نضع بين  أيديكم هذه الترجمة، للباحث الصهيوني «روعي ماروم»،  عن قرية ملبّس المهجّرة قضاء مدينة يافا. تنبع أهمية هذا المقال من كونه يكشف نمط الحياة الاقتصادية وبعض الخصائص الاجتماعية لهذه القرية عبر العصور، استناداً للحفريات التي عُثر عليها خلال أعمال التنقيب الحديثة، وهي خصائص تميّز هذه القرية والعديد من القرى والمناطق المحيطة بها في محيط مدينتي يافا والرملة، وخصوصاً أن هذه القرية كانت مأهولةً على امتداد التاريخ المعروف لكونها تقع في منطقةٍ شديدة الخصوبة حيث يرويها نهر العوجا، وهي أيضاً قريبة من خطوط الاتصالات الرئيسية في فلسطين، كما أنها أوّل قرية فلسطينية استولى عليها المستوطنون إبان العهد العثماني وأقاموا عليها أول مستعمرة صهيونية، وهي «بتاح تكفا» ( مفتاح الأمل)، التي يدلّ اسمها أنها بداية لتأسيس مستوطنات يهودية مشابهة.

كما تجدر الإشارة إلى أن أبحاث وتقارير المؤرّخين والآثاريين الصهاينة، ومن سبقهم من المستشرقين الأوروبيين، كانت مدفوعةً وموجّهةً بدوافع أيديولوجية استعمارية مركّبة نفياً وإثباتاً. كما يجدر الانتباه إلى الأسماء التوراتية والعبرية التي يطلقها الباحث على مختلف الأماكن، وعلى طريقة تحقيب ووصف الفترات الزمنية خلال القرون السابقة والتي يظهر فيها الوجود العربي كفترة مؤقتة وقصيرة وسط فترات فارسية ورومانية وبيزنطية وإسلامية وصليبية ومملوكية وعثمانية مهمّشاً الاستمرارية التاريخية لوجود أهل البلاد قبل أن يشوّش الاستعمار الغربي الحديث هذه الاستمرارية.

نُشر هذا المقال عام 2019 في المجلّد الثاني من العدد 151 من مجلّة «فصلية استكشاف فلسطين» (Palestine Exploration Quarterly) التي تُعنى بدراسة تاريخ وآثار وجغرافيا بلاد الشام، والتابعة لصندوق استكشاف فلسطين (PEF).

 

*****

مقدّمة

يتناول هذا البحث ثقافة ونمط حياة قرية ملبّس الملموسة في حدود النصوص الإقليمية التاريخية الجغرافية عبر نتائج بحوثٍ وحفريات منشورة حديثاً، وأدلّة أخرى مكتوبة وغير ملموسة. وعلى الرغم من امتلاك القرية [ المقامة عليها مستوطنة بتاح تيكفا]  مميزات طبيعية عديدة، مثل وفرة المياه والأراضي الزراعية، إلا أنها لم تسكن بشكل متواصل عبر الأزمان بسبب التغييرات السياسية والاقتصادية، كانتشار مرض الملاريا. أما في إطار دراسات الآثار العمرانية العثمانية، فلم يُنشر منها إلا القليل حسب الباحث، خاصةً تلك المواد البحثية التي درست التبادل الثقافي المستمر والروابط الاقتصادية بين قرية ملبّس، والجبال الوسطى، والجزء الجنوبي من فلسطين.

تعتبر قرية مُلبّس اليوم موقعاً أثريّاً مهماً. تقع على تلٍ منخفض الارتفاع – 37 مترا فوق سطح البحر – وتُقدّر مساحة المنطقة المبنية منها بـ 30 دونماً. وهي على الحافة الجنوبية من نهر اليركون [العوجا]، على بعد 1.25 كم عنه، ما جعلها من أكثر المناطق خصوبة وأهمية استراتيجية في الساحل الفلسطيني. وكانت هذه المنطقة مهمة جداً في مسار (Via  Maris)، الذي يعبر سهول روش هايين [ رأس العين] (تل أفيك قديماً) وتلال «السامرة».  [1] [2] إضافة إلى أنها لم تبعد كثيراً عن الطرق الرئيسية التي تربط يافا بالقدس، ممّا أكسبها أهميةً كبيرةً في فترة الحكم الروماني.

وفي السنوات الأخيرة، نفذت هيئة الآثار «الإسرائيلية» عدّة حفريات إنقاذيّة في تل مُلبّس، تحضيراً لبناء مستعمرة «ليف هاسافيونيم Lev ha-Savyonim» السكنية. يعرض الباحث تاريخ المنطقة من وجهة نظر البحوث الجارية حالياً والتقارير المنشورة والمصادر المكتوبة المكتَشفة حديثاً.

جغرافياً، تقع قرية ملبّس بين عدة أقاليم، لكلٍّ منها ميزاتها البيئية. فيحدّها إلى الشرق محيطُ نهر اليركون (العوجا) الذي تتوفر به مصادر المياه بشكل كبير حيث يمكن عن طريقه إمداد المستوطنات [المقصود المستوطنات البشرية وليس المستعمرات الصهيونية] المحيطة بكميات كافية من الماء والأراضي الزراعية الخصبة، لكنه تأثّر قديماً بمرض الملاريا. وكانت المنطقة المركزية لهذا الإقليم قديما تلُّ أفيك [رأس العين]، الواقع على ضفاف نهر العوجا. والإقليم الثاني يتمثل بشمال وجنوب نهر العوجا، الذي يتكون من تلال ذات رمال حمراء غير قابلة للزراعة. وأظهرت الدراسات أن الناس سكنت عبر العصور القرية، بسبب خصوبة الأراضي الزراعية في محيط اللد والرملة. كما شارك سكانها في الفعاليات الاقتصادية والتجارية والصناعية في محيط هذين الإقليمين.

العصور الأولى

لم تكتشف آثار السكان الأوائل لقرية ملبّس على أراضيها، وإنما في منطقة اتصال بين التلال الحمراء (حمرا) ومحيط نهر العوجا. إذ جمع العالمُ الأثريُّ الصهيوني «يعقوب كابلان» حديثًا أحجار صوانٍ تعود للعصر الحجري (circa. 5500-4250 BCE). وتشير الحجارة إلى نمط معيشة يعتمد على الصيد والزراعة. وكانت القرية في العصر البرونزي موطناً لمجتمع ريفي صغير  (circa. 2000- 1550 BC). كما أُقيمت في العصر الحديدي (circa. 900-586 BCE) مستوطنة على أراضي القرى خلال الحكم الفارسي (586-332 BCE) وامتدّت نحو التلال المجاورة.

ملبّس خلال العصر الروماني والبيزنطي

وُجدت فيما بعد آثار متعدّدة للمستعمرة في تل ملبّس. كما اكتشف المستعمرون الأوائل في «بتاح تكفا» قبوراً ترجع لفترة الحكم الروماني للقرية. وبقي المكان مسكوناً خلال الحكم البيزنطي وبداية الحكم الإسلامي، وكانت طبقاته المكتشفة مماثلةً للآثار المكتَشفة في مناطق قريبة اسمها «الفجّة».

سمى «كابلان» المستعمَرة الرومانية المذكورة في تلمود القدس بـ «الأُجادور»، في نصٍّ يناقش حُرمة شرب نبيذ القرى القريبة من الأراضي السامرية: «قالوا أولاً: لماذا حرّم نبيذ الأُجادور؟ قال بسبب «الكفار بجاش»، ولِمَ حُرّم نبيذ بورغاتا؟ قال بسبب «البيرات سيريقا»، ولِمَ حُرّم نبيذ عين كُشيت؟ قال بسبب «كفارشاليم».

 דתני בראשונה היו אומדים יינה של אוגדור. למה הוא אסור מפני כפר פגש, ושל בורגתה מפני בירת (שלם כפר מפני כושית עין של, סיריקה)

اعتمد «كابلان» في تحليله على فرضية وجود علاقةٍ بين اسم «كفار بجاش» ومنطقة «باجي» القديمة (Πηγές) المسمّاة لاحقاً باسم الفجّة العربية. ويقترح أيضاً أنّ اسم «اجادور» أُخذ من الاسم الجغرافي العربي لتل مُلبّس: تل الجدور أو تل الجِدار. لكنّ هذه الفرضية ضعيفة.

تابوت حجري روماني من قرية ملبّس، استخدمه أهالي القرية في القرن 19 لري المزروعات، ويُستخدم اليوم مكانًا للزراعة في ساحة مدرسة محلية.

خلال النصف الثاني من القرن العشرين، عُثر خلال نشاطٍ زراعيّ في التلّ ومحيطه على معصرة زيتون، وبقايا معدنية  وتوابيت يرجع تاريخها للعصر البيزنطي. وكشفت حفريات الإنقاذ بقايا حيٍ صناعيٍ يرجع تاريخه لتلك الفترة الزمنية أيضاً، وبقايا بناءٍ تذكاريّ يرجع للقرن الرابع، ومعاصر نبيذٍ وأفران فخارٍ كان وقودها أخشاب شجر البلوط التي كانت تحيط المنطقة. يقول الباحث ضرار مصاروة بهذا الخصوص: «إنّ اكتشاف معمل فخار يدعم المعلومات المتوفرة لدينا من بعثات  حفرٍ سابقة، تقترح وجود حيٍّ صناعيّ في المنطقة. فوجود معصرة نبيذ تعني الحاجة لصنع أوانٍ فخارية لتخزين ونقل النبيذ بعد إنتاجه».

كما يشهد فرن الطابون والأرضية الفسيفسائية، والأرصفة الحجرية التي عثر عليها خلال أبحاث مصاروة على استمرارية الوجود في هذه المستعمرة في بداية الحكم  الإسلامي.

.معصرة نبيذ مرمّمة من العصر الروماني البيزنط، مُلبّس

بُلبس: مُلكيّة صليبيّة

يرمز عادة لقرية مُلبّس بقلعة بُلبس، التي سلمها مختار يافا لجيش الاسبتارية عام 1133 CE، وسلم أيضاً طواحين الجسور الثلاثة (des moulins des trios ponts). كان الباحث الفرنسي «ديلافيل ليرولكس» أوّل من قدّم هذا المقترح، الذي وافق عليه لاحقاً الباحثون «الإسرائيليون»: «ميشيل آفيونا» و «صاموئيل آفيتزور» و«إيلي حداد». ويقصد بالطواحين غالباً تلك التي في قريتي المير والفاروقية، اللتين تقعان قرب نهر اليركون شمال قرية مُلبّس. وكشفت حفريات الإنقاذ عام 2006 و2007، التي نفّذت تحضيراً لبناء حي «ليف هاسافيونيم» الاستيطانية، بقايا بناء يعود تاريخها للعصر الصليبي. بالإضافة إلى أساسات ضخمة من الأرصفة البحرية التي تدعم هيكلاً مقبّباً ومزخرفاً يتربّع على قمة التل.

مُلبّس خلال حكم المماليك والعثمانيين

بُني فوق الركام الصليبي بعد الإهمال والدمار الذي لحق به في القرن الثاني عشر خزان ماءٍ ضخم من حوضين، مغطىً بطبقةٍ من الجص الهيدروليكي. وتشير آثار قناة الصرف الصحي إلى احتمالية وجود مصدرٍ مائيّ في تلك المنطقة، مرتبط بتربية المواشي. فوجد «حدّاد» عدداً ضخماً من عظام الحيوانات في محيط منطقة خزان المياه، وغالباً ما تعود للمواشي التي امتلكها سكان المنطقة. كما كشفت الحفريات التي نفذها الباحث عنان عزاب سابقاً عن آثار مساكن مدمّرة من أحجام مختلفة من حجارة الحقول، وحجارة منحوتة، وتراب أسود، وبقايا فخارية ترجع للعهد المملوكي.

اعتُبرت قرية ملبّس من أراضي الرملة خلال القرن الخامس عشر، ما جعل لهما حياة اقتصادية واجتماعية مشتركة. وفي عام 883 هجري (1478 ميلادي)،  وقف  السلطان الأشرف سيف الدين قايتباي ربع إيراداتها للمدرسة الأشرفية في القدس والجامع في مدينة غزة.  ومع بداية الحكم العثماني، بدت قرية ملبّس على أنّها غير مأهولة بالسكان، إذ لم تظهر على قوائم «الدفتر المفصل» وهو سجل الضرائب العثماني، الذي يؤرخ بـ 1005  هجري (1596/7 ميلادي CE). لكنّ الباحث التاريخي الجغرافي «ديفد جروسمان» يقترح تسجيل قرية ملبّس تحت اسم (ميلوص) في الدفتر العثماني، وذلك لقلّة استخدام علامات الترقيم في النصوص العربية – التركية، كما أنّ القائمة الكاملة لأسماء المزارع لم تنشر بعد.

تبين العادات الموروثة من المستعمرين الأوائل في «بتاح تكفا»، التي دونها كل من «أبراهام يعري، و«موشيه سمايلانسكي أنّ فلاحي «السامرة» عادوا للسكن في مُلبّس خلال القرن الثامن عشر كما تظهر على خريطة «بيير جاكتين» عام 1799. وكما دوّن «أبراهام يعري» أنّ الملاريا والخلافات مع القبائل البدوية المجاورة أدّت إلى هجر القرية.

وتؤكّد المصادر العربية واليهودية أنّ عائلة عبد الحميد المصري سكنت القرية خلال القرن التاسع عشر. وفي الثاني عشر من يناير/ كانون الثاني عام 1870، زار الباحث الفرنسي «فيكتور جورين» القرية ووصفها بأنّها قرية صغيرة يسكنها 140 شخصاً وتحيط بها حقول البطيخ والتبغ. ووصف الباحثون الذين قاموا بـ «الدراسة الاستقصائية لغرب فلسطين» عام 1874 القرية بأنّها «قرية طينية، وفيها بئر»، وتشير هذه التسجيلات لفترات السكن الأخيرة للقرية. حتى أصبحت القرية عام  1878 أوّل قرية فلسطينية يكتسبها اليهود بغرض تأسيس مستعمرة زراعية، وهي «بتاح تكفا».

قرية ملبّس ومحيط نهر العوجا حسب خريطة «بيير جاكتين»
قرية ملبس ومحيط نهر العوجا حسب خريطة (SWP)

أظهر كل من «أوزي براهم» و«لندا كارول» و«بيثاني ووكر» أنّ علم الآثار لفترة الحكم العثماني لم يلقَ الاهتمام اللازم وأن البحوث التاريخية محدودة جداً. عدا عن إهمال علم الآثار «الإسرائيلي» والطبقات العثمانية، أو حتى محوها تماماً بسبب عدم تدوينها وتوثيقها. إذ لم يحمِ القانون «الإسرائيلي» الإرث العثماني بعد عام 1700 ميلادي.  مع ذلك، اكتشف خلال حفريات البحث في الطبقات الأولى لتل ملبّس بقايا نفايات، ووجد الباحثون بقايا أواني ماء وأنابيب فخارية تعود للقرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، الأمر الذي يؤكد استمرارية استخدام خزانات الماء خلال فترة الحكم العثماني. كما كشفت الحفريات أن القرية كانت تتكوّن من أبنيةٍ من طوب اللبّن  وأُسس صخرية، ووجد أيضاً بعض من فخار غزة الأسود (Gray Gaza Ware) الذي يُعدّ أحد مميزات تلك الفترة التاريخية.

قرية ملبّس (1880)

بينما ازدادت الحفريات البحثية المماثلة في بلغاريا وتركيا واليونان والأردن، إلا أنه لم يستفَد منها لتسليط الضوء وتوضيح تاريخ القرية الفلسطينية في نهاية الحكم العثماني. وكانت معظم البحوث في السنوات الأخيرة قد تناولت مدناً مثل يافا وعكا والقدس، أو ركّزت على هندسة أشكالٍ معينة والنقوش المصاحبة لها في الريف. علاوةً على ذلك، تميل المناقشة الجغرافية التاريخية على المستوى الإقليمي إلى المبالغة في تبسيط تعقيدات البيئة الديمغرافية المتنوعة  في المنطقة.

هذه الدراسة الموجزة لقرية مُلبّس، تساهم في معرفتنا بالحياة الريفية في منطقة يافا. وتظهر أنّ قرية مُلبّس كانت جزءاً من مساحة أوسع للتبادل  وتحرّكات السكان مع روابط مع بلاد الشام وخارجها. وبالمثل، فإنّه يعبر عن الاستمرارية التاريخية المديدة  للاستيطان البشري في حوض نهر اليركون [العوجا] الممتدّ من العصر الحجري الحديث إلى نهاية الحكم العثماني، من خلال موقع أكثر تواضعاً، وأكثر أهمية من المدن المجاورة مثل يافا أو تل أفيك. يمكن للبقايا المادية، التي تم التنقيب عنها بواسطة  مجرفة عالم آثار دقيق وصادق، أن تستعيد لنا آثاراً لعالم الشعوب والمجتمعات التي غالباً ما تغفلها المصادر المكتوبة المعاصرة والبحوثات الحديثة، على حد سواء.

تقرأون أيضاً على باب الواد: 

علم الآثار ورسالته: الحضور البريطاني في القدس في القرن التاسع عشر