بينما ينام الشهداء، في فلسطين، في غزة  المحاصَرة بسياج الموت في زمنٍ امتدّت داخله كارثة الاحتلال، ينام رجلٌ في المقبرة الشهيدة ويقضي يومه بين الشهداء باحثاً في الأرض عن مساحةٍ متبقية ليفتح قبراً وقبراً … وقبراً.. 

هكذا يُمضي سعدي بركة (أبو جواد) نهاره قبل أن تأتي مسيرة أخرى تهتف حاملةً شهيداً آخر في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، هذه المدينة الساحلية الناهضة الصامدة كالنخيل شرقاً. والتي تسقي الناس بماء الحياة عند البحر غرباً، ويحيا الناس ومعهم الشهداء في انتظار العودة. لكنّ الشهداء لا يعودون، وإن كتب الطاهر وطار «الشهداء يعودون هذا الأسبوع»، ورحلة الفلسطيني لا تنتهي. أما أبو جواد، فيعود إلى بيته عند نهاية كّل مساء مع بداية الليل، ويرفض جسده النوم من سيرة واسعة الأفق رغم تزاحم الوقت، وحتى يطلع صباح آخر.

أبو جواد من عائلة بركة، وهي من عائلات مدينة دير البلح التي تعمل في الزراعة وحياة النخيل. وكباقي عائلات الوطن المحتل، لها نصيبها من الشهداء والجرحى واللاجئين. وقد شارك أبو جواد في حمل نعش الشهداء الجماعي من عائلته وسار فيهم إلى حيث المقبرة، رغم صعوبة المشي والحركة، ورغم صعوبة المكوث في البيت والسير في الشارع.

يكتب الصحافي أسامة الكحلوت من مدينة دير البلح على صفحته: «بمعداتٍ بسيطة وقبور مزدحمة.. المواطن سعدي بركة يحفر القبور ويقضي 12 ساعة بين الموتى، دفن منذ بداية الحرب على غزة قرابة 16 ألف». في هذه الملحمة الكبرى في مسيرة الشهداء وسيرتهم حتى الوصول الأخير في رحلة الأرض، يصف أبو جواد، رغم مرارة الحديث وقسوته، كيف يجمع أشلاء الشهداء المنصهرة بفعل القذائف والصواريخ الفسفورية في زمن الإبادة الجماعية. 

 

لا حاجة للبلاغة في وصف اللحظة التي يعيشها أبو جواد، وهو يحمل روحه على كفه شاخصاً إلى مَن ساروا نحو سماء البلاد دون أن تتحقّق عدالة الموت الطبيعي. فمن يكتب السيرة ويجمع حكاياتهم وأحلامهم؟ من يستذكر حديثهم اليومي للصغار عن الغد، وعن الأحلام، وعن حرية فلسطين.. وعن أجساد وجثامين لا زالت قيد الأسر والاعتقال في ثلاجات العدو، وعن فلسطين الصارخة من البلاد إلى الكون صرخةً أبدية «أناديكم»؟

يقول أبو جواد: «والله لو أعطيتني منوّمات العالم لا أنام»، فكيف ينام المرء وهذه الأجساد المنفصلة والأرواح المتلاحقة تبحث عن المقبرة؟ وكيف للمقبرة أن تكون «سعيد»؟ يكمل أبو جواد في حديثه الموصول بالوجع «لقد دفنتُ عائلات كاملة مرات عديدة.. عملتُ قبراً جماعياً إلى 67 و 137 شهيد»، ثم يبكي بين القبور ويسأل «لماذا همّشت الناس غزة؟»

لم يأتِ أبو جواد باحثاً عن قبور الشهداء، فقد زرع لهم في فلسطين قبوراً لتضمّهم الأرض في أحضانها، في اللحظة التي تحاول المقصلة الاستعمارية وتعمل على مسح كلّ ما هو فلسطيني وصولاً إلى ذاكرته ولغته وروحه. هذا ما يفعله الاحتلال وفواعله الكارثية، بمساهمةٍ رأسمالية ومساندة الأنظمة الغربية لهذا الاستعمار المتوغل والذي صار يطارد المقابر والجثامين، بينما يستشهد الفلسطيني على حدود أرضه داخل البلاد. 

يقف سعدي بركة وقد تجاوز سؤال النظرية و«رماد النظريات» السعيدة، حتى لا ننخدع ولا تضلّلنا البلاغة، والشهادة أكثر بلاغةً في نظرية تجربة العصر الفلسطيني، وهي تعيد مرثية محمود درويش لماجد أبو شرار «أيها اللحم الفلسطيني.. يا موسوعة البارود منذ المنجنيق إلى الصواريخ التي صُنعت لأجلك في بلاد الغرب». بينما ومع كل لحظة، تُروى الوقائع والأحاديث والقصص اليومية في واقعيةٍ قاسية سكنت أهل غزة المصابة في زمن الحرب بالمأساة.

 كان الحديث مع أبو جواد الذي حاولت الوصول له صعباً بسبب انقطاع الاتصال في توقيت موازاة الإبادة في زمن الفتح الفلسطيني في السابع من أكتوبر. أذكر أنني حضرتُ معه الكثير من اللقاءات، ورأيته حين عودتي من الخارج إلى غزة. رجل شامخ عالي الهامة وروح صلبة ولكنّها حنونة. أذكر حديثه معي عن الحياة وصراع الموت. وفي حديثه أمور جديدة، يكتشفها المرء رغم أنّ ذلك صعب على النفس البشريّة، لكنّه يذهب كل يوم إلى حيث ينام الناس نومتهم الأخيرة والأبدية.

 

يروي أبو جواد دليل الراوي بين القبور في مقابر المدينة وحديثه المملوء بالأوجاع والبكاء.. يذكّرنا بحديث «فالتر بنيامين» قبل أن يصبح قبره منسياً: «حتى الموتى لن يكونوا بمأمنٍ من العدو إذا انتصر». يقول أبو جواد حارس الشهداء واَخر من يودّع أرواحهم «لا أستطيع النوم لكثرة الأطفال الذين دفنتهم». لا يحتاج روح النص لسلطة المثقف والمؤلف والمترجم حتى يُفهم، يبحث أبو جواد عن الخروج من مجازر و«كمائن الموت» التي تعيشها غزة والجثامين، ومما يفعله في المقبرة الحيَّة بتقديمه تعريف الشهداء ورحلتهم الجماعية. لا أحد في غزة يستشهد بمفرده. 

وفي غزة العديد من الصحافيين والكتّاب والفنانين في رسم الحياة، لكن يبدو الأمر غير معهود أن يقدم معرّف القبور في شخصية الراوي الحقيقي وهو يسير بين الجثامين، ويحفر الأرض ومعه أبناء المدينة ممّن حضروا، حتى يحضروا الوداع الأخير. وفي غزة: مقابر الشهداء أصبحت بين الشوارع وداخلها، أينما تمشي تشاهد التراب يرفع لوحة «هنا شهيد»، وقبور تمتدّ على امتداد الطريق على جانبي الشارع ذي الاتجاهين والاتجاه الواحد، وبداية الدخول إلى مدينةٍ صارت مدينة الشهداء في بلدٍ يُمطر فيه الموت كالرعد، وفي مدارس اللجوء، والبيوت المتبقية، والمخيمات والخيام. هكذا تحوّلت المدينة إلى مساكن الشهداء في مسكن واحد. من الحياة ومربّعات الهجرة غير المعروف مصير عودتها إلى الآن، إلى حيث يقول طفل يزرع الورود على باب الخيمة «أزرع الورد كي تكون دارنا حلوة». سكنتْ الخيمة وجدان الطفل، تذكّره بالبيت الصغير في ذاكرته الحيّة وهي تطرق الخيمة في زمن الحرب الكبرى.. وذاكرة الحاضر باسم من ساروا نحو الأرض الجوانيّة..

 وإذا أخذنا في الاعتبار البعد النظري للصهيونية في ما تناولته النظريات في فكر المدارس النقدية -خصوصاً الأوروبية المعروفة التي صارت اليوم في بلد شريك في العدوان- تأخذ أبعادًا من التعقيد في شرح ودراسة: اليهودية، والصهيونية التي تعرقل المسار؛ صهيونية تحاول إيجاد حلٍّ للطرد اليهودي من أوروبا فوق مصير اقتلاع شعب كامل، وتفريغ المركزية الأوربية من الثقافة اليهودية عبر تهجير الصهيونية إلى فلسطين على قاعدة استعمارية لحلّ مشكلة اليهود. والإشكالية هي قضية فكرية عند مدرسة فرانكفورت الأوروبية، بمعنى تفريغ ثقافي للدين والقيم من المنشأ إلى تهجير خارج السياق وانقسامات داخلية في الحالة الأوروبية والهيمنة الدينية. وتناقضات فكرية لا تزال قيد البحث والدراسة في لحظة تاريخيةٍ ذهبية لتفكيك الصهيونية مع تعالي أصوات يهودية تقترب شيئاً فشيئاً من صياغة موقفٍ جذريّ منها يقوّضها من الداخل ويعطّل خطّها الدفاعي الأخير أيديولوجيا معاداة السامية.

يتجدد مجيء الاحتلال إلى فلسطين المحتلة وتكريس الظلم الصهيوني في كلّ لحظة وعام مسترجعاً بدايات توريث الاستعمار البريطاني إلى الصهيونية، وتوظيف الفكرة الدينية بالتصهين وقمع الفلسطيني في وطنه كنوعٍ من أداة السيطرة لاستمرارية الاستعمار السياسي الديني في مجتمعات من الأساس منقسمة في « بقايا التاريخ». وهذا ما ينصبّ في أزمنة الكارثة التي جاءت إلى فلسطين بعد التقاء الفكر الغربي للأنظمة بالمنهجية «الإسرائيلية» القاتلة، وما يهدّد حياة الفلسطينيين ومقابرهم وحياتهم، التي قال فيها الشاعر «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» لا الموت، فكيف بالمناضل الذي يتذكّر في آخر لحظاته ضحكةً وحديثاً حتى يواجه اللحظة وصموده عند مواجهة العدو؟

في غزة منذ أكتوبر المعروف والذي صار حديث الكون، أصبحت القصص اليومية كاشفةً للكون الذي وقف على ساق واحدة، وتعريفاً واضحاً للجميع إلا من نهى القلب عنهم، بينما يترك أبو جواد في نهاية كل يوم سؤالاً بلا جواب «لماذا ترك العالم غزة وحيدة؟» 

السلام لغزة في مطلع كلّ يوم وحتى الحرية…