يقدم لنا هذا المقال شذرة من شذرات العمل النقابي الفلسطيني قبل العام ١٩٤٨، متخذاً من شخصية جورج منصور مدخلاً لإظهار دور العمل النقابي العمالي في رفد الحركة الوطنية العربية والفلسطينية حينذاك، ومساهمة تلك الحركة في دعم العمل الثوري في فلسطين. تظهر المقال أهمية الحركة العمالية في صياغة الإضراب الكبير والذي استمر لمدة ستة أشهر في العام ١٩٣٦. كما يظهر ارتباط الحركة العمالية الفلسطينية مع أشكال مختلفة من مناهضة الاستعمار، وعدم استقرارها على استراتيجيات مطلبية من المنظومات السياسية القائمة. 

*****

في عام 1937 تم نشر كتاب «العامل العربي في ظل الانتداب على فلسطين». [1] وفي مخاطبته القارئ الإنجليزي، كشف جورج منصور الآثار الكارثية للاستعمار الصهيوني على الطبقة العاملة الفلسطينية، وعرض العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى الإضراب الكبير عام 1936. المؤلف، الذي كان سكرتير جمعية العمال العرب في يافا آنذاك، أصرّ على تكامل المطالب العمالية مع التطلعات الوطنية الفلسطينية، وقدّمت حياته ونضالاته وكتاباته شهادة ثمينة عن صراعات عصره وطرق سردها.

ولادة الحركة العمالية الفلسطينية

كان جورج منصور شخصية بارزة في الحركة العمالية الفلسطينية الناشئة تحت الانتداب البريطاني. ولد في الناصرة عام 1905، والتحق لأول مرة بمدرسة ابتدائية محلية قبل أن ينتقل إلى القدس للالتحاق بمدرسة إنجيلية خاصة حيث تعلم اللغة الإنجليزية. لكنّه ترك المدرسة دون تخرج وعاد إلى مسقط رأسه حيث عمل خبازًا لبعض الوقت ثم مدرسًا. في غضون ذلك، وُضعت فلسطين، التي كانت لا تزال مقاطعة عثمانية في بداية القرن، تحت الحكم البريطاني. هذا الوضع الجديد الذي شكّل فرصة ذهبية للحركة الصهيونية، التي وجدت في الانتداب البريطاني الدعم الحاسم الذي احتاجته للنجاح في مشروعها الاستعماري.

غادر جورج منصور فلسطين لأول مرة في النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي، حيث ذهب أولاً إلى العراق – التي كانت تحت الحكم البريطاني أيضًا – حيث عمل لمدة عامين كمدرّس. ثم أمضى بعض الوقت في بريطانيا. وعند عودته إلى فلسطين استقرّ في يافا وأسّس مصنع أحذية، المصنع الوطني للأحذية، على أمل دعم صناعة عربية قادرة على منافسة الإنتاج الصناعي اليهودي أو الأجنبي. لكنه أفلس واضطر إلى تصفية شركته في عام 1934. وفي الوقت نفسه، انخرط في أنشطة نقابية وسياسية، ربما كشيوعي، ولاحقًا كعضو في حزب الاستقلال العربي الناشئ، والذي ميز نفسه على الساحة السياسية بمواقفه الشديدة المناهضة للاستعمار.

كانت الحركة النقابية في فلسطين لا تزال في مهدها، [2] على الرغم من أن الحزب الشيوعي الفلسطيني كان منذ العشرينيات يشجع العمال العرب على الانضمام إلى المنظمات المرتبطة بالهستدروت الصهيونية. من جانبها، دعت الجماعات القومية، بما في ذلك حزب الاستقلال، إلى إنشاء منظمات عمالية عربية مستقلة. اكتسب هذا الاتجاه الثاني اليد العليا تدريجياً، وأنشئت أخيراً جمعية للعمال العرب في فلسطين عام 1925 في مدينة حيفا. وعقدت الجمعية أول مؤتمر لها عام 1930 في حيفا أيضاً، وبحضور وفود من عدة مدن أخرى. خلفتها جمعية العمال العرب التي تأسست أولاً في القدس في تموز 1934 ثمّ تلاها فرعٌ آخر في يافا والذي تأسّس في أيلول من العام نفسه.

انضم جورج منصور إلى جمعية العمال العرب في يافا وقت تشكيلها، وسرعان ما أصبح سكرتيرها، وكان رئيسها ميشال متري مهندسًا شابًا عاد لتوّه من أمريكا اللاتينية. والذين أسهمت موهبتهم كمنظمين في نجاح النقابة في يافا. وكانت المهمة الرئيسية للنقابة هي حماية وظائف العمال العرب المهدّدين بأعمال المنظمات العمالية اليهودية، وعلى نطاق أوسع، من قبل عجلة الاقتصاد المحلي. وفي سبيل تسهيل هجرة المستوطنين الجدد وزيادة وزنهم الديموغرافي في فلسطين، تبنّت الحركة الصهيونية في وقت مبكر جدًا مبدأ إنشاء جيوب اقتصادية تعطي الأولوية لـ «العمل اليهودي». كان هذا أيضًا اختيار الإدارة البريطانية التي فضّلت المستوطنين في تخصيص الوظائف والمشاريع «الحكومية ».

اتّبعت نقابة العمال اليهودية «الهستدروت» ومنذ إنشائها عام 1920، سياسة عدوانية بـ «قهر العمل» على حساب العمال العرب، الذين يتقاضون رواتب أقل، وإن كانت مهاراتهم متساوية. سياسة أدّت، بحسب منصور، إلى بطالة مأساوية بين العمال الفلسطينيين. ويقوم «الهستدروت» بتجنيد «حرّاس العمل» والذين يقومون بدورهم، ومن خلال التهديدات المسلحة، بترهيب أرباب العمل والعمال. وفي تشرين الثاني 1934، دفع مقتل فلسطيني من يافا جمعية العمال العرب إلى مساءلة السلطات البريطانية وإدانة الأمر في الصحافة،  وبدورها حشدت المتطوعين العرب للوقوف في وجه الميليشيات الصهيونية في المصانع ومواقع البناء.

يتحدث جورج منصور عن بعض المعارك المنتصرة، ولا سيّما عندما حاول صاحب عمل يهودي في مقلع حجارة بالقرب من يافا طرد 430 عاملاً فلسطينياً عام 1934 واستبدالهم بعمال يهود بناءً على توصية من «حراس العمل». وآنذاك، دعت جمعية العمال العرب إلى إضراب واحتلال المبنى. وبعد سبعة عشر يومًا، نجح عمال المحجر بالحصول على مطالبهم وأُعيد توظيفهم. وبالمثل، في كانون الأول 1935، تمّ تنظيم مسيرة في يافا احتجاجًا على البطالة المتزايدة الناجمة بشكل رئيسي عن الاستعمار والاحتكار اليهودي للعمل، وبهذه الطريقة ربطت جمعية العمال العرب محنة العمال العرب بحركة الغضب التي كانت تجتاح البلاد.

الإضراب الكبير عام 1936 والقضية الوطنية

في بداية عام 1936، أعدّ ميشال متري مؤتمرًا عُمّاليًا ثانيًا على أساس المؤتمر الذي عقد في حيفا عام 1930. وشارك في الاجتماع مندوبون نقابيون من إحدى عشرة مدينة فلسطينية. لعب ميشال متري وجورج منصور دورًا حاسمًا، وبالتعاون الوثيق مع القوى الوطنية، نظّما الاحتجاج على السياسات البريطانية والصهيونية. كما حضروا أيضًا المؤتمر الشعبي الكبير الذي عقد في نابلس في تشرين الثاني 1935، بمناسبة التقارب بين التنظيمات العمالية والحركة الوطنية. كما ارتبطوا بالاجتماع العام الذي عقد في كانون الثاني 1936 في القدس تضامناً مع النضال ضد الاستعمار الفرنسي في سوريا.

كانت هذه لحظة حاسمة بالنسبة لمستقبل البلاد. في نيسان 1936 اندلعت انتفاضة في يافا، والتي ستتوسع إلى ثورة شاملة ومنتشرة في جميع أنحاء البلاد. بدأ الفلسطينيون إضرابًا عامًا استمرّ ستة أشهر، والذي نظّم لمقاطعة الإدارة الاستعمارية، وكذلك قطاعات الاقتصاد التي يسيطر عليها البريطانيون والصهاينة. تم تشكيل لجان الإضراب في المدن والقرى، فيما قررت الأحزاب السياسية الفلسطينية الرئيسية تشكيل لجنة عربية عليا لتحمل مطالب المضربين. وسرعان ما أعلنت الإدارة البريطانية حالة الطوارئ وشرعت في قمع الاحتجاجات المتصاعدة. وفي 8 أيار، دعت لجان الإضراب المجتمعة في القدس الفلسطينيين إلى رفض دفع الضرائب، كما أغلقت المحلات التجارية وبقي العمال في منازلهم وتوقف ميناء يافا عن العمل.

ساهمت جمعية العمال العرب بخبرتها في تنظيم الإضراب والمظاهرات. أما جورج منصور، فقد شارك في صنع القرار وصياغة البيانات، وانضم إلى الاعتصامات والمسيرات والإضرابات، وقد تمّ القبض عليه مع ميشال متري بسرعة من قبل السلطات البريطانية، ولكن هذا لم يمنعهما من دعم الاحتجاج بشكل فعال من مكان اعتقالهما؛ أولاً في عوجة الحفير، ثم في الصرفند. مع سجناء فلسطينيين آخرين، بمن فيهم أكرم زعيتر – أحد الفاعلين البارزين في تلك الحركة الاحتجاجية وأحد مؤسسي حزب الاستقلال، الذي نقل الأحداث في مذكرته- [3] فوقّعوا ونشروا عدة بيانات تحدثوا فيها باسم المحتجين وندّدوا بالقمع.

بالإضافة إلى الاعتقالات والإعدامات العديدة، تمّ هدم عدة مئات من المنازل في جميع أنحاء البلاد. وبلغ القمع ذروته في 18 حزيران 1936 بتدمير أحياء يافا القديمة، وتُرِك آلاف السكان بلا مأوى. واستجابة لتوجيهات زعماء دول العربية المجاورة، دعت اللجنة العربية العليا إلى «إنهاء الإضراب والاضطراب». ولم يتم الإفراج عن ميشال متري وجورج منصور إلا بعد تأكيد انتهاء الإضراب، في خريف عام 1936. وعلى إثر ذلك، ضعفت جمعية العمال العرب كثيراً في كلٍّ من يافا وغيرها بسبب القمع وفشل الإضراب. بالإضافة إلى ذلك، قُتل ميشال متري بعد أسابيع قليلة من إطلاق سراحه، دون العثور على القاتل أو إثبات الدافع. ثم اعتقلت سلطات الانتداب عدة قادة سياسيين ونقابيين فلسطينيين مرة أخرى في عام 1937.

في كانون الأول 1936، تمّ إرسال لجنة بريطانية برئاسة اللورد «بيل» إلى فلسطين للتحقيق في أسباب الانتفاضة. وقد برّأت الهيئة الملكية في تقريرها الصادر في تموز 1937 الإدارة البريطانية من كل المسؤولية وذكرت أن «إقامة الوطن القومي اليهودي كان حتى الآن في المصلحة الاقتصادية للعرب ككل».[4] كما أوصت بتقسيم البلاد إلى كيانين؛ يهودي وعربي، بما في ذلك من خلال عمليات نقل للسكان. كان هذا الموقف بالطبع غير مقبول للفلسطينيين، واكتسبت الثورة زخمًا مرة أخرى، مما أجبر البريطانيين على تعبئة المزيد من الجنود، بمساعدة العديد من رجال الشرطة اليهود الذين تم تجنيدهم لهذا الغرض، وانضمّت الميليشيات اليهودية المسلّحة في هذه الأثناء إلى القتال، وكان لسحق الثورة عام 1939 تأثير عميق على المجتمع الفلسطيني، والذي كان له تأثير كبير بدوره على نتيجة حرب 1947-1949.

سردية فلسطينية مضادة

في كانون الثاني 1937، مثَل جورج منصور أمام لجنة «بيل» كسكرتير جمعية العمال العرب. نُشرت مقتطفات من شهادته على الفور في العديد من الصحف العربية. لكنه أصيب بخيبة أمل بسبب الاستجابة الضعيفة في الخارج وقرر مخاطبة القراء الإنجليز مباشرة. وقد سعى بنشره «العامل العربي في ظل الانتداب على فلسطين» إلى كشف «سبب انسجام العامل العربي مع بقية السكان العرب في معارضته للهجرة الصهيونية». [5] كما أظهر أنّ النقابي يفهم المنطق بشكل كامل للخطاب البريطاني والصهيوني، ويقابله برواية مضادة مدروسة ومحددة وموثقة.

وفي هذا السياق، فقد أظهر منصور مغالطة الحجج التي قدمتها لجنة «بيل» واحدةً تلو الأخرى، حيث زعم أن إنشاء الوطن القومي اليهودي كان من شأنه أن يفيد العمال العرب، وكذلك السكان ككل. على العكس من ذلك، تعاملت الإدارة البريطانية مع السكان العرب معاملة غير مواتية إلى حد كبير. وزيادةً على ذلك، أكد منصور أن حصة الإنفاق على التعليم والصحة وتطوير البنية التحتية في المناطق العربية كانت ضئيلة للغاية، وعلى أي حال، فإنها لم تكن كافية إلى حد كبير فيما يتعلق بمساهمة هذا الجزء من السكان في الإيرادات الضريبية للبلاد. وقد أدت الهجرة اليهودية وغزوها للاقتصاد المحلي وسوق العمل في الواقع إلى إعاقة التطور السليم والازدهار للاقتصاد العربي.

وبالنسبة لجورج منصور، فإنّ الإدارة البريطانية التي أهملت مصالح الجزء العربي من البلاد، إذا لم تعارضها، هي المسؤولة الأولى عن كل ذلك. كما شجب الموقف الاستعماري للمنظمات الصهيونية وفي مقدمتها «الهستدروت». بدعوى رغبتها في دعم قضية العمال ضد «الإقطاع» العربي أو حتى الإمبريالية البريطانية، كان هدف النقابة العمالية اليهودية في الواقع دائمًا هو توظيف أكبر عدد من اليهود من خلال طرد العمال العرب. وكان النقابي الفلسطيني يعرف ذلك جيدًا، فقد كشفت المنظمة الصهيونية له عن نواياها الحقيقية من خلال عرض الدعم له مرارًا وتكرارًا بشرط موافقته على تشويه سمعة القيادة الوطنية الفلسطينية علنًا.

بعد شهادته، عُرض على جورج منصور مقعد في مكتب فلسطين في لندن. وعاد إلى فلسطين قبل وقت قصير من الحرب العالمية الثانية، لكن السلطات البريطانية منعته من استئناف أنشطته السياسية والنقابية. ثم قرر الاستقرار مرة أخرى في بغداد عام 1941، حيث عمل مدرسًا في حين انخرط في الحركة القومية العربية ولجان دعم لفلسطين. وبعد النكبة، التحق باللجنة العربية العليا في المنفى بالقاهرة. وهناك، نشر عدة مقالات في الصحف المصرية وواصل نشاطه في مجال التعبئة العمالية. أما في عام 1959، فقد التحق باللجنة العربية العليا التي كان مقرّها في بيروت، المدينة التي توفي فيها بعد سنوات قليلة، عام 1963.

وعلى الرغم من قلة المعلومات المتوفرة حوله، تقدم سيرة هذا الرائد في الحركة العمالية الفلسطينية رؤى قيّمة حول الدور الحاسم الذي لعبه العمال العرب في النضال الوطني في الفترة التي سبقت النكبة. فمن خلال أفعاله وكتاباته، يُظهر جورج منصور أيضًا أن الفلسطينيين أدركوا مبكرًا ضرورة عدم الاستسلام لمحاولات خصومهم لفصل النضال من أجل تحسين ظروفهم المعيشية والاقتصادية عن نضالهم التحرري الوطني. أخيرًا، هي شهادة بليغة عن النضال الذي قاده الفلسطينيون في ذلك الوقت لمعارضة الرواية الاستعمارية والصهيونية من خلال سرد قصتهم بأنفسهم، تلك المعركة التي لا تزال حية وذات مغزى حتى يومنا هذا.