في 14 كانون الثاني 1948، فشل العربُ في هجومِهم الأوّل على مجمع “كفار عصيون” الاستيطاني المُحاصَر. فبالرغم من عدد المُهاجِمين الكبير نسبياً، إلا أن سوءَ التخطيط والتنظيم وعدم وضوح الهدف، حَوَّلَ الهجومَ إلى كارثةٍ أوقعتْ العشرات ما بين شهيدٍ وجريحٍ، وعمّتْ حالةُ الحدادِ والإحباطِ في الخليل والقدس. ولكن بعد أقل من 48 ساعة، تبدّل الحالُ مع بدء تواترِ الأخبار المُفرِحة القادمةِ من صوريف.
رغم فشل الهجوم، بقي الحصارُ المفروضُ من قبل العرب على “كفار عصيون” على حاله، وعجز الصهاينةُ عن كسره بريّاً عن طريق القوافل المصفحة. كانت لدى الصهاينة حينها حاجةٌ ملحةٌ لتعويض النقص الحادّ في الذخائر التي استهلكت في صدّ الهجوم على المستعمرة، بالإضافة إلى الحاجة لإيصال بطاريات لجهاز الاتصال اللاسلكيّ، وقد كان هذا الجهاز هو الوسيلة الوحيدة للتواصل مع المستعمرَة المحاصَرَة. وخاصّةً بعد تعثّر محاولة إنزال هذه البطاريات من الجوّ عن طريق طائرات ما عُرف حينها بـ”الخدمات الجوّيّة” التابعة للهاجاناه والتي كانت تنطلق من مطار “دوف” في تل أبيب.
فيما بعد، قررت قيادة الهاجاناه في القدس إرسال وحدة خاصّة، عُرِفت لاحقًا باسم “كتيبة الجبل”، مهمتها كسر الحصار عن طريق التّسلل مشياً على الأقدام وإيصال المعدات والذخائر إلى “كفار عصيون”. تكوّنت الوحدة من نخبة مختارة من مقاتلي الهاجاناه: 20 مقاتلاً من قوات “البلماخ”، و15 مقاتلاً من وحدات “جيش الميدان” معظمهم من طلاب الجامعة العبرية في القدس. وقد تولى قيادة هذه الوحدة القائد العسكري “داني ماس” والمسؤول عن العديد من العمليات الخاصّة في “البلماخ”، والعارف بطبوغرافيا ومسالك المنطقة، لنشاطه العسكريّ السابق فيها ولتاريخه الكشفيّ وتأسسيه لفرق الكشافة الاستطلاعية في منطقة القدس.
كان الإصرار على كسر حصار “كفار عصيون” نابعاً من الرعب من فكرة الاضطرار للانسحاب من الجيب الاستيطاني المحاصَر، وما يحمله هذا الانسحابُ من دلالةٍ على تراجعٍ مبكّرٍ للمشروع الصهيونيّ الاستيطانيّ وتخليه عن الأرض. إضافةً إلى ذلك، كانت هناك اعتبارات عملياتية عسكرية، تتمثل في الرغبة في إثبات قدرة القوّة العسكرية الصهيونية على العمل العسكريّ في عمق المنطقة العربية المعادية وبعيداً عن القواعد الآمنة والمستوطنات المُحصنة، خاصّة أن ذلك يساهم في ضرب الروح المعنوية للعرب، وبناء الثقة والروح الهجومية عند الصهاينة.
تمّ تسليح الوحدة بكمياتٍ كبيرةٍ وغير مسبوقةٍ من الأسلحة والذخيرة: أربعةُ مدافع رشاشة من نوع “برن” مع 800 طلقة لكلّ مدفع، و16 بندقية مع 50 طلقة لكلّ بندقية، و15 رشاشاً من نوع “ستنن” مع 4 مخازن للذخيرة لكلّ رشاش، و70 قنبلةٍ يدويةٍ، ومواد متفجرة زُوّدتْ بها الوحدةُ من مخزن السّلاح السريّ للهاجاناه في مدرسة المكفوفين في مستعمرة “جفعات شاؤول”.
في 15 كانون الثاني 1948 عند السّاعة 11 ليلاً انطلقت الوحدة الصّهيونية من مستعمرة “هار طوف” (أقيمت هذه المستوطنة على 4500 دونم من أراضي قرية عرطوف العربية قضاء القدس، والتي صودرت في العام 1870 بسبب عجز الفلاحين عن دفع الضرائب، وبيعت لاحقاً “لجمعية لندن لنشر المسيحية بين اليهود”، ومن ثمّ باعتها الجمعية للمستوطنين اليهود البلغار في منتصف العام 1890)، وقد كان آخر تواصلٍ مع الوحدة الساعة الواحدة من بعد منتصف تلك الليلة، وذلك بالقرب من قرية بيت جمال، ومن ثمّ انقطع الاتصال معها.
تشيرُ الروايات الشفوية الفلسطينية إلى أنّ الوحدةَ قد ضلّت الطريق، وأن مزارعين فلسطينيين اثنين هما نصر إبراهيم القاضي ومحمد سالم عدوان قد شاهداها في صباح 16 كانون الثاني بين قرية الجبعة وصوريف، وقد أثارت شكوكهما بعد أن ألقى أفرادها التحيةَ بلكنةٍ عربيّةٍ ثقيلةٍ، فقاما بإبلاغ المناضل إبراهيم أبو ديّة قائد معسكر صوريف.
وفي رواية فلسطينية أخرى ورد أن المجموعة شوهدت وهي تنزل من السّيارات ليلاً عند وادي الصّنع القريب من بيت نتيف، وقد ضلوا الطّريق، وقد كان بصحبة المجموعة كلب بوليسي لكشف الطريق، وعند “حَبلة الجوز” شاهد أحدُ المزارعين الفلسطينيين الكلبَ فعرف أنه كلبُ يهود فأخبر المناضل أبو ديّة بذلك.
أما الروايات الصهيونية فتتحدث عن امرأتين فلسطينيتين كانتا تجمعان الحطب في الصباح الباكر وأنهما شاهدتا المجموعة وأخبرتا عنها. وقد تداول الصهاينة كذلك “أسطورة الراعي العربي كبير السّن” الذي صادف المجموعة وكشفها، ولكن “داني ماس” قائد الوحدة لم يسمح بقتله وأطلق سراحه، ومن ثمّ قام الراعي بالتبليغ عن المجموعة، وقد استخدمت هذه الأسطورة لفترةٍ طويلةٍ في الإرث العسكريّ الصهيونيّ للدلالة على ما يسمى “طهارة السلاح”.
وعلى الرغم من تعدد الروايات، إلا أن جميعها ينتهي بانكشاف المجموعة ومن ثمّ استحكامها في تلة “ظهر الحجة” ما بين قرية بيت نتيف وصوريف، ومن ثمّ محاصرتها والقضاء عليها بجنودها الـ35. ويؤكد العديد من المؤرخين العسكريين الصهاينة إلى أن الوحدة لم تضلّ الطريق، وإنما كانت تحت المراقبة الفلسطينية منذ البداية، وأنها وقعت في كمينٍ مُحكمٍ في “وادي السرّ”، حيث حفرت الخنادق من ثلاث جهات، وأبيدت عن بكرة أبيها، وقد استشهد في هذه المعركة أربعةٌ من المقاتلين العرب منهم الشّهيد جمال حميدة أبو فارة.
وقد استمرت المعركة من الضّحى حتى ساعات ما بعد العصر. وفي اليوم التّالي اشتبك المقاتلون العرب مع قوّةٍ صهيونيةٍ تقدّمت من جهة بيت نتيف لإخلاء قتلاهم في معركة ظهر الحجة، فأوقعوا فيها العديد من القتلى والجرحى واستشهد من العرب ثلاثة مقاتلين.
وفي ذلك أنشد الأستاذ سليم حجازي:
في يوم وادي السرّ قد سقطوا كأوراق الخريف
لمّا مضت صوريف بالأب طال في زحف عنيف
شكّلت معركةُ ظهر الحجة ضربةً موجعةً للصهاينة، وتعالت الأصواتُ الداعية إلى الانسحاب من المستوطنات البعيدة عن التجمعات الاستيطانية الكبرى، وتقصير خطوط المواصلات بين المستوطنات لتسهيل عملية الدفاع عنها. وفي الوقت ذاته تحولت “وحدة الجبل” أو “لاميد هيه” (أي وحدة الـ 35) إلى أسطورةٍ عسكريةٍ في المجتمع الصهيوني وكتبت عشرات الكتب والدراسات حولها تمجيداً لما قيل حول “بطولتها في المواجهة حتى الطلقة الأخيرة”.
في ذكرى مرور شهرٍ على معركة ظهر الحجة، بدأت عصابة الهاجاناه بسلسلة عملياتٍ انتقاميةٍ صاعقةٍ ليليةٍ ضدّ القرى الفلسطينية أطلقت عليها (عملية لاميد هيه)، وكانت تهدف إلى معاقبة القرى العربية النشطة عسكرياً، وإلى رفع الروح المعنوية القتالية للصهاينة بعد انتكاسة معركة ظهر الحجة، وقد كانت أولى هذه العمليات ضدّ قرية سعسع قضاء صفد.