967] تصريحاً للعمل في الصناعة «الإسرائيلية». وفي بداية ذلك العام، حصل 1% فقط من جميع الفلسطينيين العاملين في بيسان على تصريحٍ للعمل في الصناعة المحلّية، وكانت نسبة الفلسطينيين العاملين في الصناعة في «نتيفوت» 4%، وفي «أوفاكيم» 10%، مقارنةً بـ 48% من جميع العمّال من «المناطق» في «تل أبيب»، الذين حصلوا على تصريحٍ للعمل في صناعة المدينة، وحصل 46% من جميع العمال من مناطق «بتاح تكفا» على تصريحٍ للعمل في الصناعة و 22% في حيفا.

وإذا اكتشفت وزارة العمل أنّ هناك إسرائيليين عاطلون عن العمل في الصناعة التحويليّة أو في أيّ صناعة أخرى، يُمكن للوزارة إلغاء تراخيص سكان «المناطق» دفعةً واحدة. وبهذه الطريقة، تمّ تنفيذ مطلب الوزير «سافير» لحماية «العمال الضعفاء» في الأطراف. وعلاوةً على ذلك، خلقت هذه الآلية تقسيماً عرقيّاً طبقيّاً دائماً، حيث تمّ وضع العمّال من «المناطق» في الأسفل كعمّال غير مهرة، وكانت قدرتهم على الصعود المهني الاحترافي ممنوعةً بالتدريج.

هناك أوجه تشابهٍ بين الاعتبارات التي حفّزت أعضاء الحكومة فيما يتعلق بتوظيف الفلسطينييّن في «إسرائيل» في أواخر الستينيّات، وتلك التي دفعتهم فيما يتعلّق بدمج عرب «إسرائيل» في الاقتصاد اليهوديّ في أواخر خمسينيّات القرن الماضي. حتى نهاية الخمسينيّات، كانت الحكومة العسكرية «الإسرائيلية» تحمي العمال اليهود من المنافسة. ولكن في نهاية العقد، غيّرت الحكومة سياستها وبدأت في السماح للعمالة العربية في الاقتصاد اليهودي بسبب زيادة الطلب على العمّال في البناء والزراعة، والكشف عن زيف الآمال في «إسرائيل» في نزوحٍ جماعيّ آخر للعرب من البلاد. وعلى الرغم من أوجه التشابه بين العمليتين اللتين فصل بينهما عقد واحد فقط، فلم يتمّ ذكر السياسة المتعلقة بـ [فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948]، باعتبارها سابقة يُمكننا التعلّم منها، في أيّ من المناقشات الحكومية في أواخر الستينيات. 

أعاد احتلال «المناطق» فتح موضوع العمل العبري الذي يبدو بالفعل منتمياً إلى الماضي. لكن بحلول نهاية الستينيّات، لم يعد يُعتبر العمل العبري، على الأقل العمل اليدويّ، عاملاً مؤثراً في زيادة الهجرة كما كان في أيام حكم الانتداب البريطاني. يُزعم أنّ المهاجرين اليهود من الدول الغربية لا يريدون الهجرة إلى «إسرائيل» والعمل في مواقع البناء والحقول الزراعية، كما فعل يهود أوروبا الشرقية في عشرينيّات وثلاثينيّات القرن الماضي. ومن ثمّ، إذا كانت هناك أيّة قيمة عمليّة متبقيّة لفكرة العمل العبري، فقد كانت متعلّقةً بموضوع الوظائف المكتبية. 

وعندما تعامل الوزراء «الإسرائيليون» المستقبليون مع القوى العاملة الفلسطينية في «المناطق»، لم يشاركوا ممثلي السكّان المحتلين أو يتشاوروا معهم حول القرارات التي اتّخذوها بشأن حياتهم. بصرف النظر عن الاهتمام الذي أبداه أعضاء الحكومة في التداعيات الديمغرافية، فإنّ التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لقراراتهم على حياة الفلسطينيين في «المناطق» لم تهمهم، لكنّ هذه التداعيات كانت مأساوية. 

في عام 1967، كان العمال الزراعيون يمثلون حوالي 50٪ من القوة العاملة في الضفة الغربية. لكن بعد عقدين، ومع انتقال شباب الريف من الزراعة إلى العمالة المستأجرة في «إسرائيل»، أصبحوا يشكّلون حوالي 25٪ فقط. رفعت الأجور العالية في «إسرائيل» من مستوى معيشتهم وأدّت إلى ارتفاعٍ حادّ في مستوى استهلاك سكّان الأراضي المحتلة، إلى جانب ارتفاع مستوى المعيشة. بالمقابل، انطوى العمل في «إسرائيل» على الشعور بالفناء والزوال والتجارب المذلّة. وأدّى أيّ تغيير سلبيّ في الاقتصاد «الإسرائيلي» إلى الفصل الفوري للعمّال، وأصبحوا يعتمدون بشكلٍ كاملٍ على نعمة دائرة التوظيف والإدارة العسكرية لتجديد رخص عملهم. تلقى الكثير، وإن لم يكن جميعهم، معاملة ازدراء وتعالٍ من أرباب عملهم «الإسرائيليين»، حيث كانوا يميلون إلى اعتبار العمّال من الأراضي المحتلة غير قادرين على أداء مهام أكثر تعقيداً من العمل اليدوي، ولم يُمكن باستطاعتهم تغيير السياسة الحكومية. حتّى أنّهم مُنعوا من الانضمام إلى نقابات أصحاب عملهم الذين حاولوا، ومع ذلك، فقدوا تراخيصهم على الرغم من تشكيل سياسة التوظيف عنصراً رئيسياً في السيطرة على «المناطق» لمدّة عقدين على الأقل. 

في عام 1987، كان العمّال الذين جرّبوا العمل في «إسرائيل» كتجربة إذلالٍ مستمرّ، والمتعلّمون ذوو الياقات البيضاء الذين ظلّوا محبطين من البطالة، هم من وقفوا في الخطّ الأوّل للانتفاضة ضدّ الحكم «الإسرائيلي».