(هذا المقال هو الثالث ضمن سلسلةٍ من أربعة أجزاء، بإمكانكم الاطّلاع على المقالات السابقة من هنا: الأول والثاني).
وفقاً لـ “والتر منيولو”، تعتبر الحرب العالمية الثانية اللحظة التاريخية الثانية التي ساهمت في تشكيل الحداثة/الاستعماريّة/الرأسمالية، أيّ عندما تولّت الولايات المتحدة الأمريكية زمام قيادة النظام العالمي بعد هزيمة القوى الاستعمارية التقليدية (أوروبا) وتحصيل المستعمرات السابقة استقلالها.ولعّل أبرز مثال على هذا التحول وعلاقته بعملية الإنتاج المعرفي، هو انتقال أحد أهم المستشرقين، “هاميلتون جيب”، من جامعة أوكسفورد في بريطانيا إلى جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1955.
بالنسبة لـ “زخاري لوكمان”، عبّر انتقال “جيب” هذا، إلى جانب اعتباره خياراً شخصياً، عن تطوّرات عدّة: كان أولها الازدياد المضطرد في عدد الأكاديميين والمؤسسات الأكاديمية التي اتّخذت من الولايات المتحدة مقرّاً لها مقارنة بتلك المتمركزة في أوروبا، لترّكز في دراستها على منطقة “الشرق الأوسط”. وقد صاحب هذا الازدياد ظهور الحقل المعرفي الجديد، “دراسات الشرق الأوسط”، في الأكاديميا الأمريكية كجزءٍ من التوجّه الوليد نحو البحث “مُتعدد التخصصات” (الدراسة المناطقيّة)، الذي شكّل رأس حربةٍ في المجهود العسكري الأمريكي، كما عبّر أحد المسؤولين الامريكيين بقوله: “كان أول تأسيس لمركز للدراسات المناطقية في مكتب الخدمات الاستراتيجية”. [1]
وفي عام 1949، أصدر مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية في الولايات المتحدة (SSRC) تقريرا أكّد فيها على دور الدراسات المناطقيّة في خدمة “الأمة”، جاء فيه: “يتطلب الرفاه الوطني في فترة ما بعد الحرب، وأكثر من أي وقت مضى، مواطنةً مطّلعةً على غيرها من الشعوب، إلى جانب خلق جسم معرفي واسع حولهم (…) تعتبر الدراسة المناطقية أساسية إذا ما كانت جامعاتنا تطمح لتلبية واجباتها تجاه الأمة. إذ أثبتت حربان صادمتان في مدةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ بدون شكّ أن لا بدّ لنا أن نكون على دراية بسائر شعوب الأرض”.
ثانياً، لم يشر هذا التحول فقط إلى صعود الولايات المتحدة إلى مرتبة قيادة النظام العالمي، ولكنه مثّل تحوّلاً في النموذج والإنتاج المعرفي. ففي الوقت الذي كان فيه الاستشراق كحقل معرفي يعبّر عن امتداد الهيمنة الأوروبية في “الأراضي الإسلامية”، فإنّ تطور دراسات الشرق الأوسط إلى حقل أكاديمي مرتبط بصعود الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى صاحبة ارتباط عميق بالمنطقة. وهنا على سبيل المثال، اعتبر العديد من الباحثين أن تحوّل الاهتمامات البحثية مما أطلق عليه “الإسلام التقليدي” إلى الدراسات الصوفية في أربعينيات القرن العشرين دليلاً على انتهاء حقبة الاستشراق، متغافلين أن السبب وراء هذه النقلة هو غرض استعماري بحت، امتدّ منذ ما قبل حرب الاستقلال في إندونيسيا وحتى حروب المغرب العربي التي شكّلت الصوفية فيها ركناً أساسياً.
ناقش “تيموثي ميتشل” ذات الفكرة في دراسة أعدّها حول “الشرق الأوسط في ماضي ومستقبل العلوم الاجتماعية”، والتي رأى فيها أن أحد الأسئلة المركزية عند التطرق لدراسات الشرق الأوسط هو: كيف نفهم العلاقة ما بين “أسئلة سياسات القوة” التي تجعل من منطقة الشرق الأوسط تبدو قريبة بشكلٍ كبيرٍ من جهة، وعملية إنتاج المعرفة الأكاديمية من جهةٍ أخرى؟ وللإجابة على هذا السؤال، أكّد “ميتشل” على أنّ “أصول الدراسات المناطقية يجب أن تفهم في علاقتها مع موضعة المعرفة الاكاديمية بالنسبة للصراع، ليس صراع الحرب الباردة وإنما للعلم بشكلٍ عام، والعلوم الاجتماعية بشكلٍ خاص، باعتبارها المشروع السياسي للقرن العشرين. هذا المشروع على اتصال وثيق ببناء الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى، ولكن العلاقة ليست بالبسيطة كما يفترض عند نقاش علاقة الصعود الأمريكي والدراسات المناطقيّة. فالعلوم الاجتماعية أخذت شكلها الحديث في نفس الفترة التي تبلورت فيها دراسات المناطق كحقل معرفي”.
إلّا أنّ هذا الاهتمام المتزايد للولايات المتحدة في منطقة “الشرق الأوسط” ودراستها من أجل خدمة المجهود الحربي قد واجه معضلة نقص المعلومات والمعرفة في تاريخها وثقافاتها وأناسها واللغات المحكيّة فيها. فبناءً على ملاحظة أحد المسؤولين في عام 1947، قال: “هنالك عدد قليلٌ من الباحثين الذي يعرفون شيئاً عن المنطقة باستثناء معرفتهم المتركّزة في مجال اللغات”. وعليه، وضعت الجامعات برامج مكثفةٍ لتدريس اللغات، ونظّمت حلقاتٍ دراسيةً مكثّفة لاطلاع الشخصيات العسكرية على الدول التي من المحتمل أن يخوضوا حرباً ضدها، وعلى الشعوب التي من المحتمل أن يقوموا “بإدارتها”.
ولتحقيق ذلك، اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية على الباحثين (المستعربين -Arabists) الذين تربّوا في المنطقة منذ طفولتهم، سواءً كانوا ملحقين بالبعثات البروتيستانتية، أو ينتمون إلى مؤسسات كالجامعة الأمريكية في بيروت، حيث دمجتهم ضمن كوادر وزارة الخارجية الأمريكية. إلى جانب ذلك، استعانوا أيضاً بالخبراء من المستشرقين الأوروبيين ليديروا البرامج الجديدة لدراسات الشرق الأوسط.
وبناء عليه، اُعتبرت الحرب العالمية الثانية “القابلة” التي ولدت على أيديها الدراسات المناطقيّة، إلى جانب اعتبار الحرب الباردة لاحقاً المحرّك الذي ساهم في تطويرها. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنه على الرغم من الدور التأسيسي للخبراء من المستشرقين الأوروبيين في إدارة البرامج الوليدة لدراسة الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنّ القاعدة المعرفية التي ترتكز عليها تلك البرامج هي العلوم الاجتماعية باقتراناتها المعرفية، التي من المفترض أنها شكّلت تجاوزاً لأبستمولوجيا الاستشراق.
و بهذا الصدد يتحدث لوكمان بالقول: “في حين أن الحقول التقليدية كالاستشراق عمدت إلى اعتبار الحضارة التي درسوها ساكنة غير قادرةٍ على التغيّر والتغيير، فإنّ أرضية الدراسات المناطقية في العلوم الاجتماعية من المفترض أن تخلق تحوّلاً في بؤر العملية البحثية لتركز على ديناميكيات التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية في العالم المعاصر، وتعطي الخبرات متداخلة التخصصات والأبعاد دفعةً لتستخدم في صنع السياسات”.
ولعلّ في هذا السياق تجدر إعادة النظر في الدور الذي لعبه نقد إدوارد سعيد للاستشراق الذي لاقى ضجة واسعة في أوساط الأكاديميا الغربية ما بين مرحّب ومستنكر، وذلك باعتبار النقد الذي مارسه تجاه البنية المعرفية الغربية نقداً ساهم في بعثها وفتح آفاقها وتجديد سبلها وآلياتها للهيمنة، وذلك على عكس المُراد من النقد تلك المعرفة، وهو إحالة النقاش حول الدور الاستعماري لها.
في المقابل، رأى “ميتشل” أن هذا التحول لا يشكّل انفصالاً عن الاستشراق، بلّ اعتبره نوعاً جديداً من أنواع الاستشراق. فبنظره، تمّ إعادة تنظيم حقول العلوم الاجتماعية حول موضوعات افترضت في كل واحدة منها ببنية الدولة-الأمة القالب الاجتماعي العالمي، حيث تقاطعت هذه الفكرة مع مأسسة “الشرق الأوسط” كمنطقةٍ جغرافيةٍ متميزةٍ بالإضافة الى مأسسة فضاءات اجتماعية داخل العلوم الاجتماعية كالاقتصاد والنظام السياسي والثقافة والمجتمع. ويستشهد “ميتشل” بأحد الكتاب قائلاً: “فقط تلك المجتمعات التي حقّقت استقراراً ديناميكياً هي القادرة على التفكير بالسياسية والاقتصاد والثقافة كعوالم مستقلّة الوجود، وليست فقط تعبيراً عن تقسيمٍ ملائمٍ للدراسة. في المجتمعات التقليدية، أو تلك التي في حالة تدفقٍ دائمٍ، فإنّ الاتصال بين السياسة وجميع جوانب الحياة الأخرى يعتبر قلب القضية. وإذا لم تعد الدراسات الاستشراقية التقليدية مجدية، فإنّ تقسيم العمل بين التخصصات والحقول المعرفية يتطلب تفهماً للكل، حتى لا يضيع الغرض من تقسيم العمل في المقام الأول”.
ومن هنا استنتج “ميتشل” أن إطار تداخل التخصصات الذي قدّمته الدراسات المناطقية شكّل محرّك تطوّر العلوم الاجتماعية من خلال أمرين: الأول، شكّلت الدراسات المناطقية أرضية تعميم العلوم الاجتماعية، وتطهير النظرية الاجتماعية من محليّتها. أما الثاني، هو تشكيل الدراسات المناطقية لإطار يهدف للتغلب على العزلة المهنية للباحثين، حيث قدّمت الأدوات التي مكّنت العلوم الاجتماعية من تهجين الحقول المعرفية. يتطابق تحليل “ميتشل” هذا مع ما طالب به مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية في تقريره الصادر عام 1948، حينما أكدّ على أنّ “العمل الجماعي ضروريٌّ في الدراسات المناطقية كما هو في الطب حيث لا يستطيع شخص أو حتى علم أو تخصص التعامل مع تعقيدات ثقافة وبيئة منطقة ما.
فالمحدودية الجغرافية لمنطقة ما تحثّ الخبراء على جمع وتوحيد جهودهم المعرفية، وتمنعهم في الوقت ذاته من تجاهل عوامل ذات صلة تقطن خارج مجالات اهتمام أيّ منهم”. وإلى جانب دور مجلس العلوم الاجتماعية في توجيه وترويج الدراسات المناطقية بشكلٍ عام ودراسات الشرق الأوسط بشكلٍ خاص، ما بين أربعينيّات وستينيّات القرن العشرين، قام الكونغرس الأمريكي عام 1958 بالموافقة على قانون الدفاع القومي للتعليم، الذي وفّر بدوره تمويلاً ضخماً للجامعات والكليات بهدف رعاية اللغات الأجنبية المهمة بالنسبة للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية، كالعربية والتركية والفارسية، ولغات مناطق أخرى من العالم تحمل أهمية استراتيجية. كما أن جزءاً من التمويل ذهب إلى مراكز الأبحاث الراعية لبرامج الدراسات المناطقية والمنح التابعة لها. وكنتيجة لهذا التمويل، ارتفع عدد حملة درجة الدكتوراه في الدراسات الشرق الأوسطية من 13 في عام 1940، إلى 24 عام 1951، فـ 40 عام 1966، وصولا إلى 86 عام 1979.
وأشار “ميتشل” بهذا الصدد، إلى أن منتصف ستينيّات القرن العشرين شكّلت اللحظة التي ولد فيها جيل جديد من علماء الاجتماع الذين قادوا برامج دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ذات الوقت اعتبر عام 1967 هو العام الذي تمأسس فيه الحقل بشكل كامل. وفي النهاية، استنتج بأنّ “تطور الدراسات المناطقية لم تكن بكلّ بساطةٍ ردة فعلٍ على احتياجات الحرب الباردة، ولكنها حالة تكاملية مع محاولة خلق بنيةٍ معرفيةٍ كونيّةٍ سياديةٍ شكّلت جزءاً من مشروع الحداثة الأمريكية المعولمة الذي انتمت إليه الحرب الباردة”.
تابع/ي القراءة: إضاءات على المعرفة الغربيّة والحروب الاستعماريّة (4)
****
[1] مكتب الخدمات الاستراتيجية هو وكالة استخبارات أمريكية ارتبطت بفترة الحرب العالمية الثانية، تأسست ما بين عامي 1942-1945، وتعتبر النسخة السابقة من وكالة الاستخبارات الأمريكية الحالية (CIA).