باختصار، لم تكن السكّة لا عثمانيةً ولا فلسطينيةً بقدر ما كانت سكّةً استعماريّةً أوروبيّةً في فلسطين العثمانيّة، كما لم تكن بين مدينتين فلسطينيّتين بقدر ما كانت بين ميناء يافا والقدس، مدينة الحجيج الأوروبيّ وموطئ القدم الاستعماريّ في بلادنا.
*الصورة الرئيسية: مقطع سكّة الحديد لدى مروره في أراضي قرية دير الشيخ المهجرة
توطئة
في العشرين من شهر أيلول الماضي، افتتح الصهاينة المرحلةَ الأولى من خطّ القطار السريع ما بين القدس ومستعمرة تل أبيب، معتبرين هذا المشروع لحظةً تاريخيةً مجيدةً في تاريخ “إسرائيل”، عنوانُها الربط ما بين مستوطنة تل أبيب، عاصمة الكيان الاقتصادية (الدنيوية)، و”أورشليم”، عاصمته التاريخية الدينية، والذي سَيُيسِّر وصولَ آلافٍ مؤلفةٍ من الصهاينة إلى مدينة الآباءِ والأجدادِ والاتصال بجذور الوجود اليهوديّ.
كلّ ذلك في السّياق التّاريخيّ ضمن ما يُسمّى “النضال الصّهيوني” في فتح الطّريق إلى القدس باستحضار معارك باب الواد وفكّ “الحصار عن القدس” خلال حرب النكبة 1948، ومُحتَـفين بالمقدرة التّقنيّة الصّهيونيّة في قهر الجغرافيا الجبليّة التّي تقف سدّاً أمام كلّ مشروع مواصلات إلى قلب المدينة المقدّسة.
اقرأ/ي المزيد: “باب الواد“
في المقابل، ومنذ بداية مشروع القطار هذا، تكاثرتْ الكتاباتُ الفلسطينيةُ ذات المنحى الدفاعيّ، والتّي استفزّها الاحتفاءُ الصّهيونيّ، فراحتْ تُذَكِّرُ بأنّ مشروع السكّة ما بين يافا والقدس منجزٌ سابقٌ على وجود “إسرئيل” ذاتها، ويعود إلى العهد العثمانيّ، حين مُدَّتْ السكّةُ الحديديَةُ ما بين يافا – القدس في العام 1892، وبعضها قال إنّ السكّة أنجزتها الأيادي الفلسطينيّة. وبهذا، حسب منطق تلك الكتابات، تسطو “إسرائيل” مرةً أخرى على التّاريخ الفلسطيني وتنسبُ لذاتها ما أَنجزه غيرها.
ولعلّ هذا الادعاء مردّه الخلط ما بين سكّة يافا – القدس، فرنسيّة التّمويل والتّشييد، والخطّ الحديديّ الحجازيّ في المِخيال الفلسطيني. سبقت سكّةُ يافا – القدس الخطَّ الحديديَّ الحجازيَّ بحوالي عشرين عاماً، والذي بدأ العمل به في دمشق في الأول من أيلول 1900، في ذكرى ميلاد السلطان عبد الحميد الثاني، بتمويلٍ من الحكومة العثمانيّة وتبرعاتٍ شعبيةٍ، وافتُتح في الأول من أيلول 1908 في المدينة المنورة. بقيت سكّة يافا – القدس غير متصلةٍ بالخطّ في معظم تاريخها، لا بلّ إنّ الفرنسيس عطّلوا وصل محطّة العفولة على الخطّ الحجازي مع القدس حيث اعتبروا هذا الوصل خطراً على امتيازهم لخطّ القدس يافا.
لسنا بحاجةٍ للتأكيد على ما هو معروف من أنّ “إسرائيل” حوّلت تزوير التاريخ إلى علمٍ وفنٍّ، ولكن في المقابل، فإنّ فضح التزوير من خلال ادّعاءاتٍ لا تصمد أمام الفحص التّاريخيّ، أو لنقُل مجزوءةً وغير متمكنةٍ من الحقائق، فضلاً عن نزعها عن سياقها التاريخيّ، يساهمُ في تمتين الرواية الصهيونيّة في الوقت الذي يُسعى فيه إلى نقضها.
كالعادة، نحن مغرمون بالقول إنّنا كان لدينا كلّ شيء قبل النكبة، وكانت لنا حداثتنا التي جاء الاستعمار وعطّلها، ولكن يحكي لنا تاريخ سكّة يافا – القدس قصةً مغايرةً وأكثر تركيباً، يتداخل فيها الاستعمار والتحديث والتوسّع الرأسماليّ الغربيّ في رزمةٍ واحدةٍ. باختصار، لم تكن السكّة لا عثمانيةً ولا فلسطينيةً بقدر ما كانت سكّةً استعماريّةً أوروبيّةً في فلسطين العثمانيّة، كما لم تكن بين مدينتين فلسطينيّتين بقدر ما كانت بين ميناء يافا والقدس، مدينة الحجيج الأوروبيّ وموطئ القدم الاستعماريّ في بلادنا.
ومن هذا التّوتر والشّعور بالورطة، انطلقتُ في رحلتي في تاريخ وجغرافيا السكّة، رحلةٌ امتدّت عبر حوالي 190 عاماً من العام 1830 وحتى العام 2018، وعبر 47 كم قطعتُها مشياً على الأقدام على السكّة من محطّة سَجد إلى محطّة البقعة. ومع كلّ صفحةٍ من صفحات التاريخ، ومع كلّ خطوةٍ أخطوها على السكّة، كنت أكتشفُ في هذه الرحلة بأنّ قصّة سكّة حديد يافا – القدس تُكَثِّفُ قِصَةَ الاستعمار الأوروبيّ لفلسطين عبر ثلاثة أزمنة: العثمانيّة والإنجليزيّة والصهيونيّة.
أضاءت لي هذه الرحلةُ على فهمٍ أكثر شمولاً وتركيباً لما نُسمّيه استعماراً، وهي وإنْ كانت متخمةً بالمعرفة التاريخيّة، فهي في الوقت ذاته تسعى لتفكيك الرّاهن الاستعماريّ الصهيونيّ، بعيداً عن الاتجاه المتنامي في التاريخ الاجتماعيّ للفترة العثمانيّة، والذي يشدّد على الحداثة العثمانيّة السابقة على الحداثة الاستعماريّة البريطانيّة ومِن ثمّ الصهيونيّة، والتي لا أرى بينهما انقطاعاً بلّ اتصالاََ؛ فلم تكن الأولى مشروعاً تحديثيّاً مُستقِلاً، بقدر ما كانت في حقيقتها اختراقاً رأسمالياً أجنبيّاً لفلسطين العثمانية. وبعيداً أيضاً عن ثنائية “مُدن البحر والجبل” الاختزاليّة ذات الجوهر الثقافوي، فالفارق بين الساحل والجبل، كما هو “ثقافي”، هو كذلك فارقٌ في الطبوغرافيا العسكريّة بين ما يسهلُّ اختراقه واحتلاله، وما يُتحصن فيه.
المحطّة الأولى: الحملة الصّليبيّة السلميّة “وفلّاحون محتالون”
لا تزال سكّة يافا – القدس مهملةً بحثياً، وعادةً ما يتطرق لها عند الحديث عن السكّة الحجازية ، ولعلّ الدراسة العربيّة الوحيدة حولها هي الفصل القصير في كتاب جوني منصور “الخطّ الحديدي الحجازي”، ولكنّه فصلٌ لا يشفي الغليل، ولا يعطي السياق الاستعماري المركّب للسكّة حقّه في التأريخ.
منذ عام 1830، تبدو مسافة الـ 60 كم التي تفصل ميناء يافا عن باب يافا (باب الخليل) وكأنّها الشغل الشاغل للدول الأوروبيّة الاستعماريّة، جيشٌ من القناصل والرحّالة والجواسيس ورجال الدّين المسيحيّين وزعماء العمل الخيريّ اليهود انهمكوا في دراستها والتّخطيط لها والضغط على الباب العالي لمدّ سكّة حديدٍ ما بين يافا والقدس، وبتعبيرٍ أدقّ ما بين ميناء يافا وباب يافا (باب الخليل)، الباب الوحيد الذي كان يُسمح بدخول البضائع والحقائب عبره إلى البلدة القديمة، حيث تواجد مكتبٌ للجمارك العثمانيّة عند الباب.
ومنذ منتصف القرن التّاسع عشر، كان التغلغل الاستعماريّ الأوروبيّ في بلادنا فلسطين يتقدّم ويستفحل شيئاً فشيئاً تحت ما تعارفت عليه البعثاتُ الأجنبيةُ بـ”الحملة الصليبيّة السلميّة” لاسترداد الأرض المقدّسة، مستفيدةً من “نظام الامتيازات” العثمانيّ، والذي مُنحت بموجبه شخصياتٌ وشركاتٌ أجنبيةٌ عقوداً لبناء وتشييد المشاريع “التحديثيّة” في فلسطين، مُضَافةً إليها مؤسسات العمل الخيريّ والثقافيّ وبناء المؤسسات الكنسيّة ونُزُل الحجيج، وحركة السياحة المقدّسة، إضافةً إلى تشجيع وتمكين الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وهنا، يمكننا القول إنّ الحركة الصهيونيّة ليست إلّا شكلاً وتطوّراً للحملة الأوروبية على فلسطين واستعمارها. وفي هذا السّياق، يصبح من المربك التفريق ما بين الوجود اليهوديّ في فلسطين، والذي تضخّم في هذه الدفيئة الاستعماريّة، وما بين الحركة الصهيونيّة التي عادةً ما تُصوّر بأنّها حركةٌ دخيلةٌ على الوجود اليهوديّ في فلسطين، ولكنّ الحقيقة التاريخيّة تجعل من الصعب وضع خطٍّ فاصلٍ حادٍّ ما بين يهودي ما قبل الصهيونية وما بعدها.
في حُمَّى التكالب الاستعماريّ الأوروبيّ على القدس، كان المستعمرون الأوروبيون مهووسين بفكرة ربط ميناء يافا بالقدس عبر سكّةٍ حديديةٍ تُسَهِّل وصولَ جيوش الحجّاج والمستكشفين وعلماء الآثار والمبشّرين والجواسيس إلى قلب فلسطين المنيع. فقام المستعمر الهيكليّ وعالم الآثار والمعماريّ الألمانيّ “كونراد شيك” (Conrad Schick) بمسح وإعداد خرائط منذ عام 1850 لمشروع السكّة الحديدية ما بين القدس ويافا يمرّ جنوبي رام الله عبر بيت عور، إلّا أنّه فشل في توفير التمويل اللازم للمشروع. واقترح الكاتب الأمريكيّ ذائع الصيت “جيمس باركلي” (James Barcly)، والذي اختصّ في الكتابة حول القدس، شقّ سكّةٍ حديديّةٍ من غزة أو عسقلان إلى القدس؛ وذلك كون ميناء يافا غير مناسب ملاحياً لرسو السفن الكبيرة.
حتى عام 1860، كانت الجِمال والبغال والحمير وسيلة النقل الوحيدة ما بين يافا والقدس، والتي كانت تسلك الطرق التالية: طريق باب الواد (قالونيا – قرية العنب – واد علي – القباب – الرملة ومنها إلى يافا) طريق بيت عور: (اللد – جمزو – بيت عور – الجيب – بيت حنينا)، طريق وادي سليمان جنوبي طريق بيت عور: (بيت حنينا – الجيب – وادي أبو زعرور – بدّو – الطيرة – بيت لقيا)، ويلتقي بطريق بيت عور عند جمزو. كانت الطريق تستغرق يوماً كاملاً وتعدّ مُكلفةً بالنسبة للحجيج والسياح الأجانب، تتراوح ما بين 10 – 15 دولاراً للفرد، بما يشمل النقل والحماية من “قطّاع الطرق” و المبيت ليلاً في الطريق.
وكان الأجانب دائمي الشكوى من الفلّاحين العرب ذوي “الشخصيّات المحتالة والتي لا تعرف قيمة الزمن، ودائمة الابتزاز بطلب المزيد من البقشيش”. ويمكننا القول هنا إنّ تاريخ التحسينات على طريق باب الواد تحديداً ارتبط أساساً بزيارة الشخصيّات الأجنبيّة الهامّة إلى المدينة المقدّسة، فقد رُصفت الطريق بالمقادم تحضيراً لزيارة أمير ويلز في عام 1864، وبعدها في عام 1869، تمهيداً لزيارة الإمبراطور النمساوي “فرانز جوزيف” إلى القدس، وصارت ملائمةً لسير العربات المجرورة بالأحصنة “الديلجانس”.
استفادت حركة الحجيج والسياحة المسيحية من هذه التحسينات بالتوازي مع ازدياد الحركة السياحيّة إلى الأرض المقدّسة بعد عام 1860، متأثرةً بالطفرة الاقتصاديّة في أوروبا، وبعدما صارتْ مكاتبُ السياحة تُلحِقُ القدسَ بالبرامج السياحيّة الأوروبيّة والأمريكيّة نحو مصر أساساً. تغذّت هذه الحركة السياحيّة بالمخيال المسيحيّ الرومانسيّ حول “أرض الكتاب المقدّس” والقيام بمغامرةٍ روحيّةٍ للتعرف على جغرافيا الكتاب المقدّس، كما شاع تسجيل يوميات هذه المغامرة في أدب الرحلات إلى الأرض المقدّسة الذي كان يُتلى في الكنائس الأوروبيّة والأمريكيّة.
جاء المخطط الأكثر جديةً، حينها، للسكّة من “تشارلز زيمبل” (Charles Zimpel)، مهندس سكك الحديد الإنجليزيّ وصاحب العلاقة الوطيدة مع البارون اليهوديّ الصّهيونيّ روتشيلد. أجرى زيمبل دراساتٍ لاهوتيّةً في فلسطين خلال عام 1860، وأنجَزَ مسوحاتٍ ميدانيةً ورَسَمَ خرائط لجبال القدس من أجل تحديد مسار سكّة يافا – القدس، والتي خَُطط كذلك أن تصل مدينتي الخليل وبيت لحم بالقدس لأهميتهما الدينيّة اليهودية والمسيحية.
وفي عام 1864، عرض “زيمبل” مشروع السكّة على الباب العالي مُدعّماً بالخرائط والمسوحات، كما أُعطي امتيازَ شقّها بشرط أن يوفّر ميزانيةً للمشروع خلال 6 أشهرٍ، ولكنّه فشل في المهمة.
ومن الواضح أنّ الباب العالي كان يتحسّس من مشروع السكّة بصفتها سكّةً للنفوذ الأجنبي الاستعماري، ولهذا كان يضع شروطاً تعجيزيةً في البداية لإفشال المشروع. ما يهمنا في مشروع زيمبل هو تحديده لمسار السكّة عبر وادي الصرار بصفته المسار الأقل صعوداً إلى المدينة، والذي سوف يتمّ شقّ السكّة فيه في قادم الأيّام.
مونتيفيري: مع السكّة وضدها
في عام 1830، وخلال بحثه عن مسالك تربط بريطانيا بالهند، اقترح الجنرال والمستكشف البريطاني “فرانسيس تشينسي” خطّاً لسكّة حديدٍ تربط شرق المتوسط بالهند عبر وادي الفرات، وطوّر رؤيته في عام 1850 لتشمل الربط بشارعٍ إلى دمشق وخطّ سكّة حديدٍ يصل بين يافا والقدس؛ سكّةٌ للاختراق الإمبريالي البريطاني لآسيا وطريقٌ للثورة الصناعية في الشرق تنقله من عهد الإقطاع إلى العهد الصناعيّ، والذي سيوفر بيئةً حاضنةً وميسّرةً للاستيطان الصهيونيّ في فلسطين.
التقط “المحسنُ” اليهودي “موشيه موننتيفيوري“، والذي نشط في تقوية وتمكين المجتمعات اليهودية في بلادنا، مخطط “تشينسي” وحاول جاهداً توفير ميزانيةٍ للمشروع، معتبراً أنّه يخدم جهوده في تقوية الوجود اليهودي في بلادنا، هذا الوجود الاستيطاني الذي سيستفيد من التوسّع الرأسمالي الأوروبيّ في فلسطين.
التقت غاية “تشينسي” الإمبريالية مع غاية “مونتيفيوري” الاستيطانية وقرّرا العمل معاً في سبيل إخراج مشروع السكّة إلى حيّز التنفيذ، ولاقى المشروع دعماً من أوساطٍ مسيحيّةٍ معنيّةٍ بالاختراق التبشيريّ لبلادنا ومضاعفة أعداد الحجيج المسيحيّين والاستيطان المسيحي في القدس، مما أدى إلى أن يُبدي “مونتيفيوري” تخوّفاً على الجالية اليهودية في القدس من الخطط المسيحية لشقّ القطار لكونها ستحمل معها المبشّرين المسيحيّين مع انتشار جمعيات نشر المسيحيّة بين اليهود.
وفي هذا الإطار، يمكننا الإشارة إلى “هنري دونان”، مؤسّسُ الصليب الأحمر، ونشاطه في جمعية استعمار فلسطين لإغاثة يهود أوروبا من خلال استيطانهم في فلسطين، حيث رأى في مخطّط شقّ سكّة يافا القدس، بالإضافة إلى تحديث التقنيات الزراعيّة، سبيلاً لتقوية هذا الاستيطان.
كانت الدولة العثمانية معنيّةً بتحديث المواصلات لأسبابٍ اقتصاديةٍ ولفرض سلطتها في أقاليم الدولة البعيدة وقمع الثورات والتمردات الداخلية. ولكن، لم يكن ما تريده الدولة العثمانية من السكّة ليتحقق بالنظر إلى ضعفها وحجم الهجوم الغربي الاستعماري الرأسمالي الذي شكّل الحاضنة للمشروع الصهيوني الذي حملته الآلة البخارية بحراً وبرّاً إلى بلادنا فلسطين. لم ينجح “تشينسي” و”منتيفيوري” في مسعاهما، إلا أنّ جهودهما أسّست لنجاح اليهودي “يوسف نافون” في تحصيل امتياز خطّ القطار يافا-القدس من الدولة العثمانية في عام 1888.
المحطّة الثانية:
شركة القطار العثمانية من يافا إلى القدس وفروعها
(Société du Chemin de Fer Ottoman de Jaffa à Jérusalem et Prolongement)
تمتّع اليهودي المقدسي “يوسف نافون” بعلاقاتٍ ماليةٍ دبلوماسيةٍ متشعبةٍ من خلال قريبه وشريكه اليهودي “يوسف أمزلاك“، المساعد الأول للقنصل البريطاني في يافا. كان نافون هذا على قناعةٍ بأنّ السكّة مشروعٌ اقتصاديٌ ناجحٌ ومفيدٌ في الوقت ذاته في تعزيز الوجود اليهودي في القدس، كما ولعب دوراً أساسياً في إنشاء مستوطنتي “بيتيح تيكفا” و”ريشون لتسيون” في عام 1878. وضمن هذه الرؤية الاستيطانية وهذا النفس الرأسمالي، حصل نافون على امتياز السكّة من الدولة العثمانية، بعد أن قام بدراسة جدوى للمشروع بتنفيذ إحصائياتٍ لعدد المسافرين بين يافا والقدس عقب حصوله على دعم القناصل الأجانب للمشروع، مستفيداً من خرائط “صندوق استكشاف فلسطين” الاستعماري التي رسمها الضابط البريطاني “كتشنير” (Kitchener) في عام 1881.
حمل نافون معه هذه الرزمة المكوّنة من الخرائط والإحصائيات وكتب القناصل مسافراً بها إلى الباب العالي في اسطنبول. وفي 28 تشرين الأول 1888، تحصل على فرمان الامتياز لمدة 71 عاماً لبناء وتشغيل السكّةـ ووقع اتفاقية السكّة مع وزير المالية العثماني في اليوم التالي.
وبعد تعثّره في الحصول على تمويلٍ يهوديٍّ، تلقّف الفرنسيس المشروع وأبدوا استعداداً لتمويله بشرط استملاكه، وهكذا وُلدت شركة القطار العثمانية من يافا إلى القدس وفروعها، بإدارة الفرنسي “بيرنارد كولاه” (Bernard Collas)، وشمل الامتياز توسيع السكّة مستقبلاً من يافا إلى غزة وصولاً إلى بورسعيد، وإلى نابلس نحو دمشق من القدس. مُدِّدَ الامتياز لمدّة 100 عام برأسمال مليون فرنك فرنسي، ومُنح نافون وسام الشرف الفرنسي على دوره في زيادة النفوذ الفرنسي في المنطقة من خلال مشروع القطار.
أثارت سيطرة الفرنسيس الكاثوليك على المشروع الذي حلمت به جميع القوى الاستعمارية حفيظة هذه القوى، نظراً إلى تبعاته السياسيّة والدينيّة على مدينة القدس المتصارع عليها بانتظار إعلان وفاة الرجل المريض؛ الدولة العثمانية. ومع ذلك، بدأ المشروع على الأرض بعد أن وقّعت الشركة الفرنسية عقداً لتنفيذ المشروع خلال خمس سنوات تنتهي في الأول من نيسان 1893.
حفّز البدء بتنفيذ السكّة التنافس الشديد ما بين القوى العظمى في شراء الأراضي وبناء المؤسسات والكنائس ونزل الحجيج المسيحيّين في القدس، وكانت “الكولنيالية الألمانية” أكثر المستفيدين، حيث شيّدت مستوطنتها في البقعة بالقرب من محطّة القطار. وصاحب بدء العمل في السكّة ارتفاعٌ فلكيٌّ في أسعار الأراضي المحاذية للسكّة والمحطّات، فقد بيعت قطعةُ أرضٍ قرب محطّة يافا بـ 20 ألف دولارٍ بعدما اشتُريت بمبلغ 1300 دولارٍ قبل البدء بالسكّة.
وفي 31 آذار 1890، بدأ العمل في شقّ السكّة بالقرب من يازور، باحتفالٍ مهيبٍ، تحت إشراف مجموعةٍ من المهندسين الفرنسيس، والذين كانوا أعضاءً دائمين في المحفل الماسونيّ المؤسّس الثاني في فلسطين في يافا في عام 1870. اعتُمدت المواصفات الفرنسية للسكك الحديديّة الصغيرة في المشروع، وكان اختيار المقاس الصغير بعرض 100 سم لخفض تكاليف الإنشاء، ووَرَّدَتْ الشركات الفرنسيّة والبلجيكيّة القضبان والملاقط الحديديّة، كما حُفر على قضبان السكّة (J.J 91)؛ أيّ يافا – القدس، ورقمٌ يعود للسنة التي صُنعت فيها القضبان في عام 1891، وهذا ما ينفي ما هو متداولٌ في بعض الأدبيّات بأنّ قضبان السكّة اشتُرت مستعملةً بعد فشل مشروع سكّة قناة “بنما”، والتي توقفت في عام 1888.
كانت القاطرات البخاريّة من صناعةٍ أمريكيّةٍ، وحملت أسماءً حسب التقليد الأوروبيّ في تسمية القاطرات، فسُمّيت القاطرة الأولى يافا، والثانية القدس، والثالثة اللّد، والرابعة سَجد … وحَملت القاطرة يافا العلميْن الفرنسي والأمريكي في التشغيل التجريبيّ في تشرين الأول 1890. وشُيّد 76 جسراً منها 7 جسورٍ حديديّةٍ من صناعة شركة “إيڤيل” (Eiffel) الفرنسيّة، والتي شيّدت برج “إيڤيل” الباريسيّ. كان الفحم الحجريّ المستورد من بريطانيا الوقود الأساسيّ لتشغيل القاطرات، ولكن ستُحرق أشجار بلادنا وقوداً للقطار لاحقاً، بدل الفحم الحجريّ البريطانيّ، بعد اشتعال الحرب العالميّة الأولى وفرض الحصار البريطانيّ على الدولة العثمانية.
كانت هناك ثماني محطّات، وهي يافا، اللّد، الرملة، سَجد، دير آبان، بتّير، الولجة والقدس، إلّا أنّه لم يتمّ الانتهاء من تشيّيد محطّة الولجة. تقدّم العمل بسرعةٍ في القسم الساحليّ من السكّة، ما بين محطّتي يافا ودير آبان، وتمثّل العائق الأساسي في انتشار أمراض الكوليرا والطاعون في مناطق السبخات، بينما كان العمل بطيئاً وشاقّاً في القسم الجبلي، ما بعد محطّة دير آبان وصولاً إلى محطّة القدس في البقعة، وذلك نظراً للطبيعة الجبليّة، فاستُخدمت المتفجّرات لشقّ مسار السكّة في جبال وادي الصرار ووادي السكّة.
احتجاجاتٌ فلّاحيّة
صاحب شقَّ السكّةِ احتجاجاتٌ فلاحيّةٌ بسبب عدم دفع تعويضاتٍ مناسبةٍ للفلّاحين الذين صُودرت أراضيهم وخُرِّبَتْ كرومهم، وبسبب تدني الأجور، فضلاً عن الرغبة بالثأر من السكّة التي أودت عملياتُ تفجير الصخور لشقّها بحياة العديد من الفلّاحين، إضافةً إلى حنق الجمّالة الذين حرمتهم السكّةُ من مصدر رزقهم الوحيد في نقل البضائع والمسافرين بين يافا والقدس. وصلت هذه الاحتجاجاتُ ذروتها بتخريب خطّ الحديد وإخراج القطار عن سكّته في المقطع الواقع بين دير الشيخ وبتّير في المرحلة التجريبيّة، ويجافي غضب الفلاحين هذا الصورةَ الورديةَ للسكّة التي ترسمها الأدبيّات الفلسطينيّة.
تكوّنت القوةُ العاملةُ في شقّ السكّة من العُمّال الفلسطينيّين والمصريّين والسودانيّين والجزائريّين، وسبّب تفاوت الأجور ما بين العُمّال الفلسطينيّين والعرب توتّراً مع الشركة الفرنسيّة، إذ حصل العُمّالُ من خارج فلسطين على أجورٍ أعلى من العُمّال المحلّيين، إضافةً إلى أنّ تغيّب العُمّال الفلسطينيّين عن العمل في موسم الحصاد والقطاف دعا الشركة الفرنسية إلى تفضيل العُمّال المصريّين والجزائريّين، لا سيّما أنّهم اكتسبوا خبرةً سابقةً أثناء عملهم في شقّ قناة السويس. ولكن عندما وصلت السكّة إلى المنطقة الصخريّة الجبليّة ما بعد محطّة دير آبان، بدأ الصراعُ الحقيقيُّ مع الأرض مقارنةً بأرض الساحل، وهنا لم تكن للسكّة أن تُشق دون خبرة وعمل مُعلِّمِي وعُمّال المحاجر الفلسطينيّين، خاصةً من بيت لحم وبيت جالا، وكانت أجرة الواحد منهم تصل إلى حوالي دولارٍ أمريكيٍّ واحدٍ في اليوم.
وفي الرابع من كانون الأول 1891، وصل القطار التجريبيّ الأوّل إلى دير آبان وعلى متنِهِ القنصل الفرنسي في القدس، قاطعاً مسافة 51 كم من أصل 86 كم ونصف، وهي ضعف المسافةِ الهوائيّةِ بين القدس ويافا.
أصرّت الحكومةُ العثمانيةُ أن تكون محطّة القطار في القدس أبعد ما يمكن عن البلدة القديمة لاعتباراتٍ سياسيّةٍ لإبعاد الأجانب قدر الإمكان عن البلدة القديمة؛ فبُنيت محطّة القدس في البقعة، وذلك بالرغم من الجهود الحثيثة لمصمّمي المشروع الفرنسيس الذين أرادوا محطّة القدس عند أقرب نقطةٍ من باب يافا (باب الخليل).
وفي يوم الإثنين الموافق 26 أيلول 1892، افتُتِح خطّ يافا – القدس في احتفالٍ مهيبٍ حَضِرهُ القناصل الأجانب والمسؤولون العثمانيون وعُليِّة القوم، ذُبحت الخراف ولُطِّخت السكّة بدمائها ورُفعت الرّايةُ العثمانيّةُ على القطار الفرنسيّ الأمريكيّ، وكأنّ السيادة تتحقق برفع رايةٍ! وبدأت القطاراتُ تنطلق في رحلةٍ يوميّةٍ واحدةٍ في كلّ اتجاه؛ من يافا الساعة الثانية والثلث تصلُ القدس السادسة مساءً، ومن القدس الساعة السابعة والربع صباحاً تصلُ يافا الساعة الحادية عشر تقريباً. وبيعت تذاكرُ الدرجة الأولى بـ 4 دولاراتٍ والثانية بـ 33 سنت، ومن الواضح أنّ هذه الأسعار كانت أسعاراً سياحيّة ولعليّة القوم. وفي يوم الأحد، كانت تُسيّر رحلةٌ ترفيهيّةٌ للنخبة المقدسيّة والخواجات، ما بين القدس وبتّير “للتمتّع بالمشهد الريفيّ”.
حاول سائقو الجِمال والخيول منافسة القطار، بلا جدوى تُذكر، من خلال التسويق لخدماتهم في النقل السياحيّ بالقول إنّ الوصول إلى القدس على ظهر الجِمال والخيول في العربات المجرورة بقوة الحيوان تحافظ على الروحيّة الأصليّة التقليديّة للحجّ إلى المدينة المقدّسة، في مقابل القطار الحديث الذي ينزعُ من الحجّ روحيّته. ووجد هذا الهرج بعض الآذان الصاغية، كما تلاقى مع ما كتبه بعض الرّحالة الأوروبيين حول إفساد الحداثة البخاريّة للقطار أصالة التجربة الروحيّة في الحجّ، وأنّ هذه الحداثة تنافي المشهد الريفيّ الرعويّ للأرض المقدسة الذي احتضن قصص الكتاب المقدس. فقد كانت الرحلة ما بين يافا والقدس عندهم رجوعاً في الزمن من الحداثة إلى زمن الكتاب المقدس، وستتحول هذه المفارقة ما بين حداثة المحرّك البخاريّ والمدينة المقدسة التي “تجمّد فيها الزمن” إلى ثيمةٍ متكرّرةٍ في كتابات الرّحّالة والحجيج وبعض المستوطنين اليهود الذين رأوا في وصول القطار إلى القدس علامةً على اقتراب وصول “المشيح” في آخر الزمان.
حصل نافون على لقب “بيك” الذي خلعه عليه السلطان عبد الحميد، وحصل على امتيازاتٍ جديدةٍ لتوليد الكهرباء في القدس وتحويل مياه نهر العوجا. إلا أنّه وفي عام 1894، هزّت صعوباتٌ ماليةٌ قطار يافا بسبب انتشار وباء الكوليرا، فضلاً عن القيود التي فُرضت على الهجرة اليهوديّة. ولعلّ الظاهرة الأهم التي يجب الانتباه إليها في قضية التعثّر الماليّ للقطار في بداية تشغيله تتمثّل في أنّ 90 % من حركة المسافرين كانت باتجاهٍ واحدٍ من يافا إلى القدس ممّا اضطرَّ القطار أن يعود شبه فارغٍ من المسافرين في رحلته إلى يافا.
وفي عام 1896، راقت عائداتُ المشروع بعد تحسيناتٍ على السكّة وإنشاء درجةٍ ثالثةٍ لاجتذاب السكّان المحلّيين، والذين كانوا في كثيرٍ من الأحيان يركبون العربات المخصّصة للبضائع والمواشي. وفي عام 1896 وقّعت شركةُ (Thomas Cock and Son) السياحيّة الإنجليزية اتفاقيةً لتسويق تذاكر الدرجة الأولى، ولعبت هذه الشركة دوراً محوريّاً في تعزيز النفوذ الأجنبيّ الاستعماريّ في القدس من خلال السياحة الدينيّة الاستعماريّة، وهي ذات الشركة التي ستعلن بعد 122 عاماً عن برامجٍ سياحيّةٍ إلى القدس بعد افتتاح خطّ القطار السريع ما بين مستعمرة تل أبيب والقدس قبل شهرٍ تقريباً.
في عام 1897، أصبحت شركةُ القطار أكبرَ دافعٍ للضرائب في فلسطين العثمانيّة، وفي عام 1898 وصف هرتزل قطارَ يافا – القدس بعد أن ركِبَهُ في زيارته الاستطلاعية لفلسطين بـ “السكّة الصغيرة البائسة”، تزامناً مع زيارة القيصر الألماني “ويلهلم الثاني” برفقة الإمبراطورة “أوغستا فكتوريا”، هذه الزيارة التي هدمت الدولة العثمانية لأجلها سور القدس عند باب الخليل (ولا زالت هذه الثغرة إلى يومنا هذا) لكي يتمكن من دخول المدينة راكباً ولا يضطرّ للنزول.
ستبقى هذه الحادثة عالقةً في ذهن الجنرال “اللنبي” عندما احتلّ القدس؛ فنزل عن حصانه ودخل القدس ماشياً كحاجٍ لا راكباً كمحتل. وعلى الرّغم من وصف هرتزل لقطار يافا القدس بالبائس وعدم ملاءمته احتياجات الاستيطان الصهيوني، حسب رؤيته المستقبليّة الصناعيّة لفلسطين المُستعمَرة، إلا أنّه كان لمرافقيه الصهاينة رأيٌ آخر، فأقنعوه بضرورة استيلاء الحركة الصهيونية على أسهم شركة القطار، إلا أنّ عملية الاستحواذ لم تتمّ لخلافاتٍ داخل الحركة الصهيونية حول ترتيب الأولويات الماليّة.
أدارت عائلة “تشيولنسي” اليهوديّة العائدات الماليّة للقطار لصالح الشركة الفرنسيّة، وجنت العائلةُ أرباحاً طائلةً من كومسيون تحويل العملات لعائدات القطار. ومع زيادةِ ربحيّةِ القطار، رافقت تحسيناتُ السكّة زيادةً في عدد القاطرات من النوعيّة الأحدث، فضلاً عن تزويد المحطّات المسؤولة عن تزويد القطار بالمياه بأجهزة إزالة عسر الماء، وزيادة عدد مقطورات البضائع، والتي كانت تسيرُ باتجاهٍ واحدٍ من ميناء يافا إلى القدس، حاملةً موادّ ومستلزمات البناء للمؤسّسات والبِعثات الأجنبيّة في القدس.
ساهم القطار، أيضاً، في حلّ مشكلة شحّ المياه في مدينة القدس التي تعتمد أساساً على الآبار وخزّانات المياه، والتي كانت تنضبُ في نهاية الصيف، بالإضافة إلى تدني مستواها الصحي، فصار القطار ينقل مياه الشرب العذبة من نبع الحَنيّة، أو (Philip’s Fountain) حسب التسميّة الاستعماريّة، في قرية الولجة، ليباع للطبقة الميسورة من الأجانب وعُليِّة القوم في محطّة البقعة.
وفي سبيل حماية مشروع خطّ يافا القدس الرّبحيّ والاستراتيجيّ، عطّلت فرنسا مشروع سكّة نابلس القدس من خلال شروط القروض الممنوحة للدولة العثمانيّة. وفي عام 1913، وصلت مباحثاتٌ متقدّمةٌ لمدّ سكّة الحديد، من يافا عبر يازور، إلى المستوطنات الصهيونيّة “ريشون لتسيون” و”بيتح تكفا”.
المحطّة الثالثة: إنّها الحرب
اشتعلت الحربُ العالميّةُ الأولى ودخلتها الدولةُ العثمانيّةُ إلى جانب ألمانيا، فصادرت الأولى شركة قطارات يافا القدس بصفتها أملاكاً للعدوّ (فرنسا) واعتقلت مديرها. كما ألحقتها بخطّ حيفا درعا تحت إدارة المهندس الألماني (Meissner)، ووسّعت مقاس السكّة إلى 105 سم، ليتمّ دمجها في شبكة قطارات الخطّ الحجازيّ في عام 1915. وضمن هذه التعديلات التي هدفت لملاءمة وظيفة السكّة العسكريّة، أنشأ العثمانيون والألمان محطّة قطارات وادي الصرار لتتحوّل إلى محطّة تحويلاتٍ مركزيّةٍ للقطارات، بينما أُغلقت محطّةُ سَجد المجاورة، وفُكِّكَ المقطع من يافا إلى اللّد، بطول 20 كم، لاعتباراتٍ دفاعيّةٍ، واستُخدِمت قضبان المقطع المفكّك لمدّ السكّة اللوجستيّة العسكريّة العثمانيّة إلى بئر السبع.
بعد الاحتلال الإنجليزيّ لفلسطين، وعقب الإعلان عن إنشاء خطوط السكك الحديديّة الفلسطينيّة (Palestine Railways) في الأول من تشرين الأول 1920، دفع الإنجليز للفرنسيس مبلغ 565 ألف جنيه إسترليني ثمناً لخطّ سكّة حديد يافا القدس، والتي أصبحت جزءاً من خطوط السكك الحديديّة الفلسطينيّة بعد أن جرى توسيعها إلى قياس 143 سم.
كانت خطوط السكك الحديديّة الفلسطينيّة أكبر المشغلين في فلسطين تحت الاحتلال الإنجليزيّ، وتحوّلت إلى موقعٍ للصراع بين أهل البلاد والمستوطنين الصهاينة، والذين عملوا بدورهم على السيطرة على هذا القطاع تحت شعار “احتلال العمل في السكّة”، من خلال “إقناع” الإنجليز بإحلال العمالة اليهوديّة مكان العمالة العربيّة “غير المؤهلة”.
وفي أثناء الثورة الفلسطينيّة الكبرى، وخاصةً ما بين عامي 1937 و1939، تعرّضت معظمُ محطّات القطار والسكك الحديديّة للهجوم من قبل الثوار، مما أدّى إلى توقّف العمل مؤقتاً في سكّة يافا- القدس. ولا تزال الأبراج الإنجليزية لحماية السكّة من الهجمات الفلسطينيّة، بالقرب من محطّة دير الشيخ، شاهدةً إلى يومنا هذا على مواجهة فلّاحي فلسطين للإمبراطوريّة البريطانيّة. وقد سرّتني مشاهدةُ قِطَعٍ من سكّة الإمبراطورية قد تمّ استخدامُها من قبل فلّاحينا، بعد تخريب السكّة، كدَّعامات لعقد آبار المياه والفساقي (القبور).
استمرّت لعنة السكّة تلاحقنا في حرب النكبة 1948، وخاصةً أثناء ترسيمِ خطّ وقف إطلاق النار ما بين الأردن و”إسرائيل”، حيث أصرّ الصهاينة أن تبقى السكّة ضمن الحدود الصهيونيّة بصفتها خطّاً استراتيجياً، ما بين مستعمَرة تل أبيب والقدس، فاحتُلّت قرية القبو وأجزاءٌ كبيرةٌ من بيت صفافا، وهُجّرت الولجة برعايةٍ أردنيّةٍ لضمان بقاء السكّة تحت السيطرة الصهيونيّة، وأما بتّير المجاورة فخضعت “لترتيباتٍ أمنيّةٍ” حفاظاً على أمن السكّة.
(في هذا التاريخ الطويل للسكّة، تغيبُ روايةُ أهل البلاد حولها، وتبقى ذاكرةُ السكّة الشعبية مشروعاً مستقبليّاً أكثر تحدّياً، يحتاجُ إلى لملمة الروايات والأحاديث وبيوت العتابا والميجانا، وهي مهمةٌ صعبةٌ، وصعوبتها مشتقةٌ من حالة الاستعمار ذاتها التي تُيسّر لنا دروب الوصول إلى الوثائق والخرائط التي تنتجها السلطة الاستعمارية وتؤرشفها).
المحطّة الرابعة: من تل أبيب إلى “يروشاليم” في 25 دقيقةً
ما بعد النكبة، في السابع من آب 1949، قال بن غوريون في حفل استقبال القطار الأوّل إلى القدس:
“هذا القطار هو بمثابة الحجّ نحو القدس (עולה יורשלימה) في عصرنا، بعد استئناف كينونتنا القوميّة في أرضنا، وهذا القطار هو حلقةٌ جديدةٌ في سلسة مساعينا العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة لتحرير القدس وإعادتها للسيادة اليهوديّة، وتربط عاصمتنا بكلّ أنحاء بلادنا بحبالٍ من الحديد والحبّ”.
وهي ذات الكلمات التي سيعيُدها وزيرُ المواصلات الصهيونيّ، يسرائيل كاتس، في افتتاح خطّ القطار السريع قبل عشرين يوماً: “الخطّ السريع سيسمح للآلاف المؤلفة من شعب “إسرائيل” للحجّ “علياه” إلى “أورشليم”، ويتّصل بإرث الآباء والتاريخ مُذكّراً بالمرحلة القادمة من المشروع المتمثّلة بمدّ السكّة تحت الأرض لتصل إلى محطّة حائط البراق”.
تبدو الخطابةُ الصهيونيّةُ حول السكّة السريعة ما بين مستوطنة تل أبيب والقدس صدىً لما قاله المستعمرون الأوائل عن سكّة يافا – القدس قبل 126 عاماً، فتظهرُ القدس المحتلَّة فيها مزاراً ومحجّاً ووجهةّ سياحيّةً. ومثلما كانت الرحلةُ من ميناء يافا إلى باب يافا تساوي الانتقال من الحداثة إلى زمن البراءة المقدّسة عند الحجّاج المسيحيّين الأوائل، هي كذلك اليوم في احتفالية الخطّ السريع ما بين تل أبيب “الهايتك” والحداثة الفائقة إلى “أورشليم” الأصالة والتقاليد.
ووراء هذه الصورة المنتشية، تقبع صورةٌ مغايرةٌ أخرى قوامها الصراع التاريخيّ بين مستوطنة تل أبيب وأورشليم منذ بداية المشروع الصهيوني، أيّ ما بين “العاصمة” الأيديولوجيّة/العقائديّة، والعاصمة “الدنيويّة”. نعي هذا الصراع بين المستعمرتين، تل أبيب وأورشليم، من موقعنا كمستعمَّرين ومقاوِمِين للاستعمار الصهيوني، بصفته تعبيراً عن وظيفتين متكاملتين؛ تنهض بالوظيفة الأولى مستعمرةُ تل أبيب، وقوامها القول إنّ الاستعمار الاستيطاني في بلدنا قد نضج وصار حالة “ما بعد استعمار” متحررةً من الأيديولوجيا الاستيطانية المؤسِّسة للمشروع الصهيوني، وتنهض بالوظيفة الثانية مستعمرةُ أورشليم، وقوامها إدامةُ الرّوح القتاليّة للجماعة الاستيطانية المبنيّة على أيديولوجيا الأرض المقدّسة.
اقرأ/ي المزيد: “واختُرقت الطريق إلى القدس“
وفي هذا السياق، تبدو السكّة السريعة محاولةً لجسر الهُوّة بين العالَمَين اللّذين تمثّلهما المدينتان، وهي الهُوّة ذاتُها التي تكثّف أزمة المشروع الصهيونيّ في مرحلته المتقدّمة، الحياة العاديّة وحياة المحارب، أو لِنقُل ما بين جنديّ المشاة ومقاتل السايبر. ومنذ عام 1993، وفي خضم النقاشات والصراعات حول الخطّ السريع، تتمثّل المفارقةُ في المعارضة الشرسة للمشروع بمساره الحالي من قبل ما يسمى بـ”بلدية القدس”، والتي رأت في المشروع خطراً على التوازن الديموغرافيّ في المدينة؛ لكونه سيزيدُ من النزيف السُكّانيّ الاستيطانيّ من القدس الفقيرة بمواردها إلى تل أبيب الغنية، حيث الإسكان الرخيص وفرص العمل والرفاهيّة، إذ سيُمكّن الخطّ السريع حاملي “الأيديولوجيّات الدينيّة” أن يجمعوا بين السكن في “غوش دان” وسرعة الوصول إلى القدس زائرين للأهل و”الأمكنة المقدّسة”.
يقول العديدُ من خبراء المواصلات الصهاينة إنّه، وبشكلٍ فعليٍّ، لا تحتاج القدس لهذا الخطّ السريع، وإنّه كان للاعتبارات السياسيّة والعقائديّة الثقلُ الأساسيُّ في المشروع، لا الاحتياجات الفعليّة للمدينة، مضيفين، إنّ مستوطنة “موديعين” ستسفيد من الخطّ السريع أكثرَ من القدس، وهذا ليس بعيداً عمّا أراده “شارون” من الخطّ السريع، عندما كان وزيراً للبنية التحتيّة، حيث كان يسعى لبناء وتقوية سلسلةٍ من القلاع الاستيطانيّة بالقرب من “الخطّ الأخضر”، على شاكلة “موديعين”.
تقول المُغَنَّاة الشبابيّة الصهيونيّة “ها أنا قادم” (הנה אני בא)، 2006:
ها أنا قادم-القدس
أتسكّع في شوارع المُشاة
ألفُ ثقافةٍ، لكلِّ واحدٍ أخٌ وتسعُ أخوات
كلّهم هنا يلتقطون البثَّ من الله
بعد تيدي كوليك القدس تضعفُ بسرعة
من يوم ليوم تل أبيب تتألق أكثر
في القدس: رماديّ، ممل، لا بحر
خواطر المغادرة
ثلاث سنين مترددٌ لأخذ القرار
لحزم الأغراض داخل الحقيبة
من القرية إلى المدينة باتجاه الساحل
تل أبيب – ها أنا قادم
جئتُ لأعرق – ها أنا قادم
لأنّك أنت الوحيدة، أنا أقسم
والآن أنا في تل أبيب أخيراً
متمازجٌ مع المنظر الطبيعي، الكلّ حيويّ وهذا جيّد
واو، كمّ هناك أثداء حرقت عيوني
بعد سنتين في سدوم وعمورة
لا أتعرف على نفسي في المرآة
القدس – ها أنا قادم
عائدٌ إليكِ- ها أنا قادم
عدت للقدس، هنا الُحمّص جيدٌ، هذا مؤكد
أعطني الاسترخاء، أعطني الهدوء، لن أصاب بالتثاؤب
متى المرّة الأخيرة التي وضعتَ فيها ورقة صلاةٍ في “حائط المبكى”
غارقٌ في الأكل والتعرّف على أصدقاءٍ جدد
المدينة هذه تعيد لي التحكّم بالحياة
سنتنفس قليلاً من هواء الجبال ..نقيٌّ كالنبيذ
تل أبيب – ها أنا قادم
أنا أصل – ها أنا قادم
جئت لأعرق – ها أنا قادم
لأنّك أنتِ الوحيدة، أنا أقسم
المحطّة الأخيرة: وادي الصرار
في نهاية هذه الرحلة، وصلتُ إلى محطّة وادي الصرار، وهي المحطّة الوحيدة التي بُنيت دفاعاً عن البلاد على خطّ سكّة يافا القدس، ولكن بعد فوات الأوان، للأسف. قام الصهاينةُ بتسييج المحطّة ووضع لافتةٍ تُحذِّر من الدخول إلى المبنى، تسلّقتُ السياج بصعوبةٍ ودخلتُ المحطّة وصعدتُ إلى الطابق الثاني، ثمّ قلتُ في نفسي لا أفضل من شرفة المحطّة الغربيّة الظليلة لأطُلَّ منها على تاريخ وجغرافيا السكّة. جلستُ تحت لوحةٍ رخاميّةٍ عثمانيّةٍ منقوشٌ عليها وادي صرار، مثقوبةٌ بالرّصاص، مثبتةٌ على الجهة الغربيّة، جهة يافا. (أمّا ذات اللّوحة المثبّتة على الجهة الشرقيّة، جهة القدس، فسليمةٌ من أثر الرّصاص، يكثّف حال اللّوحتين قصة السكّة). وقد أنهكتني الرحلةُ، بدأتُ أخُطُّ في دفتري بعضاً ممّا خطّته الرحلة فيَّ:
شقُّ الجبل: تمرينٌ أولٌ على الفتح الاستعماريّ واشتعالُ الخَيالِ بجيوشٍ تعبرُ الشقّ في زمنٍ قادمٍ.
حجرُ محطّة سَجد: شعورٌ مرتبكٌ، ما بين سرورٍ بعثَهُ العثور على بقايا ما اندثر في بلادنا في نفسي، وما بين معرفة التاريخ الاستعماريّ للسكّة، وقفتُ أمام حجرٍ وحيدٍ قد تبقى من محطّة سَجد المندثرة. وبهذا الإحساس المرتبك، تفهّمتُ صورة القطار والسكّة في ذاكرتنا المعذبة التي تساوي ما بين الماضي والزمن الجميل، وقد شذب الفقد كلَّ ما يربكُ صورتَه المشتهاة.
رفقةُ الشّقا: فلسطينيون وسودانيون وجزائريون ومصريون، يجمعهمُ الشقاء وتفرّقهمُ لهجاتٌ وصراعاتٌ على لقمة العيش، أيُّ كلامٍ دار بينهم؟ وأيّ مواويل غنّوها ليُسلّوا بها أنفسهم؟ ماذا اقتسموا؟ وعلى ماذا انقسموا؟
“قوسُ نصرٍ” على أبواب القدس: على مدخل القدس، ما بين قالونيا ولفتا، يمتدُّ جسرُ القطار السريع واصلاً بين نفقين، النفقُ الأوّلُ ينبئ بالسيادة على تحت الأرض، أسفل بيت سوريك، والنفق الثاني يصلُ نهاية الخطِّ السريعٍ بـ “محطّة الأمّة “. يبدو الجسر الإسمنتيَ العظيم وكأنّه قوسُ نصرٍ صهيونيٍّ يعبرُ منه القادمون إلى القدس، ولكنّه جسرُ نصرٍ قَلِقٌ، فهو أيضا يتّصل بنفقٍ يؤدي إلى أكثرَ ما يكثّف الشعور بقلق النهاية، إلى “الملجأ النوويّ” الذي شيّدهُ الصهاينةُ تحت قرية لفتا وأسموه “ملجأ يوم القيامة” …
يمكنكم قراءة وتحميل المقال بصيغة (pfd) من هنا
*****
قائمة المراجع:
بالعربيّة:
منصور، جوني. الخطّ الحديديّ الحجازيّ: تاريخ و تطور قطار درعا-حيفا. مؤسسة الدراسات المقدسية،2008.
بالإنجليزيّة:
Al Jubeh, Nazmi. “Conrad Schick: Pioneering Architect, Archaeologist and Historian of Nineteenth Century Jerusalem.” (2016).
F Robert Hunter (2004) Tourism and Empire: The Thomas Cook & Son Enterprise on the Nile, 1868–1914,Middle Eastern Studies, 40:5, 28-54
Griffin, Maryam Susan. West Bank Public Transportation: Movement as Politics. University of California, Santa Barbara, 2015.
Ram, Uri. “Jerusalem, Tel Aviv and the bifurcation of Israel.” International Journal of Politics, Culture, and Society 19, no. 1-2 (2005): 21-33.
Scholch, Alexander. “Britain in Palestine, 1838-1882: The roots of the Balfour policy.” Journal of Palestine Studies 22, no. 1 (1992): 39-56.
Sharkansky, Ira. “Planning a Railroad to Jerusalem:“Professional Considerations”+“Political Considerations”=“An Old and Slow Line”.” In Politics and Planning in the Holy City, pp. 67-84. Routledge, 2017.
Travis, Anthony S. On Chariots with Horses of Fire and Iron: The Excursionists and the Narrow Gauge Railroad from Jaffa to Jerusalem. Magnes Press, 2009.
Wallach, Yair. “Nostalgia and Promise in Jerusalem’s Derelict Ottoman Railway Station.” Jerusalem Quarterly 38 (2009).
Weizman, Janice. “Through a Geography of Millennia: the quest for a train route from Tel Aviv to Jerusalem.” Queen’s Quarterly 124, no. 1 (2017): 22.
Zimpel, Charles F. Railway Between the Mediterranean, the Dead Sea, and Damascus, by Way of Jerusalem, with Branches to Bethlehem, Hebron, Nablous, Nazareth, and Tiberias… GJ Stevenson, 1865.
بالعبريّة:
אביצור, שמואל. “הרכבת מיפו לירושלים”.קרדום : דו ירחון לידיעת הארץ – יפו ואתריה.ירושלים:הוצאת ספרים אריאל.1981
בן-אריה, יהושע.עיר בראי תקופה-ירושלים החדשה בראשיתה. ירושלים:יד בן-צבי.1979
בן גוריין,דוד. “לבוא הרכבת לירושלים”.ירושלים החצויה – 1948 – 1967: מקורות, סיכומים, פרשיות נבחרות וחומר עזר.ירושלים:יד יצחק בן-צבי.1994.
הרצל,תיאודור. עניין היהודים : ספרי יומן 1895 – 1904 .ירושלים:מוסד ביאליק.1997