تطرح هذه المقالة سؤالاً أساسيّاً حول العوائق الاجتماعيّة التي تفرض فشل تجربة المجالس المحلّية في الداخل. ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نوضّح مفهوم فشل التجربة، كونها لم تُحقق أيّ فارقٍ في الانتماء السياسيّ الوطنيّ الجامع عند الفلسطينيين في الداخل. تعالج المقالة ثلاثة محاور متعلّقة بهذا الفشل: العشائرية، والعائليّة ومقوّماتها المادّية، والأحزاب العربية في الدولةِ الاستعماريّة، والأسرلة والمُنظّمات الإجراميّة، والتي بدورها تعيق تشكّل علاقاتٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ بالداخل على أساسٍ تعاونيٍّ وطنيٍّ مُستقلٍّ. ستمكّننا المحاورُ الثلاثةُ هذه من اختراق بنية الانتخابات المحلّية كما أرستها الكولونيالية، إضافةً إلى ديناميكية تشكّلها وتطوّرها.
توطئة
سأحاول في هذه المقالة رصد العلاقات الاجتماعية التي أفرزت فشل تجربة المجالس المحلّية في فلسطين المحتلة عام 1948، متعمّقاً في الانتخابات المحلية، كبنيةٍ في سياقٍ كولونياليٍّ تُمارس علينا في الداخل ذات الأدوات التي تُمارسها على الفلسطينيين في الأراضي المُحتلة عام 1967، منذُ أواخر القرن التاسع عشر، من نهب الأراضي والاستيطان، والعمل والاستغلال. لذلك، يجب فهم الانتخابات المحلّية في هذا السياق، وليست كونها فرصةً أو فُسحةً ديمقراطيةً في الداخل.
تطرح هذه المقالة سؤالاً أساسيّاً حول العوائق الاجتماعيّة التي تفرض فشل تجربة المجالس المحلّية في الداخل. ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نوضّح مفهوم فشل التجربة، كونها لم تُحقق أيّ فارقٍ في الانتماء السياسيّ الوطنيّ الجامع عند الفلسطينيين في الداخل. سأعالج ثلاثة محاور متعلّقة بهذا الفشل: العشائرية، والعائليّة ومقوّماتها المادّية، والأحزاب العربية في الدولةِ الاستعماريّة، والأسرلة والمُنظّمات الإجراميّة، والتي بدورها تعيق تشكّل علاقاتٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ بالداخل على أساسٍ تعاونيٍّ وطنيٍّ مُستقلٍّ. ستمكّننا المحاورُ الثلاثةُ هذه من اختراق بنية الانتخابات المحلّية كما أرستها الكولونيالية، إضافةً إلى ديناميكية تشكّلها وتطوّرها.
العشائريّة/ العائليّة والمقومات المادّية
“لقد أنجزت عمليةُ التحديث الصهيونية القسرية عمليةَ فردنة الإنسان العربيّ في “إسرائيل” اقتصادياً بتقويض الانتماءات العُضوية العائلية المُمتدّة كوحداتٍ إنتاجيةٍ. وفي الحقيقة، فإن العرب في “إسرائيل” يحتكمون إلى القضاء المدنيّ في كلّ ما يتعلّق بنزاعاتهم الاقتصادية وقضايا المُلكية وعلاقات العمل والعقود وغير ذلك.” [1]
شكّل الاقتصادُ الزراعيُّ كلَّ المقومات المادّية للعشائرية في الفترة السابقة لتأسيس الدولة الكولونيالية، وظهرت معها العائلات الكبيرة القُطرية والحمولة.[2] ولكن مع انهيار الاقتصاد الزراعيّ الفلسطينيّ ونهب الأراضي وقيام الدولة الكولونيالية “إسرائيل”، بدأت عملية “برتلة” الفلسطينيين في الداخل؛ أي تحويلهم إلى عُمّالٍ مأجورين في السوق الصهيونية، واستغلال قوّة العمل الرخيصة. وفقاً لهذا المنطق، أصبحت الأيديولوجيا العشائريّة/العائلية في هذا السياق قادرةً على تحقيق تبريرٍ للعملية الاقتصادية المفروضة على الفلسطينيين في الداخل، على اعتبار أنّ تضامننا الاجتماعي ظلّ مبنياً على أساسٍ عائليٍّ؛ إذ إننا فقدنا معنى النضال والتحرُّر بفعل الاستغلال القائم في هذه الحالة، وكانت هذه المسألة فرصةً للتنافس العائليّ عبر الإنجازات في السوق الصهيونية، إذ شاعت مقولاتٌ مثل “أولادي كلهم دكاترة” أو “أولادي بيشتغلوا بالهايتك”. هكذا، تغلغلت العائليّة إلى الإنجازات في التعليم والمهنة (الضئيلة نسبةً إلى الصهيونيّ الأشكنازيّ)، وأصبحت محلاً للتنافس والتفكُّك، وتبرير العملية الاقتصادية الجارية.
كما ساهمت العشائريّة، العائليّة في بعض الأحيان، كونها أيديولوجيا، في تغلغل علاقات الأسرلة التي تُهمين على مُجتمعنا الفلسطيني بالداخل، والتي أتاحت بدورها مجالاً لتقبُّل السُّلطة الكولونيالية القائمة بطريقةٍ أو بأخرى، أو على الأقلّ عدم النظر إلى هذه العلاقات بعدائيةٍ مُطلقةٍ. تتمّ عمليّة الموافقة هذه من خلال علاقتنا مع السُّلطة بأشكالها المُختلفة؛ السياسيّ منها، المحلّي القُطريّ، وأيضاً الشكل الاقتصاديّ. تحمل هذه الأشكال مضامينَ أيديولوجيّةً للتوافق مع السُلطة الصهيونيّة، وتضمن الحفاظ على العشائريّة.
يرى عزمي بشارة أنّ الشكل الاقتصاديّ للسُّلطة الإسرائيلية ساهم في تفكيك العشائرية وأتاح المجال للفردانية. كما أنّه من “المُثير والمُلفت للنظر أنه بموازاة الواقع الاقتصاديّ-الاجتماعيّ*، والذي أفرز آلياتٍ تعمل على تفتيت الولاءات للعائليّة؛ أفرز الواقع السياسي-الاجتماعي آلياتٍ تُحافظ عليه.”[3] تحدّد لنا هذه النقطة مقولتنا بأن العشائريّة أصبحت أيديولوجيا تُبرّر الواقع الاقتصادي-الاجتماعي، ولا تطرح بديلاً حقيقياً للوضع القائم، إذ لا تملكُ العشائريّة أو العائليّة أدواتِ مُمارسةٍ اقتصاديةٍ، وبالتالي يُصبح “الفرد العربيّ” في الشكل الاقتصاديّ الصهيونيّ وما يُعانيه من هدم بيوتٍ أو فقرٍ وعجزٍ ماليٍّ، ضعيفاً أمام السُّلطة. كما يُمهّد لصراعاتٍ داخليّةٍ وعائليّةٍ على الأرض والسكن والبناء، فتكون أيديولوجيا العائليّة هي المفرّ في هذه الصراعات، معيقةً بذلك تشكيلَ وعيٍّ وطنيٍّ حقيقيٍّ بالأرض.
بذلك، ترتبط هيمنة أيديولوجيا العشائرية على الداخل الفلسطينيّ وكذلك هيمنة الطائفية، بالشكل السياسيّ المحليّ، كتعبيرٍ سياسيٍّ عن تضامنٍ اجتماعيٍّ عائليٍّ ومحاولةٍ للحصول على بعض الامتيازات؛ كون المؤسّسة الاستعمارية لن تسمح بإعطاء فرصةٍ حقيقيةٍ للتطوّر في المجلس المحليّ،[4] إذ إنّها تُعيق السُّلطات المحلّية في الداخل الفلسطينيّ من التطوّر الطبيعيّ للمجلس أو البلديّة (نموّ السُكان والحاجة للبناء)، أو من إتاحة الصناعة المحليّة على امتداد الأرض. بل على العكس، فإنّ نهب الأراضي يتمّ من خلال الشكل السياسيّ المحليّ وهدم كلّ محاولةٍ صناعيّةٍ وتوسّعيةٍ.
بجانب ذلك، يبرز التمييز المُجحف في الميزانيّات غير العادية** التي توزّعها وزارة الداخليّة الصهيونية، وتدمير كلّ إمكانيّةٍ لنشوء اقتصادٍ عربيٍّ، حيث إنّ استمراريّة العطب البنيوي لهذه السلطات تتطلّب موافقة الفلسطينيين التي تتمّ عبر أيديولوجيا العائليّة التي تتيح التنافس على الانتخابات المحلية، وتُحفّز، بالموازة، الفساد والمحسوبيّة كونها مخرجاً ضيّقاً في ظلّ الظروف القاهرة التي تفرضها “إسرائيل” الاستعمارية عليهم. وحسب آخر الاستطلاعات، فإنّ ما يزيد عن الـ50% من الفلسطينيين في الداخل غيرُ راضين عن السياسة المحليّة وعلى علمٍ بقصورها، و23% منهم غير راضين بتاتاً[5].
الأحزاب العربية في الدولة الاستعماريّة
“الدولة هي التركيبة الكاملة للأنشطة العملية والنظرية التي تستخدمها الطبقة الحاكمة، ليس لتبرير هيمنتها والحفاظ عليها وحسب، بل وتستطيع بها أن تكسب الموافقة الفعّالة لمن تحكمهم.” غرامشي [6]
سأتطرّق، في هذه المساحة، للأحزاب الوطنية والأيديولوجية فقط؛ أي الجبهة الديمقراطية للسلام والمُساواة، والتجمّع الوطني الديمقراطيّ؛ كون هذه الأحزاب تعرّف نفسها بحملِها مشروعاً وطنياً علمانياً مُعادياً للصهيونيّة، وتُنافس في الانتخابات القُطرية “الكنيست”. لكنّ السؤال يتمحور، هنا، حول ماهيّة وظيفة الحزب في الواقع الكولونياليّ، فهل يملك فعلاً أدواتٍ بنيويّةً ومُمارسةً مُعاديةً للصهيونيّة، في شكلها السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ؟
تبيّن هذه الأحزاب، بين المحليّ والقطريّ، دورها في تثبيت وضع مُجتمعنا في الداخل والمُجتمع الفلسطينيّ ككلٍّ، على عكس أطروحاتها التقدّمية المُعادية للعائليّة في الداخل. كما تطرح برنامجاً سياسياً قائماً على المُساواة، غير أنّه طالما أدواتنا السياسيّة محصورةٌ في المجال الكولونياليّ بتعبير غرامشي، تصبح هذه الأحزاب أحزاباً كوربراتيةً***، أيّ أنَّ مُمارستها أصبحت مرهونةً بالواقع وظروفه، دون طرح أيّ بديلٍ حقيقيٍّ، وسأناقش هذه المُمارسة على مرحلتين:
تكمن المرحلة الأولى في مُمارسة الحزب الاندماجية مع العائليّة. نظريّاً، يستطيع الحزب أن يطرح مُنافساً غيرَ عائليٍ (كما طرحت الجبهة في السبعينيّات المُرشح توفيق زيّاد)، لكن الإشكاليّة تكمُن هنا في الشكل الاجتماعيّ العائليّ السائد في الداخل الفلسطيني، خاصةً في منطقة المُثلث. يفرض ذلك على المُنافس غير العائليّ التغلغلَ والعملَ من خلال هذا الشكل الاجتماعيّ القائم مُسبقاً، والذي يقتبس مفهومَ العائليّة من خلال الاستقطاب والتحالف والتآخي في سياقاتٍ انتخابيّةٍ مُختلفةٍ. تغيب، بذلك، أيُّ إمكانيةٍ للنضال ضد هذا الشكل الاجتماعيّ القائم والمُسيّس، بل ويؤسّس للموافقة الفعّالة للدولة بارتباطها بالانتخابات المحلّية.
فيما ينزع تثبيت أيديولوجيا العائليّة في الشكل الاجتماعي للفلسطينيين في الداخل، بالضرورة، الأيديولوجيا الوطنيّة الجامعة المُعادية للبُنية الكولونيالية والكوربراتية، بل ويحوّل الخطابَ الوطنيَّ إلى خطابٍ مثاليٍّ نخبويٍّ، قاعدته الجماهيرية عائليّةٌ مُتحالفةٌ، تصبح متناحرةً في فترات شدّة القمع والنهب الكولونياليّ. وهُنا، تكمُن النقطة الأساسيّة في العلاقة بين نزع الهيمنة الاقتصاديّة ونزع الهيمنة الأيديولوجيّة، والتي تُعبّر عن ديالكتيك**** مُستمرٍّ بين مُحاربة الشكل الاجتماعيّ العائليّ وطرح برنامجٍ اقتصاديٍّ بنيويٍّ يقوم على استعادة الأرض.
أما المرحلة الثانية من ممارسة الحزب، فهي ممارسته في السياسة المحلّية. تظهر هذه المرحلة كانتقال السياسة المحليّة من العائليّة (والطائفيّة) إلى مرحلة النضج الاجتماعيّ-السياسيّ، على أساس المصالح العامّة وبرامج تنميةٍ وتطويرٍ حقيقيةٍ. لكن القراءة العلمية لواقعنا وظروفنا السيّئة في الداخل، والانتقال الذي حصل في بعض البلدات، وأخصُّ الناصرة بذلك، نجد العوائق ذاتها، مثل السيطرة على الأرض وغلّتها، والسكن وتراخيص البناء وهدم البيوت، فضلاً عن البطالة وتقسيم العمل لصالح الطبقة الأشكنازيّة المُسيطِرة. ومن نافل القول أنه من الصعب طرح هذه المشاكل الأساسيّة وحلّها في إطار السياسة المحلّية، طالما لم نُعالج الأساس القمعيّ الكولونيالي، ولم نطرح بديلاً للمؤسّسات الصهيونيّة، مثل الكنيست و”الكيرن كيمت”، والتي تُمارس الاضطهاد والتمييز والنهب.
إنّ الحزب في مرحلته الثانية هذه- أيّ مرحلة النُّضج الاجتماعيّ-السياسي- هو الأساس الحيّ لفهم ديناميكيّة بُنية الهيمنة على الفلسطينيين في الداخل. سنأخذ، في هذه المقالة، من الناصرة نموذجاً لهذه المرحلة، بما يشمل “الانتصارات” التي حقّقتها “الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمُساواة” منذ عام 1975، تحت قيادة توفيق زياد حتى عام 1994، والتي تظهر كمرحلةٍ سياسيّة جديدةٍ. على وقع ذلك، يتمحور سؤالي حول الظروف التي أدت إلى هذه المرحلة؟ ولماذا فشلت هذهِ المرحلة، خاصّةً في مُجريات شهاب الدين (حادثةٌ طائفيّةٌ في الناصرة)، وما تلاها من رئاسة علي سلام وغياب الأطروحات والبرامج السياسيّة-الاجتماعيّة المحليّة والوطنيّة؟
منذُ تشييد “نتسيرت عيليت” (مستوطنة الناصرة العليا) على أراضي الناصرة والقرى المُجاورة في عام 1957، وأيضاً موافقة الحكومة الصهيونية على مخطّطات مُصادرة الأراضي في الناصرة والقرى المُجاورة بهدف السيطرة على المكان الفلسطينيّ، وحساباتٍ أخرى سياسيّةٍ ديمغرافيّةٍ،[9] كانت عمليات القمع والنهب لقطاعاتٍ واسعةٍ من الفلاحين والعُمال في الناصرة مُحفّزةً للنضج، ولذلك لم يكن أمامهم غير الجبهة، كطرحٍ وطنيٍّ في تعريفه وتقدُّميٍّ ومهنيٍّ، في تحقيق أحداث يوم الأرض في عام 1976 وتجميد وإلغاء مُصادرة الأراضي. غير أنّ هذا التحوّل بقيَ قاصراً عن تحقيق طموحات أهالي الناصرة في استعادة حقوقهم في الأرض كاملةً، أو حتّى في منع نهب أراضٍ لصالح “نتسرت عيليت” وضربها للمصالح التجاريّة في الناصرة.[10] فطالما الجبهة حزبٌ كوربراتيٌّ منخرطٌ في “الكنيست”، سترتطم دوماً طموحاتهِ بحدود البُنية الكولونيالية والشروط التي تجعلها أسيرتها.
ورجوعاً إلى عهد قيادة توفيق زياد الجبهةَ الديمقراطيةَ، نجده قد حقق إنجازاتٍ حقيقيّةً في التربية والتعليم وتعبيد الشوارع، والمسرح والفنّ أيضاً.[11] لكنّه لم يحقّق أيَّ اختراقٍ سياسيٍّ يُعالج أساس السياسات الكولونياليّة، بل إنّ تقدَّمنا إلى الوراء، اليوم، تكثّفه علاقة سُكان الناصرة بـ”الجبهة الديمقرطية” أو منافسها، وذلك عبر ترسيخ نهج العائليّة في التحريض وخلق التناحرات، سواءً الدينيّة منها أو الثقافية الوهميّة في الفترة الحالية.
وكان قد جاء في تقريرٍ نقديٍّ للقائمة الأهليّة (حزب التجمُّع) في الناصرة عن الانتخابات الأخيرة: “إنّ انعدام التفكير العقلانيّ رسّخ منطق “كيف يستمرّ في السلطة من يحمينا من ‘الطرف الآخر‘، أو من يشبهنا أو من يتعاطف معنا؟” وأضاف البيان أنّ “الحماية من ‘الطرف الآخر‘ هو ما ميّز انتخابات الناصرة، ربّما منذ أحداث وقف شهاب الدين المقابل لكنيسة البشارة؛ الذي اعتزمت البلدية عام 1997 أن تحوله لساحةٍ تخدم زوار الكنيسة، وأشعلت هذه القضية أزمةً طائفيةً حادّةً كادت تحرق الناصرة.[12] منذ ذلك الوقت، اعتمدت الانتخابات على خلق تكتُّليْن استقطابيين، لدرجة أن الاستقطاب وصل بينهما إلى شعار ” الرز واللبن مقابل السوشي.”[13] ممّا يُظهر ديناميكيّات التناحر في الانتخابات المحليّة بعد فشل التجربة التي مهّد لها توفيق زياد. هذا الفشل الحزبيّ في تحقيق طموحات الفلسطينيين في الداخل وسقوطه في وحل العائليّة والطائفيّة والفساد، سيكون أرضيّةً خصبةً لصعود “مُنظّمات الإجرام” في البلدات العربية.
الأسرلة والمُنظمات الإجرامية
“أعلن قائد قسم التحقيقات والمباحث في شرطة الكيان الصهيونيّ، ميني يتسحاقي، خلال اجتماعٍ للّجنة الداخلية التابعة للكنيست، يوم الأربعاء الماضي، أنّ الشرطة نجحت في قطع “براعم علاقاتٍ” بين المنظمات الإجرامية والحكم المحلي”، تشرين ثانٍ 2013 [14]
يتعلّق قطع العلاقات هذه بين المُنظّمات الإجرامية والحكم المحليّ، من منظور قائد قسم التحقيقات والمباحث في شرطة الكيان الصهيونيّ، بشكل الحُكم المحلّي، فطالما أنّ الشخصيّات الإجراميّة غير مُرتبطةٍ رسميّاً بالحُكم المحليّ، فهذا يكفيهم. إذ إنّ مصالح الشُرطة في الضبط والمُراقبة والعقاب تحتاج هذه الصراعات الداخليّة، لكن مع الحفاظ على الشكل الديمقراطيّ في ذات الوقت. كما أنّ بروز هذه المُنظّمات في المُجتمع الفلسطينيّ الداخل مُرتبطٌ بفشل تجربة الأحزاب العربيّة في الانتخابات المحلّية، فالفشل ليس فقط في عدم الوصول إلى السُّلطة، بل في تحقيق شكلٍ اجتماعيٍّ جديدٍ مُضادٍّ للأشكال الاجتماعيّة القائمة (العائليّة والطائفيّة)، التي تُثّبت الهيمنة الكولونيالية سواءً بشكلٍ مباشرٍ أو غير مُباشرٍ.
إنّ تغلغل هذه المُنظمات بقوّة السلاح إلى الحُكم المحلّي، من خلال التأثير على المُرشّح وتهديده، والعمل على تفكيك المُجتمع وصياغة أفرادٍ معزولين خائفين، مصلحةٌ للدولة وضمانٌ للمُحافظة على الوضع القائم. وفي الحديث عن المُجريات الأخيرة في قلنسوة، من منع ترشُّح معروف زميرو بقوّة السلاح، هو عمليّاً مُمارسةٌ قمعيّةٌ كولونياليّةٌ على المُجتمع، وفرضٌ للخوف والانعزال، ما يمنع أيّة مُمارسةٍ وطنيّةٍ لتحقيق مصالح الطبقة المسحوقة في قلنسوة، من عُمّالٍ في السوق “الرخيص” وبطالةٍ وتعليمٍ مُهترئٍ في المدارس، وكذلك شحّ الأراضي للتطوير والتنمية أو السكن.
تعمل هذه المُنظّمات ضمن نطاقٍ اجتماعيٍّ عائليٍّ، كونها لم تستطع الحصول على أيّ امتيازاتٍ من خلال الحُكم المحليّ، لذلك باشرت في استحصالها بالقوّة، ووضع يدها على الأرض والسكن عبر أدواتٍ إجراميةٍ، بغطاء الأيديولوجيا العائليّة التي مكّنت المُنظّمة الإجراميّة من خدمة المصلحة الكولونياليّة العامّة. بذلك، صار الحُكم المحلّي راعياً للتناحرات العائلية وعلوّ شأن المصالح الشخصية على نظيرتها الجمعية. تتمثّل هذه المُنظمات الإجراميّة في كلٍّ من عائلة: جاروشي والحريري وكراجة، وهي نشطةٌ جدّاً في المُثلث، إذ حازت كلُّ مُنظمةٍ منها على قسمٍ من منطقة المُثلث، وتأخذ حصّتها من الامتيازات على حساب الفلسطينيين هناك.
في عام 2017، قدّمت الشُرطة لائحة اتّهامٍ ضدّ 31 شخصاً وشركةً صغيرةً،[15] مُتّهمين بتبييض أموالٍ ومُخالفاتٍ قانونيّةٍ كثيرةٍ، عدا عن صلتهم بمُنظماتٍ إجراميّةٍ. ينشط هؤلاء “المتهمون” في عدّة بلداتٍ عربيّةٍ، مثل قلنسوة وجلجولية وغيرهما. يرتكز نشاطهم في “حماية” الأماكن التي تجري فيها عملياتُ بناءٍ، ويوزّعون لافتاتٍ مع ختمٍ تحت اسم شركةٍ مُزيّفةٍ (راعم ר.ע.ם. بالعبريّة)، وفي حالة عدم وجود اللافتة مع الختم، يتمّ هدم وتخريب المكان أو مُعدّات البناء، ما يُكلّف المواطن آلاف الشواقل.
ما يجري هو أنّ المُنظّمة تحتكرُ عمليّة البناء في البلدة العربيّة، ولكي تستطيع أن تُنظّمها تحت رعايتها، عليها أن تؤدّي دور آلة الهدم والتخريب الإسرائيليّة. وتأتي عملية تهديد مُرشّح قلنسوة، معروف زميرو، لإرغامه على الانسحاب من الانتخابات، ضمن هذا السياق المطروح المرتبط بالسلطة التي تحوزها هذه المنظمة. كان معروف زميرو قد طرح، في البند الأوّل من برنامجه الانتخابيّ، حلّ مُعيقات البناء في قلنسوة، ووقْف جرّافة الهدم الصهيونيّة، ووضع خُططاً هيكليّةً، وما إلى ذلك. وكَوْن برنامجه يشكّل عائقاً أمام نشاط المُنظّمة الإجراميّة، فتوجّب منعه من الترشُّح من قِبل هذه المنظمة، مع الأخذ في الاعتبار أن الفراغ السياسيّ والاجتماعيّ السائد وفشل تجربةِ الحزب المحلّية، كلّها عواملُ ساهمت في تغلغل هذه المُنظمات الإجراميّة حقيقةً وتحقيق الأسرلة.
الخاتمة
العائليّة، والحزب، والأسرلة ثلاثةُ مُركبّاتٍ ساهمت ولا تزال في تشكيل علاقات الهيمنة التي تفرضها الكولونيالية وفشل التجربة المحلّية. بمعنىً آخر؛ تفرض الكولونياليّة هيمنتها من خلال المُركّبات الموضوعيّة للمُجتمع الفلسطينيّ في الداخل، فالعائليّة كأيديولوجيا تتعلّق بالشكل الاقتصاديّ للكيان الصهيونيّ، فتُساهم في تبريره وإعاقة أيّة أيديولوجيا وطنيّةٍ تحملُ شكلاً اقتصادياً مُغايراً ومُضادّاً لعلاقات الاستغلال. كما تخلق العائلية من الساحة المحلّية ساحةً للتنافس و”النضال” من أجل الامتيازات الضيّقة.
من جهته، يلعب الحزب دوراً محافظاً على موازين القوى بين المُجتمع الفلسطينيّ في الداخل والمؤسّسات الكولونياليّة. لذلك، فإنه يطمحُ لنشاطٍ وطنيٍّ في التجربة المحلّية من جهةٍ، ويُحافظ على العائليّة عبر الانتخابات القُطريّة وشرعنة المؤسّسة التي تقمعنا “الكنيست” من جهةٍ أخرى. وفي هذه الظروف، يتمّ تجاهل علاقات الأسرلة التي تنهش الأحداث اليوميّة للفلسطينيين في الداخل بعد فشل الأطروحات الحزبيّة؛ ذلك كلّه بجانب المُنظمة الإجراميّة وأعمال العُنف والتهديد، والتي ساهمت في تفكيك المُجتمع في الداخل. وهذا هو التعبير الحقيقي لعلاقات الأسرلة، كونها ليست بناء مشروعٍ، وإنّما تفكيك.
هوامش
* يقصد عزمي بشارة في المُصطلح “الاقتصادي-الاجتماعي” بأن الواقع الاقتصادي لعمليّة انخراط الفرد الفلسطيني بالسوق الإسرائيلي يخلق أيضاً فردانيّة، وينتِج سؤالاً حول كيفيّة تكوّن وتثبيت العلاقات العائليّة، ليكون الجواب بأن العلاقات السياسيّة هي ما تفرض وتُبرر العلاقات العائليّة بالداخل.
** تتألف الميزانية غير العادية من هباتٍ حكوميةٍ مختلفةٍ لأغراض عينيّةٍ كسدّ العجز المالي للسلطات المحلية وتمويل الخدمات الحكومية الجارية، وكذلك تمويل مشاريع خاصّةٍ وتطوير البنى التحتية.
*** الكوربراتية مُصطلحٌ وضعه أنطونيو غرامشي، لوصف العلاقات الاجتماعيّة التي تتكوّن عند انخراط الحزب في السُّلطة البرجوازية وقبول التعريفات القانونية للسُّلطة، ما يعني هيمنة السُّلطة على خطاب الحزب وتحديده وفق معاييرها.
**** مُصطلحٌ فلسفيٌّ يُعبّر عن العلاقات الجدليّة والتناقضات في الواقع والفكر..والخ. وفي سياق المقالة، أقصد نُضج التناقضات؛ بين الشكل الاجتماعيّ العائليّ والوطنيّ، مقابل تناقضات نهب الكولونيالية للأرض وبين حاجتنا المُستمرة للأرض.
المراجع
[1] بشارة، عزمي، الخطاب السياسي المبتور ودراسات أخرى. ص162
[2] المرجع نفسه، ص170
[3] المرجع نفسه، ص172
[4] تقرير من مركز جليل – البلدات العربيّة وسلطاتها المحليّة – مسح شامل 2006
[5] المرجع نفسه
[6] مُختارات من دفاتر السجن، ص244، الطبعة لندن (باللغة الإنجليزيّة)
[7] بشارة، عزمي، الخطاب السياسي المبتور ودراسات أخرى. ص174
[8] المرجع نفسه، ص173
[9] خمايسي، راسم، مساحة الناصرة، ص14، مقالة منشورة في مركز بلورس هايمر (باللغة العبريّة)
[10] تقرير على موقع عرب 48 بعنوان: مجمعات نتسيرت عيليت حوت يفترس التجارة في الناصرة
[11] شريط مصوّر على اليوتيوب، للمشاهدة من هنا.
[12] الناصرة من أزمة “شهاب الدين” إلى أزمة “الرئيس مين”، تقرير منشور على موقع عرب 48، لقراءة المقال كاملاً، هنا
[13] مقالة على موقع عرب 48 بعنوان: القائمة الأهلية- تماسك البلد لا يبنى عبر التخويف
[14] مركز مدار ينشر تقرير بعنوان: الشرطة تنشر قائمة العصابات العشر الكبرى في “إسرائيل”
[15] تقرير منشور باللغة العبريّة في موقع “دفار ريشون”، للقراءة من هنا.