يقدم هذا المقال قراءة مختصرة في ستة وصايا تركها الاستشهادي رائد مسك، فكانت عودته المستمرة من الموت إلى الحياة، أو من الحياة إلى الموت. إذ حملت الوصايا رسائل على عدة مستويات، اجتمعت جُلها فكانت الدعوة الصريحة للاستمرار في السير على دربه الذي شقه بعظامه المتفجرة، تاركاً دمه منارةً، ووصاياه خرائطَ ودلائل. ومحذراً من التيه، التيه عن طريق الحرية الذي لا يكون المرور عبره إلا بالفداء والدم. 

يستند المقال في قراءته وتحليله لوصايا مسك الستة على رواية الشهداء يعودون هذا الأسبوع للكاتب الجزائري الطاهر وطار، فيقدم مقاربة غير مباشرة بين الواقع الجزائري الذي عالجه وطار في روايته، وبين الواقع الفلسطيني وما آل إليه على ضوء وصايا مسك. ويقرأ المقال الوصايا الستة متقاطعاً تارة، ومشتبكاً تارة أخرى مع مجموعة من مواد مساق دفاتر الفداء: الحركة الفلسطينية الشهيدة، الذي درسه الدكتور عبد الرحيم الشيخ، في الفصل الدراسي الأول من عام (2021-2022). فجاء هذا المقال ضمن المتطلبات النهائية لإتمام دراسة المساق، وكان اختيار وصايا الاستشهادي مسك هدفاً للدراسة والتحليل لغنى مضمونها الثوري ورسائلها الاجتماعية والسياسية.

****

الآن، والأشياءُ سَيِّدَةٌ، وهذا الصمت يأتينا سهاماً

هل ندركُ المجهولَ فينا، هل نغني مثلما كنا نغنيِّ؟

آه، يا دمنا الفضيحة، هل ستأتيهم غماماً؟  (مديح الظل العالي\ محمود درويش) 

في 19 آب 2003، أعلن رائد مسك عن وجوده، ناسفاً جسده داخل حافلة صهيونية في شارع “حاييم بارليف” بالقرب من حي المصرارة غربي مدينة القدس المحتلة. وقد نتج عن العملية الاستشهادية مقتل 20 صهيونياً وإصابة 105 آخرين. (1) آنذاك، لم يقف رائد بالصدفة فوق حقل من الألغام خلال مهمة عسكرية كان الرجوع منها إحدى احتمالاتها المطروحة. بل كان هو حقل الألغام المتحرك نحو العدو. حمل حزاماً من المتفجرات، واختار المكان والزمان الذي سيستعيد خلالهما حقه كفلسطيني بالتحكم بسياسات الموت والحياة في حرب تحرره، التي سبق أن انتزعها عدوه بالقوة، من خلال عنفه الاستعماري. 

لم يبرز رائد عبد الحميد عبد الرازق مسك (1974-2003) قبل استشهاده كرجل عسكري، ولم يكن له أي نشاط سياسي معلن. وقد اعتقل مرة واحدة عام 1989 عندما كان يبلغ من عمره (15عاماً). عُرف مسك قبيل استشهاده في محيطه كطالب علم يسعى لنيل درجة الماجستير من جامعة النجاح من برنامج الفقه والشريعة، بعد شهور قليلة. وقد درس ذات التخصص حاصلاً على درجة البكالوريوس من جامعة الخليل. وكان يعمل أستاذاً للتربية الإسلامية في إحدى مدارس مدينته الخليل. كما وعُرف بنشاطه الدعوي في مساجد المدينة التي كان يواظب على الإمامة فيها وتحفيظ القرآن وإعطاء الدروس الدينية. أما الناحية الاجتماعية، فتزوج مسك من أريج زهير الجعبة في عام 1998، ورزق بالطفلين مؤمن وسما، وكان ينتظر قدوم طفله الثالث الذي حضر بعد استشهاده بأربعة شهور وحمل الاسم المركب (محمد رائد). (2) 

تعتبر عملية مسك واحدة من العمليات الاستشهادية البارزة التي نفذها المقاومون الفلسطينيون داخل الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948، خلال انتفاضة الأقصى (2000-2005). وبالإضافة للخسائر التي ألحقتها العملية بالعدو على المستويين البشري والأمني، تكمن أهميتها كونها اخترقت الهدنة التي فرضتها السلطة الفلسطينية وإسرائيل على حركتي المقاومة الإسلامية حماس والجهاد الإسلامي في نهاية حزيران 2003.(3) وقد أنهت عملية مسك الهدنة التي لم يلتزم بها العدو وواصل ارتكاب خروقات عدة أبرزها استمرار عمليات اغتيال المقاومين.(4) معلناً في وصاياه أن عمليته الاستشهادية جاءت ثأراً لاغتيال مجموعة من مقاومي نابلس والخليل، أبرزهم عبد الله القواسمي، قائد كتائب القسام في جنوب الضفة الغربية المحتلة، المسؤول عن تسيير مجموعة من العمليات الاستشهادية خلال الانتفاضة. وقد اغتاله الجيش الصهيوني أمام مسجد الأنصار في مدينة الخليل في 21 حزيران 2003 .(5) وهو ذات المسجد الذي كان يرتاده مسك ويؤم فيه. 

أما من ناحية أخرى، تمكن مسك من تحطيم الصورة التي حاول العدو صياغتها حول الاستشهاديين والمقاومين -وهو ما تمكن الفلسطينيون أيضاً من فعله طوال الانتفاضة، فلم يكن ممكناً للعدو توقع المقاوم قبل تنفيذه العملية- ولم يعد مسك “المواطن الصالح” الذي تستخدمه المخابرات كنموذج يجب الاحتذاء ببعده عن العسكرة والسياسية، خلال التحقيق مع المعتقلين في السجون، حسب شهادات أسرى نقلوها للعائلة كانوا قد خاضوا التحقيق في تلك الفترة، وقد حصل مسك على تصريح تمكن خلاله عبور الحواجز المحيطة بالقدس، حيث نفذ عمليته.(6) 

في ذلك المساء، قرابة الساعة التاسعة وبعد أن هز انفجار العملية مدينة القدس وبدء وسائل الإعلام تناقل الأخبار حولها. ظهرت واحدة من خطابات مسك الست -والتي شكلت وصاياه-  على شاشة فضائية الجزيرة، حينها توجه نجله مؤمن (ثلاث سنوات ونصف) إلى والدته، وأخبرها أنه والده يظهر في التلفاز يحمل رشاشاً في يد، ومصحفاً في اليد الأخرى. كانت هذه الرسالة -بالعربية والانجليزية- إعلان تبني كتائب الشهيد عز الدين القسام للعملية. كما ترك مسك خمس خطابات أخرى حملت وصاياه، ثلاثة منها مصورة، واثنتين مكتوبة، طالباً من عائلته إرجاء قراءة الوصية الأخيرة لأبنائه حتى الذكرى السنوية العاشرة على استشهاده. 

شكلت الوصايا الستة وما تحمله من رسائل سياسية ونفسية واجتماعية، عودة مستمرة للاستشهادي رائد مسك. إذ تجتمع عظامه المتفجرة مرة أخرى، ويقف مكرراً خطاباته ووصاياه لكل من يصادفها ويتوقف أمامها مشاهداً أو مستمعاً أو قارئاً أو باحثاً، وكأنه يخبرهم: سأعود بظرف أسبوع. ويتركهم يتساءلون: ماذا لو عاد؟ ماذا لو عاد الشهداء، كلهم أو بعضهم؟. وقد تمكن مسك من تحويل وصاياه إلى أداة للتعبئة الثورية صالحة لكل زمان، تدعو للانخراط في عملية مستمرة من التقدم والتغيير والتحول، فكانت الصيرورة. ويكشف مسك بشكل أساسي عن ما تكوّن في ذاته من فكرة الفداء والشهادة والتي حولته إلى استشهادي، مرتكزاً على مخياله الديني الإسلامي، نصاً، وتجربة تاريخيةً، وخطاباً سياسياً. مجيباً عن موقفه من الحرية التي لا يمكن انتزاعها إلا عبر “الركب المستمر” في إشارة أن الحرية لا تكون إلا بالدم والتضحية، مؤكداً بذلك على أن العنف الثوري هو الدرب الوحيد لهذه الحرية. فجاءت وصايا مسك جزءاً من كتابة التاريخ الفلسطيني خلال انتفاضة الأقصى، وتشكيلاً لذاكرة المنتصر الذي ينتزع حريته بالدم والفداء. 

كونت وصايا مسك مصفوفة نفسية حملت مقولتها الأساسية “التغلب على الخوف من الموت”، هدف خلالها مسك بناء بنية تحتية لعائلته ومجتمعه تدعم تحديهم واستمرار مواجهتهم للمستعمر وإجراءاته، “لأن تحدي الموت وقهره يحمل في النهاية معنى للانتصار المعنوي على القهر والاضطهاد والاستعمار”.(7) ودعمت الوصايا حالة التمرد على الظلم، ورفض الرضوخ له. وقد اعتبر مسك أن نجاح عمليته جزء من عملية التحرر والانتصار.

 كرر مسك في مواقع عدة داخل وصاياه، عدم خوفه من الموت واستعداده له، واختار جسده وروحه أداة للقتال، كتأكيدٍ على فعاليته كذات محاربة من أجل شعبها ومجتمعها. فقال: “سينسف جسدي، لكنني لن أخاف”. وقال في موقع آخر: “أقدم روحي هدية وقرباناً لهذا الدين”. وأضاف في موقع ثالث: “(..) أن يجعلها شهادة خالصة في سبيل الله تراق فيها دمائي، وتتبعثر فيها أشلائي”. ما يؤكد على إيمان مسك أن تفجير جسده وتفتته هو أقصى حالة التحرر، فهو ينتزع من العدو السيطرة على الجسد، والاحتفاظ فيه. فعمل مسك كما باقي الاستشهاديين، رد حلبة المعركة إلى الأجساد البيولوجية الاستعمارية. فقد خرج الاستعماري من جسد جماعته ودخل الجسد الاستعماري، وقام بإخراج جسده والجسد البيولوجي الاستعماري من مسرح الفعل التاريخي.(8)

في خطابه الأول الذي يعتبر الأطول بين خطاباته الستة وقد امتد لنحو 25 دقيقة، اختار رائد مسك أن يجلس يتلو وصيته في مكتبته داخل منزله، المليئة رفوفها بكتب الفقه والشريعة الإسلامية. وقد علق خلفه ثلاث رشاشات، وحمل الرابع بيده، وابتعد عن الجلوس خلف طاولة، ليكون ربما أكثر قرباً للمشاهد، ولتكون ما يحاول إيصاله عبر لغة جسده واضحة ومباشرة، إذ ركز طوال الوصية على رفع علامة التهديد والوعيد. وخلافاً لمعظم وصايا الاستشهاديين لم يفتتح رائد وصيته بالآيات القرآنية، بل بقصيدتين قصيرتين مُغنّاتين، الأولى يخاطب بها والدته التي توفيت خلال اعتقاله (قبل استشهاده بـ 14عاماً). إذ حملت المرثاة بين كلماتها زهد الدنيا مهما بلغت فيها السعادة، وإلحاحاً في طلب الجنة التي يرى مسك الطريق إليها لا يكون إلا بالشهادة والفداء. أما المغناة الثانية، فيُجيب مسك عن سبب إلحاحه بالسعي للشهادة، وذلك ثأراً للقيادي عبد الله القواسمي.  

يشكل الخطاب الأول قاعدة أساسية للخطابات الخمسة الأخرى، إذ سيكرر وصاياه ويؤكد عليها في كل خطاب، مستنداً بشكل أساسي -كما أشرنا أعلاه- إلى مخياله الديني، وهو ما يطرح أسئلة عديدة عن لماذا لم يختزل مسك كل وصاياه في خطاب واحد؟ على ماذا كان يؤكد من رسائله المتكررة سواء المسجلة أو المكتوبة؟ وماذا نقرأ بين سطور الوصايا؟

يستند مسك في خطابه الأول على النص الديني الإسلامي، وينطلق مفسراً ومبرراً انخراطه في المقاومة كونها الخير المطلق الذي يقاتل الشر المتمثل بالعدو ليس كونه مستعمراً فقط، وإنما عدواً للإسلام. ورغم الخلفية الدينية والتعليمية لمسك إلا أن ما يظهر في وصاياه يفند أن البعد الديني هو الدافع الوحيد لتضحيته، وإنما انتمائه للدور التاريخي الذي يمر به مجتمعه، وفهمه  لموقعه كذات ترى نفسها منتمية لجماعتها، وتؤمن بالتضامن كشرط للصمود والتحدي، وتضحي بذاتها كسبيل لنجاة مجتمعها.(9) ففي رسالته الأولى تحت عنوان “رسالة الجهاد والمقاومة” يوجهها مسك إلى العدو، مهدداً ومتوعداً، ومؤكداً على قدرة المقاومة الوصول إليه والانتصار عليه، والتي تحمل دعوة مبطنة للشعب الفلسطيني تسعى لتعزيز ثقته بنفسه وقدرته على المقاومة والانتصار. 

أما الرسالة الأخرى والتي يؤكد عليها مراراً في خطاباته، فهي “رسالة الأهل”، والتي يمهد فيها للثمن الذي سيترتب على عمليته الاستشهادية، من هدم لمنزله، واحتجاز للجثمان، واعتقالات لأفراد العائلة وما سيتخذه العدو بحقهم من إجراءات ردع ستمتد ربما لأجيال. وقد حاول مسك من خلال هذه الرسالة فعل كسر مسبق لما يحاول العدو فرضه من تشويه لفعل الاستشهاد وشيطنته. ممهداً لعائلته أن ما ستمر به ليس إلا جزءاً من المقاومة الحق، التي عليهم الالتزام بها وعدم الخروج عن خطها. في 21 آب 2003، حدث ما توقع مسك في وصاياه، وما طالب عائلته الاستعداد له. إذ بدأ المستعمر محاولة استعادة سيطرته على سياسات الموت والحياة، ومحاولة فرض حالة من الردع للمقاومين الذين سيرون من مسك نموذجاً يحتذون به ويمشون على خطاه. وقد نسف الجيش الصهيوني منزل مسك، واعتقل 17 فرداً من عائلته، إضافة لعدد من الشبان الذين كانوا يرتادون ورائد ذات المساجد والتي أغلق منها الجيش في حينه ثلاثة منها مسجد الأنصار. ونتيجة للضربة الموجعة التي سببتها العملية، أقر المجلس الوزاري الصهيوني المصغر خطة تمتد لعدة أيام وتتضمن شن غارات وعمليات اغتيال واعتقالات لقيادات وعناصر المقاومة الفلسطينية من حركتي حماس والجهاد وكتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح.(10) 

فور إعلان هوية منفذ العملية، والتداول الواسع لاسم رائد مسك، تأكدت زوجته أريج -التي لم تسمع رسائله بعد-  أن ستواجه الآن ما تواجهه كل عائلات الاستشهاديين، وقررت التوجه من منزل عائلتها حيث كانت تنتظر عودته كما اتفقا، إلى منزلهما، باحثة عن صور زفافهما، والبدلة التي ارتداها رائد في عرسهما قبل خمس سنوات، هي الذكريات المادية الوحيدة التي أرادت الاحتفاظ بها عنه، وإخراجها من المنزل الذي سيهدم خلال ساعات قليلة. غادرت أريج منزلها للمرة الأخيرة وتركت باب منزلها مشرعاً وأنواره مضاءة.(11) وبعد قليل، توافد أفراد العائلة والجيران إلى المنزل وبدأوا إفراغه من محتوياته، فكان واحداً من المشاهد القليلة التي ما يزال مؤمن يحتفظ بها في ذاكرته عن ذلك اليوم.(12)

 في حينه، طلبت أريج أن تُنقل مكتبة رائد بحرص إلى مكان آمن، لتدرس فيما بعد ماذا ستتصرف بها. فأجابها رائد في وصيته طالباً أن توضع المكتبة في مسجد الأنصار في وسط مدينة الخليل، وتُسمى مكتبة الشهداء (طارق دوفش، ورفعت الجعبة، وعماد الرازم، ورائد عبد الحميد مسك)، وأن تتاح للجميع،

 حيث ما زالت حتى اليوم. لتصبح المكتبة عودة أخرى للشهيد رائد مسك الذي لم يعد يجلس بين طلابه في المسجد يدرسهم، بل ترك لهم كتبه إرثاً يتقاسمونه ويراكمون عليه علماً وفعلاً، في محاولة لبناء فكر إسلامي محارب يواجه العنف الاستعماري. فلم يطلب تسمية المكتبة بأسماء الشهداء عبثاً، بل كدعوة ملحة ومباشرة للمراكمة على أفعال استشهادهم، واستمراراً لانخراطهم في عملية التحرر، مستعيداً المسجد ومنبره كمساحة للتجنيد بالمقاومة والتعبئة الثورية.

مكتبة الشهيد رائد مسك

وأمام مسجد الأنصار، بُني نصب في منتصف الشارع الرئيس الذي تمر منه المركبات دون توقف متوجهة إلى مركز المدينة أو خارجة منه. نصب يحمل خارطة فلسطين الكاملة، وحُفر عليها أسماء شهداء المدينة واستشهادييها خلال انتفاضة الأقصى من بينها اسم رائد مسك، في استعادة مستمرة لهم ولفدائهم. هم الذين مروا من هنا يوماً، فعادوا إليه اليوم أسماءً. 

وترك مسك رسائل خاصة خاطب فيها شباب المساجد مؤكداً على أن مهمتهم ليست دعوية فقط، وإنما جهاد ومقاومة، وقد أوصاهم بقراءة وحفظ وصية الشهيد عبد الله عزام،(13) تأكيداً على أن الجهاد في فلسطين جزء من جهاد المسلمين في كل العالم. وثانياً الاقتداء بشخصه كرجل دين اتخذ الجهاد طريقاً. من جهة أخرى، أوصاهم بالمطاردين، مستنكراً ما عايشه بعضهم جراء رفض إيوائهم أو مساعدتهم من قبل دعاة وعلماء وطلاب علم، خاتماً وصيته لهم: “أنتم أيها العلماء يا ملح البلد، من يصلح الأرض إذا الملح فسد”. مستحضراً عظة الجبل عندما خاطب سيدنا المسيح طلابه، قائلاً: “أنتم ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح فبماذا يملح (..)”. 

أما الرسالة الأخرى، فقد خصصها مسك لأمهات الشهداء وعائلاتهم، مستنداً ومفسراً للآية القرآنية: “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”(الآية 169 من سورة آل عمران).  وللحديث النبوي: “إنَّ للشّهيدِ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ سِتَّ خِصالٍ: أن يُغفَرَ له في أولِ دَفعةٍ من دمِه، ويَرى مقعدَه من الجنَّةِ، ويُحَلَّى حُلَّةَ الإيمانِ، ويُزَوَّجَ من الحُورِ العِينِ، ويُجارَ من عذابِ القبرِ، ويأمنَ من الفزعِ الأكبرِ، ويُوضَعَ على رأسِه تاجُ الوَقارِ الياقوتةُ منه خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ويُزَوَّجَ ثِنتَينِ وسبعينَ زوجةً من الحُورِ العِينِ، ويُشَفَّعَ في سبعينَ إنسانًا من أقاربِه”. لم يقم مسك بتلاوة النصين، بل فسرهما حيناً، وغناهما بأبيات قصيرة حيناً آخر، مشيداً بالشهداء ومكانتهم في الجنة. 

وتضمنت وصايا مسك استناداً مباشراً على الخطاب السياسي لكتائب الشهيد عز الدين القسام، وقد برز ذلك جلياً في إعلان التبني -ولم تخلُ الوصايا الأخرى منه أيضاً- إذ أكدت على سيرورة فعل الاستشهاد، فكل فعل استشهاد هو ثأر لشهيدٍ، وتصدٍ لكل فعل استعماري. مشدداً على أن الاستشهاد فعل ثوري مستمر لن يتوقف إلا بالتحرر. وهو أيضاً ما ركز عليه في خطابه الثاني الذي قدمه كمرثية لعدد من الشهداء الذين احتذى بسيرتهم المقاومة واستشهادهم. وقد أجاب بما سبق أن أجاب به الحلاج عندما سئُل عن صحبه. فأجاب: “أصحابي آيات القرآن وأحرفه، كلمات المحزون المهجور على جبل الزيتون، أحياء الأموات، الشهداء الموعودون، فرسان الخيل البلق ذوو الأثواب الخضراء، آلاف المظلومين المنكسرين”.(14) 

وعَوْدٌ إلى خطاب التبني، فكان إعلاناً رسمياً من كتائب القسام على لسان مسك، أن العملية تُشن ثأراً للشهيد عبد الله القواسمي، كما اعتبرتها “رداً أولياً” على اغتيال الشهداء في نابلس، في إشارة إلى كونها تأتي ضمن سلسلة من عمليات الثأر والانتقام. وقد اختتم البيان، برسالة إلى الشعب “الإسرائيلي” سُجلت باللغة الإنجليزية، حمل مسك العدو مسؤولية وقف الهدنة بسبب خروقاته المستمرة التي لن تسكت عنها المقاومة، والتي تمتلك قوة الرد والتصدي. وقدرة المقاومة الوصول إلى “شارون”. ورجوعاً إلى وصيته المسجلة الأولى، أكد مسك على أن “شباب الكتائب” نووا الصيام منذ اغتيال القواسمي، وأقسموا ألا يفطروا إلا بثأرهم له. وهو استحضار للتجربة التاريخية الإسلامية حول العطش والصيام، تأكيداً على التمسك بمبدأ الحق وعدم الاستسلام، كامتناع سيدنا العباس عن شرب المياه والأطفال والسيد الحسين عطشى. كما ويروي شباب الإعداد لعملية مسك الاستشهادية أنه في يوم العملية رفض الأكل، ولم يكمل التمرة التي قُدمت له، شوقاً للجنة كما أخبرهم.(15)

ولأن “حلم الشهيد هو كابوس السلطة، مثلما كابوس الشهيد هو اندثار الأحلام. لذلك تصدُّ السلطة كابوسها المزدوج، بأفكار تصدُّ الأحلام، وتجعل من زمن الشهيد كابوساً تولى”.(16) باشرت السلطة الفلسطينية فور الإعلان عن عملية مسك، بممارسة دورها الوظيفي، فأصدرت بيانات تُدين العملية، ونقلت وسائل الإعلام على لسان مسؤول فلسطيني أن رئيس الوزراء محمود عباس يريد اتخاذ إجراءات -لم يحددها- ضد المنظمات التي يعتبرها “مسؤولة عن إلحاق الأذى بالمصالح الوطنية الفلسطينية”. وأعلنت قطعت اتصالاتها مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ووجهت لهما اتهامات أنهم وراء انهيار الهدنة السارية منذ 29 حزيران،(17) الهدنة التي لم يلتزم بها العدو طوال الوقت. كما وأصدر عباس تعليماته إلى قوات الأمن الفلسطينية للتحقيق الفوري في الحادث.(18) فمجدداً، تُثبت السلطة أن لا شيء بقى من الميثاق الفلسطيني. لم يعد الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين (المادة 9). ولم يعد المقاتلون وحملة السلاح في معركة التحرير هم نواة الجيش الشعبي (المادة 30).(19)   

بعد تسع سنوات، في 31 أيار 2012، سلم العدو الصهيوني السلطة الفلسطينية 91 شهيداً واستشهادياً كان قد احتجزهم في مقابره، وذلك بعد أن رضخ لشروط المقاومة وأعادهم لعائلاتهم ضمن صفقة وفاء الأحرار.(20) وكان الاستشهادي رائد مسك واحداً منهم، عائداً إلى مقر المقاطعة في رام الله، حيث صدر من هُنا قراراً بإدانة عمليته والتحقيق حولها. فوقف وجهاً بوجه أمامهم، بمبادئه الثورية ذاتها، وفكره التحرري العنيد، وبسلاحه الرشاش، وحزامه الناسف، هو الذي لن ينطق هذه المرة بوصاياه، مستعداً للعودة مرة أخرى وتنفيذ عمليته ذاتها، ثأراً وانتقاماً للشهداء. 

في ذلك اليوم، وبعد أن نقلت جثامين الشهداء إلى قراها ومدنها، تسلق مؤمن إحدى الحافلات ووقف على سقفها باحثاً عن والده رائد مسك العائد إلى مدينته الخليل. ظل مؤمن ينتظر ويراقب بين آلاف الجموع، هو الذي كان ينتظر حلول العام القادم، ليفتح وأشقائه وصية والده الأخيرة التي أوصى أن يقرأوها في ذكرى استشهاده العاشرة. اليوم يعود قبل رسالته. فُتح التابوت الخشبي، ولم ير مؤمن إلا قطعة من جسد بشري، أدار ظهره سريعاً، بكى، وخاف. هو الذي كان يحلم أن يرى وجهه فقط.(21)

بعد سنوات طوال من إرجاء طقوس الموت باحتجاز العدو جثامين الاستشهاديين والشهداء في مقابره، خرج آلاف المشيعين يحملون رايات حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وقد لفوا بها التوابيت أيضاً.(22) وهتفوا: “تحية للكتائب عز الدين”، وآخر:”سمع سمع كل الناس.. الخليل مع حماس”. وتناقلت الجموع القصص العديدة حول الجثامين وتشييعها، لاجئة إلى فكرها الصوفي حول الشهادة والفداء، ومتحدثة عن كرامات الشهداء بعد كل هذه السنوات، فتروي إحدى تلك القصص أن الجثامين كانت تقطرمنها الدماء وتسيلمن توابيتها. 

إلى مقبرة المجاهدين في حي أبو كتيلة، عاد الاستشهادي رائد مسك، منضماً إلى عدد من شهداء انتفاضة الحجارة (1987-1993) الذين هُربت جثامينهم إليها

 ودفنوا على عجل خوفاً من احتجازهم، إضافة لشهداء آخرين ارتقوا خلال انتفاضة الأقصى. تتكون المقبرة من ثلاثة غُرف دُفنت فيها الجثامين، وغطيت بالرمل

الذي نما عليه بعض الحشائش. لا شيء يدل على كونها قبور شهداء، أو حتى قبور، لا أسماء، لا تواريخ للولادة أو الوفاة. سقط المطر على الآية القرآنية المحفورة على حائط المقبرة: “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”، حتى بَهُتت وبالكاد أصبحت تُرى. فيما يبدو أن أحدهم أعاد تلوين اسم المقبرة، محاولاً المحافظة على هوية من فيها، وأي درب سلكوا. 

مقبرة المجاهدين في حي أبو كتيلة

وبالقرب من أحد القبور، ترك أحدهم كرسياً بلاستيكياً، يبدو أنه يزور بشكل دائم من في المقبرة، يجلس معهم أو مع أحدهم وينقل لهم أو له الأخبار من عالمنا، عالم الأموات، وينتظر منهم أو منه الرسائل من عالمهم، عالم الأحياء. وفي زاوية المقبرة، وُضعت الحمالة الخشبية القديمة، فتبدو مستعدة لتشييع شهيد جديد، كجزء من الدورة المستمرة للفداء.

———
وصايا الشهيد رائد مسك كاملة هنا