يروي برتقال يافا كثيراً عن تاريخها، فتاريخه تاريخها، ومحدِّدٌ لمعالم الحياة الاجتماعية والاقتصادية فيها، وعلامةٌ مميزة في ذكريات أهلها وشخصياتهم الذين ما إن تسألهم عن يافا وعن عودتهم “تسيل ذكرياتٌ برتقالية في الفضاء، ويفوح عبيره حتى يشمّه المستمع إليهم في فضاء الغرفة”[1]، ويكون ممّا يشكل الصورة الكاملة لكلّ فلاشات هذه الذاكرة وأمل العودة، ولاحقاً أصبح رمزاً من رموز المقاومة الفلسطينية؛ إذ خبّأت البيارات في أحضانها كثيراً من الثوار الفلسطينيين وتماهوا فيها.
يروي برتقال يافا كثيراً عن تاريخها، فتاريخه تاريخها، ومحدِّدٌ لمعالم الحياة الاجتماعية والاقتصادية فيها، وعلامةٌ مميزةٌ في ذكريات أهلها وشخصياتهم الذين ما إن تسألهم عن يافا وعن عودتهم حتى “تسيل ذكرياتٌ برتقاليةٌ في الفضاء، ويفوح عبيره حتى يشمّه المستمع إليهم في فضاء الغرفة”[1]، وهو جزءٌ ممّا يشكل الصورة الكاملة لكلّ فلاشات هذه الذاكرة وأمل العودة، ولاحقاً أصبح رمزاً من رموز المقاومة الفلسطينية؛ إذ خبّأت البيارات في أحضانها الكثيرين من الثوار الفلسطينيين وتماهوا فيها.
زُرعت فلسطين على مدار مئات الأعوام بالبرتقال والحمضيات على اختلاف أنواعها، كانت البيارات منتشرةً في كلّ فلسطين باستثناء الجبال والصحراء، من أريحا والغور الفلسطيني شرقاً ووصولاً إلى الغرب حيث سواحل البحر المتوسط، وما بينهما في السهول الداخلية.
وصل البرتقال بادئ ذي بدء إلى دول المشرق العربي عموماً في القرن العاشر الميلادي، حيث نقله العرب من موطنه الأصلي: الهند والصين -كما يذهب إلى ذلك باحثون في الإنسايكلوبيديا الإنجليزية- أثناء فتوحاتهم في شرق آسيا ليبدأ رحلته في الانتشار وصولاً إلى فلسطين.[2]
في سنين لاحقة ظهرت الأنواع الكثيرة من البرتقال منها برتقال أبو سرة، برتقال البالنسيا، دم الزغلول، الكبّاد، البوملي، الجريب فروت، الكلمنتينا ويوسف أفندي، الليمون الحلو، الليمون الحامض، الخشخاش والبرتقال الصغير “الياباني” الذي يؤكل مع قشرته، إضافةً إلى البرتقال البلدي الفلسطيني، والذي طُوّرت منه لاحقاً طفرة جينية أنتجتْ البرتقال الشمّوطي، كان ذلك في بدايات القرن التاسع عشر، وبدأتْ معه رحلة ازدهار البرتقال اليافاوي، وأصبح زائراً دائماً للدول الأوروبية.
بدأ تصدير البرتقال من فلسطين لأنواع اليوسفي، قصدت شحناتُه مصر واسطنبول، لم يكن البرتقال إذ ذاك يُشحن في صناديق من الخشب ملفوفاً بالورق وإنما كان يُكدّس فوق بعضه في عنابر المراكب.[3] وبعد ظهور الشمّوطي وتميّزه عن غيره من أصناف البرتقال، وتطوير طرق تطعيمه والعناية به، استأثر بالحصّة الأكبر في التصدير، إلى الدول الأوروبية خاصّةً. وهنا بدأت رحلة العلامة التجارية المميزة لبرتقال يافا (Jaffa Orange)، التي نجدها مطبوعةً على الصناديق الخشبية المستخدمة لتصديره.
ولعلّ طعمه الحلو ولونه الزاهي وعصارته الكثيرة أكثر ما يميّزه عن بقية الأنواع، كما أنّ قشرته سميكة تحفظ البرتقال فترةً طويلةً وتَقيِهِ تقلبات الطقس ومشاكل النقليات التي قد يتعرض لها أثناء رحلة الإبحار إلى أصقاع الأرض. كما أن البرتقال الشموطي سهل التقشير، وفصوصه سميكة بقشرةٍ داخليةٍ رقيقةٍ يسهل فصلُ بعضِها عن الأخرى. أما شكل حبّته فهو كالبيضة، ويمكننا تمييز شتلته من ورقها الأخضر الداكن ذي الشكل الرمحي الرفيع مقارنةً بغيره.[4]
والحقيقة أن البرتقال الذي كانت تُطبع عليه علامة (Jaffa Oranges) كان يأتي من كلّ بيارات فلسطين غير مقتصرٍ بذلك على يافا، فمن وادي حُنين قضاء الرملة حتى طوباس وطولكرم وغزة، كانت تُنقل أحمال البرتقال من هذه الأماكن إلى يافا بِدءاً، بعد مرورها على الفحص ثمّ تذهب إلى بواخر التصدير موشوحةً بختم علامتها المميزة.
السرقة الصهيونية لرمزية البرتقال اليافاوي
ارتبط برتقال يافا بها وبفلسطين عموماً، وأصبح رمزاً مهماً يشير إليها تلقائياً، وفي حملة الصهاينة لسرقة الرموز الفلسطينية والتاريخ الزراعي الفلسطيني التي طالت برتقالها أيضاً، وبعد أن قام كيانهم بتغيير أسماء المدن والقرى الفلسطينية؛ وأصبح اسم يافا “يافو”، أُجبر الكيان على الاحتفاظ باسمها الفلسطيني في الماركة (Jaffa Oranges)، خشية أن يفقد سمعته التجارية الواسعة. [5]
تُوثّق هذه السرقات في فيلم Jaffa – The Orange’s Clockwork “يافا-مكانيكية البرتقال”[6]، الذي أنتجه الصهيوني “إيال سيفان”، فيذهب بأن “إسرائيل” تحاول ربط البرتقال بالسياسة؛ حتى استغلته لغرض الدعاية لها ووضعته على لوحات الترويج السياحي، فقام بدورٍ ما في صناعة السياحة للبلاد المسروقة، وكذلك في الطوابع البريدية، إلى صور اليهود المجتمعين في البيارة يقطفون البرتقال معاً، في مشهدٍ تمثيليّ يظهرون فيه كجزءٍ أصيلٍ من الأرض بتفاعلهم معها، ويرى “سيفان” بأنه كما يرمز البرتقال للفلسطينيين واليافيين بفقدانهم لوطنهم وأملهم بالعودة لعروس البحر، يرمز للصهاينة أيضاً بمشروعهم في قيام الكيان الصهيوني، وتحوّله إلى أيقونة لـ “إسرائيل الفتيّة”.
وطالت السرقة كذلك إدخاله في السينما الصهيونية السارقة للرموز ذاتها، وإلصاقها بفئة معينة تشكّل الوجه لـ” الصهيوني الأشقر الأوروبي” ، ففي ستينيات القرن الماضي قام نجوم سينمائيون بالتصوير مع برتقال يافا، مثل أنغريد بيرغمان.[7]
لم تقتصر سرقة البرتقال برمزيّته وعلامته التجارية فحسب، بل تجاوزتها إلى ادّعاء أسبقية الكيان الصهيوني في زراعة البرتقال وتطويره، وأن الفلسطينيين قبل وفود اليهود لم يكن لهم علمٌ بزراعته وطرائقها، بينما يؤكد الباحث الفلسطيني مصطفى كبها [8] أن فلسطين عامرة بالبرتقال منذ 5 أو 6 قرون خلت، وأنّ أول باخرة حمّلت البرتقال لأوروبا كانت عام 1862، أي قبل الهجرات الصهيونية آنذاك بعشرين عاماً على الأقل، وسبقتها بواخر قصدت مصر واسطنبول حوالي عام 1840 [9]، كانت تُشحن في غالبها من البرتقال اليوسفي.
تجارة البرتقال الشموطي وتصريفه
اشتُهر من تجار البرتقال في يافا كثيرون، منهم زهدي أبو الجبين وكيل Goodwer & Simon، وتوفيق غرغور وكيل علامة Trust، وأحمد أبو لبن، وخيري أبو الجبين، والحاج يوسف الحجاج، والديب حمدان، وإبراهيم البنا وغيرهم.
مع مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي بدأ تصدير البرتقال لدول جديدة مثل ألمانيا ورومانيا وازداد الطلب الأوروبي عامّةً عليه، وصولاً لثورة 1936 وإضراب الـ 6 شهور، ومع التوجّه البريطاني لوقف العمل في ميناء يافا، شهدت البلاد كساداً في أعمال البرتقال، ما اضطُرّ بعض البيّارين إلى قطف حبّات البرتقال وهو صغير ودفنه تحت التراب؛ فالشجرة المُعتنى بها كان تحمل 400 -500 حبة برتقال وهذا ما كان يشكّل عليها عبئاً بالوزن، فكانت هذه العملية تتمّ من أجل إراحة الشجر.
بين عامي 1939- 1940 كان تصريف البرتقال لا يزال يتم عن طريق وسطاء عرب ويهود، كانوا يشحنون البرتقال لإنجلترا، في تلك الفترة كان صندوق البرتقال يُباع حسب العرض والطلب بسعر 12-20 شلناً إنجليزياً (جنيهاً استرلينياً)، وقد بلغ أكبر عدد من صناديق البرتقال صدّرته فلسطين/السنة في الثلاثينيات، حيث بلغ 22 مليون صندوق.[10] ومما يجدر ذكره أنّ أخبار شحنات البرتقال وصفقات البيع مع الدول كانت تُنشر بخانة خاصة في الصفحة الثالثة من جريدة فلسطين، تتضمّن سعر الشحنة وكميتها ووجهتها ونوع البرتقال، وكلّ ذي علاقةٍ به.
بعد ذلك تغيّرت الصورة ووُجدت طريقة جديدة للعمل، حيث أنشئ مجلس تصريف الحمضيات [Citrus Marketing Board [11 وأُعطيت حصص للتجار (كوتا)، إذ كانت تُولّى عملية تصدير البرتقال بالمناصفة ما بين العرب واليهود بالإضافة لاستيراد كل المواد اللازمة للتوضيب، لم تكن هناك إمكانية للتصدير إلا بعد إذنٍ من مجلس الحمضيات وهذا ما كان ينطبق على الاستيراد أيضاً.
وكان المجلس مجلساً حكومياً، احتجّ بعض أصحاب المزارع حيث كان للتجار اليهود آنذاك جهة رسمية تمثّلهم في هذا المجلس وهي “الهستدروت”، بينما لم يكن للعرب من وسيط، فرضيت الحكومة أن يتم التمثيل على طريقة معينة، فمثلاً يستطيع تاجرٌ ما الحصول على حصة للتصدير في مجلس الحمضيات إذا كانت لدية إمكانية تصدير ما مساحته 5 آلاف دونم من بيارات البرتقال، فصارت الحصص بحسب عدد الدونمات.”[12].
أضاف التشارك في مجلس تصريف الحمضيات رمزاً آخر للبرتقال من وجهة نظر البعض، وهو رمز العمل المشترك بين العرب الفلسطينيين والمهاجرين اليهود آنذاك[13]، هذا ما حدا بعض تجار البرتقال لرفض الانضمام للمجلس بسبب ذلك[14].
التسلسل في العمل وتوزيع الأدوار على العمال في البيارة
كان صاحب كل بيارة يتولى رعايتها في الصيف ويضمنها لأحد تجار البرتقال لقاء ثمن معين، بمعنى أن التاجر كان ابتداءً من شهر تشرين الأول يرسل عمّاله لقطف البرتقال وتعبئته في صناديق خشبية وإعداده للتصدير، لهذا كنتَ ترى في البيارة عاملاً يقطف البرتقال من الشجرة وعاملاً آخر يضع البرتقال المقطوف في السلال وعامل ثالث ينقل سلال البرتقال المقطوف إلى المشغل الكائن في مدخل البيارة، وكان يسمّى “البايكة”.
وفي المشغل كان “النقّيد” يصنف البرتقال حسب الحجم ويفرز البرتقال غير الصالح للتصدير، ثم يأتي دور “الاستيفادور” وهو الذي يرتب البرتقال في الصناديق بعد أن يكون اللفّيف قد لفّ ثمرة البرتقال بورقةٍ ناعمة مطبوعٌ عليها عادة علامة “الماركة”، حيث كان لكل تاجر ماركة أو علامة تجارية أو أكثر يُعرف بها. [15]
وبعد صفّ البرتقال في الصندوق يأتي دور النجار الذي كان قد أعدّ الصندوق أصلاً من قطع الخشب ذات المقاسات المحدّدة حسب حجم حبة البرتقال التي ستوضع في كل صندوق، ومن أجل حماية الصندوق أثناء التصدير كان النجار يلفّ حول كل صندوق طوقاً من خشب خاص لين ثم يقفل الصندوق بالمسامير ويحمله عامل مختصّ” إلى السيارة أو التراكتور، أو الجمل سابقاً. [16]
“كان الجمل ينقل 40 صندوقاً، وزن الصندوق 45 كيلوغراماً والتي استبدلت لاحقاً بالتراكتورات”[17]، هذا عند نقل البرتقال من البيارات الأبعد عن المرفأ، في قرى يافا أو مدن أبعد منها حسب ما قاله أحمد عبد الرحيم، وقد كانت هذه الجِمال والتراكتورات تمرّ عبر طريقٍ خاصّة اسمها طريق فيصل وحالياً اسمها يهودا هيامين، فتحتها الأشغال العامة الإنجليزية خصّيصاً لذلك، وكانت تصل إلى الميناء.
نقلاً عن خاله علي العفيفي -الموظف في دائرة الزراعة- يخبرنا خيري أبو الجبين في مذكّراته: “وكان البرتقال يُفحص قبل تصديره من قبل دائرة الزراعة في يافا؛ إذ لم يكن يسمح بتصدير أي صندوق برتقال إلا بعد فحصه والتأكد من خلوّه من العطب أو الأمراض.[18]
ثمّ عند وصوله يُخزّن في مخازن على رصيف الميناء، ولاحقاً تُدحرج الصناديق من العنابر عن طريق السقايل إلى المراكب الشراعية “الجرومة” حيث يتلقّفها العمال، ومنها تنقل للبواخر التي كانت تقف بعيداً بسبب طبيعة ميناء يافا.
تبعاً لما سبق يمكن القول أن معظم أهالي يافا والوافدين إليها كانوا مرتبطين بالبرتقال بوسيلةٍ أو بأخرى، هذا الشيء حقيقيّ من ناحية طبيعة الأشغال -المباشرة وغير المباشرة- في يافا تحديداً، هذه الأشغال التي توفر مُتعلِّقات تصدير البرتقال، من استيراد الخشب أو صناعته محلّياً، وكذلك المطابع التي كانت تطبع أسماء الماركات على الورق الأبيض المستخدم في لفّ البرتقال، أو على أكياس الورق التي استخدمت للبيع في الأسواق المحلية، وكذلك المخازن المحاذية للميناء والتي كانت تعمر بالبرتقال أكثر ما تعمر، وما يسبق كلّ ذلك من الأشغال الزراعية للعناية بالبيارات، مثل تجارة السماد.
اقتصاد يافا ومجتمعها برؤية البرتقال
يروي تاريخ البرتقال بعضاً من التقسيمات الاجتماعية التي كانت سائدة في فترة ما، فالأعلى درجةً هم عائلات (تجّار البرتقال)، والتجار الذين كانوا يعملون من خلال المرفأ عموماً وكانت ممن تتوسد القصور. ثم تأتي العائلات التي تملك البيارات أوالمطابع أو تجار الخشب أو كل عائلة تنتج ما يتعلق بتصدير البرتقال وبيعه والتي كانت بالغالب تبيع للشركات الكبرى ورؤساء البحّارة، وكذلك أصحاب المعامل المهنية كالصائغين، وأصحاب المصالح الأخرى، لكن كان أصحاب المصالح ذات العلاقة بالبرتقال وميناء يافا ذوي “برستيج” أعلى. ثم الموظفين العاملين في هذه الشركات أو عمال الميناء والبيارات.
كان لتجار البرتقال خصيصاً -والتجار عموماً- نفوذ سياسي إضافةً إلى الاقتصادي؛ فكانت الحكومة تُرجّح المشاريع التي تساعدهم على غيرها. أثّر ذلك كثيراً على اقتصاد يافا وبنيتها، منها تحسينات الميناء والمخازن المُحاذية له بما يتلاءم مع البرتقال، وفتح الطرق ما بين البيارات والميناء، مثل طريق فيصل آنفة الذكر.
كما فُتحت بوابة جديدة في السور المحيط بالمدينة والذي كان يحوي بوابةً أخرى واحدة وخندقاً، ولاحقاً هُدم جزءٌ آخر من السور حتى أزيل كاملاً عام 1874 وبيعت حجارته لإنشاء أبنية امتدت في شارع الحلوة الذي أصبح المركز التجاري الجديد للمدينة [19]، وفي الوقت الذي تطوّرت فيه يافا اقتصادياً نتيجة ذلك، تغيّرت ملامحها.
ورغم أنّ البيارات والأحياء المحيطة كانت خطوط الدفاع الأولى ليافا إلا أنّ هدم السور لم يكن خياراً جيداً في ظلّ خطورة المشروع الصهيوني الذي كانت بوادره واضحةً آنذاك.
ومما تجدر الإشارة إليه أن أغلب تجار البرتقال كان الواحد منهم يملك إضافة إلى عمله الواسع في تجارة البرتقال مصلحة أخرى، مثلاً مطبعة لختم صناديق البرتقال وطباعة العلامات التجارية على الورق الذي يُلفّ به البرتقال، مثل زهدي أبو الجبين، كان يملك شركة طباعة تحمل اسم “مطبعة أبو الجبين وإخوانه”، وكان آخر يملك شركة لتصنيع الخشب خارج البلاد -في يوغسلافيا تحديداً- وتوريده إلى يافا [20]، مثل عائلة غاوي، وقد امتلك بعض أولئك التجار بيارات لتصريف برتقالها والعناية به بأنفسهم.
وهذا ما يعطينا صورةً عن اقتصاد يافا آنذاك، حيث أن معظم رؤوس الأموال كانت بيد أشخاص قلّة، عمّق ذلك الفجوة الاقتصادية بين أهل يافا، من الأغنياء المالكين لرؤوس الأموال، إلى الطبقة الكادحة التي تعمل لديهم، ولا بدّ من الالتفات أن عدداً كبيراً من العمال في البيارات والميناء كانوا يأتون إلى يافا من غزة وبئر السبع، وكذلك حوران ومصر والسودان[21]. ومع كثافة التصدير والطلب الخارجي للبرتقال وترجيح المصالح التجارية، لم ينل أهل يافا من برتقالها إلا قشره، بتعبيرٍ حقيقي أو مجازي.
هذه الطبقات التي نتجت بين أهل يافا جعلت المجال فسيحاً للاستغلال من الطبقات الأقوى للطبقات الأقل قوةً “قوة اجتماعية واقتصادية”، نذكر هنا ما سمّي “معارك البرتقال”[22] التي نشبت بين تجار البرتقال ومزارعيه في تشرين أول 1946 حول زيادة أسعار البرتقال، التي جاءت نتيجةً لانخفاض صادرات إسبانيا من برتقالها الذي تعرض للتلف -وهي المنافس الأول لبرتقال فلسطين- ما زاد الطلب كثيراً على البرتقال الفلسطيني.
فاضطرت وزارة التموين لشراء ستة ملايين ونصف المليون من صناديق البرتقال مرةً واحدة بسعر 16 شلناً و 9 بنسات للصندوق بعد أن كان 11 شلناً ونصف، كما تمكّن بعض وفود البرتقال الفلسطينيين في أوروبا آنذاك من بيع الصندوق الواحد بـ20 شلناً.
ما دعا مزارعي البرتقال إلى المطالبة بفرق السعر وهو 3 شلنات و 9 بنسات للصندوق، علماً أن عقود بيعهم قد تمّت للمصدّرين قبل بداية الموسم والبرتقال لم يزل زهراً على شجره، فرأى المصدّرون أنّها زيادة طبيعية في السعر جاءت لصالحهم ولا دخل للحكومة فيها، وأنهم يتحمّلون خسائر البرتقال أحياناً دون الرجوع للمطالبة بفرقها من المزارعين. وانشقّ المزارعون بين مؤيدٍ ومعارضٍ، يرى أولهم أن الزيادة من حقّه وأن قانون مجلس تصريف الحمضيات يحدّد ربح المصدّر بشلن واحد للصندوق، بينما يرى ثانيهم أنها من حق المصدّر كونه “يضمن تصريف برتقالهم وهو لم يزل زهراً ولولاه لم يزد إنتاج البرتقال و تمتدّ مساحات البيارات كما أصبحت لاحقاً بفضلهم.” [23]
البرتقال الشموطي اليوم، إلى أين؟
بعد نكبة عام 1948، انحسر الإنتاج الفلسطيني للبرتقال الشمّوطي والبرتقال عموماً في مناطق محدّدة مثل طولكرم وطوباس، وقلقيلية وسهول جنين، وأريحا وغزة. مرّ بعد ذلك بحالاتٍ من صعود الإنتاج وهبوطه بناءً على الأوضاغ السياسية، ووفرة المياه، وطلب السوق الفلسطيني، وعوامل أخرى. فمع بدايات انتفاضة الأقصى مثلاً أصبحت بيارات البرتقال الشموطي أحد أهداف الاحتلال؛ فبالإضافة إلى محاولة طمس رمزيّتها الفلسطينية، زاد على ذلك قيام الاحتلال بتجريف 40,000 دونم من البيارات في غزة وحدها بعد أن حَمَت البيارات ظهر المقاومين الفلسطينيين وأصبحت لهم حِرْزاً -حيث كثافة الشجر والمساحة الكبيرة للبيارة التي تساعد على التخفّي- فأصبح المجموع الكلي لمساحات بيارات الشموطي في غزة 650 دونماً! ما يساوي مساحة بيارة واحدة من بيارات يافا في الثلاثينيات.[24]
والمساحات القليلة المتبقية المزروعة بالشمّوطي ليست ذي فائدة، حيث تجاوز عمر أشجارها 50 عاماً في معظمها، والشجرة كلّما هرمت أصبحت قليلة الإنتاج، بالأرقام: فقط 60% منها مثمرة. والحل الوحيد شبه المستحيل هو إعادة زراعتها بأشتال جديدة، هذا ما لم يعد البيارون قادرين عليه؛ إذ لم تعد أشتال الشمّوطي متوفّرةً في الأسواق، وإن حصل ووُجدت كانت جودتها رديئة وأسعارها عالية جداً وهي آخذة في الانقراض بالمعنى الحقيقي لذلك. [25]
ولعلّ أكثر ما يأخذ بالبرتقال الشموطي بهذا الاتجاه، عدم قدرته على العيش بسبب تغير طبيعة التربة، وارتفاع الملوحة في المياه؛ فهو من أنواع البرتقال القليلة التي تحتاج لمياهٍ عذبة في الري. لهذا استُبدلت المساحات المزروعة بالشموطي والبالنسيا بأصناف اليوسفي في بعض الأحيان، بينما زُرع معظمها بالخضراوات حيث الجدوى الاقتصادية الأعلى وفترة نضوجها القصيرة.
أمّا عن بيارات جنين وطولكرم وقلقيلية التي تقع على مقربة من “الخط الأخضر”، فقام الاحتلال بتجريف آلاف الأشجار منها في إطار عملية التوسع وبناء جدار الفصل العنصري، وكثيرٌ منها استُبدلت بالخضراوات كما حصل في غزة [26]، حتى بلغت مساحات أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة المزروعة بالبرتقال اليوم 10665 دونماً و المساحة المزروعة بالشمّوطي تبلغ 1258 دونماً فقط.[27]
هذا التلاشي ونقصان المساحات يقودنا إلى محاولة الكيان الصهيوني لاحتكار إنتاج البرتقال الشموطي في فلسطين التاريخية، وسحب آخر مصادر إنتاجه في الضفة الغربية وقطاع غزة. وما زال الكيان الصهيوني للآن يستخدم العلامة التجارية “Jaffa oranges”، ويعتبر البرتقال في الأسواق الغربية، أكثر المنتوجات الزراعية تمثيلاً لجودة النتاج الزراعي الصهيوني[28]. وما يثير الاستغراب مُضيّ الحكومة الإسرائيلية قُدُماً لخصخصة ماركة البرتقال، حيث يشير ذلك إلى “التحول إلى الليبرالية الجديدة والرأسمالية، فهذه علامة تجارية “وطنية”!، كيف تباع إلى القطاع الخاص” هذا ما عبّر عنه المخرج الصهيوني إيال سيفان [29].
ومع هذا التراجع الفلسطيني لإنتاج البرتقال الشموطي وسوقه، وبالأخصّ مع حربه الرمزية وكونها جزءاً من الصراع على الأرض، يستلزم الحفاظ على آخر مساحاته المتبقية كجزءٍ من الحفاظ على التاريخ الزراعي لفلسطين.
———————
الهوامش:
[1] امتياز دياب، تقديم كتاب يافا عطر، مدينة لـ هشام شرابي.
[2] مقال: البرتقال اليافاوي: أصله وتجارته، مقال في جريدة هنا القدس، الأحد 8 آذار عام 1942.
[3] المصدر السابق.
[4] وفقاً لوصف المهندس الزراعي محمد القرنة الذي يعمل في وزارة الزراعة الفلسطينية، جرت معه المحادثة في تاريخ 17-1-2018.
[5] شرابي، هشام، يافا عطر مدينة، ص17.
[6] فيلم Jaffa – The Orange’s Clockwork، إخراج إيال سيفان عام 2009، تريلر الفيلم هنا.
[7] ماركس، بيتينا، وصابر، حسام: حين كان برتقال يافا رمزاً وطنياً، مقال منشور.
[8] موقع الجزيرة نت، تقرير بعنوان الفأس الإسرائيلية، 6-5-2013.
[9] يزبك، محمود: يافا مدينة تختصر وطناً.
[10] أبو الجبين، خيري، مذكرات خيري أبو الجبين.
[11] أنشأت حكومة الانتداب آنذاك مجلسين: الأول مجلس مراقبة الحمضيات، والثاني مجلس تصريف الحمضيات. يرأس المجلس الأول إنجليزي ويمثُل العرب فيه كأعضاء مثل سعيد بيدس، فرنسيس جلاد، عبد الرؤوف بركات، يوسف الضائع. وينوب عن العرب في مجلس تصريف الحمضيات السيدان سعيد بيدس وفرنسيس جلاد. مهمة المجلس الأول إنعاش صناعة الحمضيات وتقديم الإرشادات للمزارعين ومنحهم آلات الحراثة وإيجاد أسواق للبرتقال. ومهمة مجلس التصريف عقد صفقات البيع وتنظيم اسعار الثمار وتعيين حقوق وواجبات مصدري الحمضيات وغير ذلك من الصلاحيات.
[12] هذا بحسب شهادات أكثر من تاجر برتقال آنذاك، كلها ذكرت في “يافا عطر مدينة”.
[Jaffa Orange, Wikipedia [13
[14] شرابي، هشام، يافا عطر مدينة، شهادة ابن التاجر علي غاوي.
[15] وظيفته تصنيف البرتقال بناءً على تمييز رديئه من جيّده، وكبيره من صغيره
[16] مزج من : شرابي، هشام، يافا عطر مدينة. وأبو الجبين، خيري، مذكرات خيري أبو الجبين
[17] شرابي، هشام، يافا عطر مدينة: شهادة أحمد محمد عبد الرحيم.
[18] أبو الجبين، خيري، مذكراته، من شهادة خيري أبو الجبين نقلاً عن خاله علي العفيفي الذي كان موظفاً في دائرة الزراعة.
[19] يزبك، محمود، يافا مدينة تختصر وطناً.
[20] شرابي، هشام، يافا عطر مدينة، مجموعة شهادات
[21] الحسيني، سعيد، مذكرات سعيد إبراهيم الحسيني، ويزبك، محمود، يافا مدينة تختصر وطناً: حتى كانت لأولئك المهاجرين مساكن خاصة بهم كانت في الغالب قريبة من الميناء أو من البيارات.
[22] النشاشيبي، ناصر الدين، يافا للأبد
[23] جريدة فلسطين بتاريخ 8 تشرين أول 1946- ص3، وعددها بتاريخ 9 تشرين أول- ص2، أرشيف جامعة بيرزيت
[24] الدحدوح، مصطفى، البرتقال الشموطي والبالنسيا مهدد بالانقراض في قطاع غزة، الحياة الجديدة
[25] المصدر السابق.
[26] الشاعر، مازن، تقرير: زراعة الحمضيات في فلسطين ومشاكلها، دنيا الوطن
[27] ملف مرفق أرسله أستاذ عودة صبارنة مدير البستنة في وزارة الزراعة الفلسطينية، هذه الإحصائية لعامي 2015 و 2016
[28] البرتقال اليافاوي قبل النكبة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية
[29] مقال حين كان برتقال يافا رمزاً وطنياً، Made for Minds.