الحياة مرّة أخرى موضع الروح حين تمتدّ اليد للكتابة، إلى نداء الشاعر «ياروحي تعالي إلى البراري» يدخل المرء رحلته عبر الزمن ومسافاته، بحديث التكوين: تمتدّ جذور السّنوات الأولى لرحلةٍ فلسطينيّة خارج البلاد، إلى شريان الأزمنة الذي يكبر حتى يُصاب بالفقد والأوجاع، شاعر معروف قاسية كلماته بصلابة عينيه، «ضدّ من؟ ومتى القلب في الخفقانِ اطمأن؟»، وكاتب صعد في الساحة الحمراء، إلى قوامه الذي يشبه زهور الجبال، تواجهه العواصف والطغيان، يسير كالأزهار البيضاء بالرداء الأبيض بين الممرّات، وقلبه على يديه، سماح إدريس المثقّف المدفع، الوجه الذي عاش يضحك ويكتب وينتصر لقضايا الحرية والإنسان وفلسطين ولبنان، إلى لطيفة يوسف «لحم الفلسطيني لأثر الفراشة» وهو يطير بين الناس والمدن والأسفار، وصولاً إلى الجهة الأخيرة، قبل النبأ الذي ذاع لحظة الوفاة والرحيل، هذا الموت الذي يصعب تفسيره، لمن عاش وماء جسده يملأ الأرض ويروي للآخرين مطر الحكايات، صوتها حجر البلاد في يد أطفال الحجارة، يداها حملت الأصدقاء، كتبتْ قصيدة اللون، واللون رفيق لا ينسى من يسافر معه، ظلُّ قلبها أجنحة من نوراس البحر؛ تطارده كوابيس الاحتلال وحُلم العودة، يرسم ويغني، لطيفة يوسف، الاسم الموسوعة، نسيانه هو المستحيل من الذاكرة العربية والفلسطينية، تاريخ الثورة وفلسفة نضالاتها، الاسم الذي تجده حاضراً في ذاكرة الشهداء والمثقفين العرب، وهذا الاسم الذي يشبه فلسطين حين تبكي سنوات الأسرى وصعود الشهداء ونهر المأساة الممتدّ يواجه نير الاحتلال. رحلت لطيفة في وقتٍ كان يمكن أن يستمر أكثر ليتحدث للأجيال والعالم، والكون الذي يحاول أن يصهر الشعوب في سياساته الحاضرة على شاشات الفُرجة، كان يمكن أن تكون صوت المفقود منّا، لوحات الجبل إذ صارت الأرض سياج الاستيطان، لكنّ البكاء عين الرثاء، والرثاء لوحة الحقيقة ومراَة الضمير، حين يرسم التشكيلي لوحاته، يرى عالماً أبعد، ويسمع أصوات الجراح والفرح في عناصر تكوينه الناطقة، لا يفقد التوزان بين الرحيل والحضور، بين الظّل والنور، ولا يعرف المرء كيف يصيغ الكتابة من مكانه، حين كان يسمع صوت صاحبه، وتنمو حواسه في لحظات التذكّر والبهجة والحزن في الحديقة الوحيدة لمسألة الوقت. تحدّثني لطيفة يوسف ذات يوم عن حسين البرغوثي وشوارع رام الله: «لن يعوض الصديق د.حسين البرغوثي، المبدع العبقري، عرفته جيّداً. كان يزورني باستمرار، كنّا نتقابل بالشارع وبعض الأماكن التي يتردّد عليها المثقفون، وأحياناً أوصله بسيارتي لأنّه لا يملك سيارة ولا يحب. زرته في بيته البسيط مع زوجته الطيبة جداً، إنه موسوعة متنقلة، ينقلك من دنيا لدنيا». في تلك اللحظة وصوت لطيفة يمتدّ إلى قلبي ولن أنساه في حياتي؛ تذكرت عوالم حسين، وسؤاله الخالد لـ «بري» الذي يعيش سنوات الأبديّة «وما هذه العوالم الغريبة الي تسري فيها، أيّ، أين أنت الاَن ؟». اللحظة التي قرأت معها خبر رحيل لطيفة في نهاية اليوم، حضر سريعاً السؤال، وبري وذاكرة لطيفة قبل أن ترحل، وابتسامتها القريبة من ميلاد طيرٍ جديد، ليلة صعودها إلى سماء الله، انتظرت النهار، الضوء، الشمس، وكلّ ما يجعل الحياة تتحرّك من جمود الصمت والحزن، لمحاولة الرؤيا الصامتة لوجهٍ يحلم نائماً، بين مسافة الحجر وعين الصحراء، نفق الأحلام والمنامات الطويلة، يستطيع كاتب التاريخ والمحقق من صحته أن يُسجّل سيرتها دون عناء البحث الطويل، ويستطيع الشاعر أن يتجاوز الرثاء ويكتب قصيدتها التي لم تُكتب بعد، ويستطيع أصحاب القرار الفلسطيني، وما أكثرهم، أن يلمس كلّ منهم ما تبقى من لطيفة يوسف، أبناءها من الورود الحالمة الهادئة ولوحات الأم الشجرة: خالد ونادية ومنى. ذهبت لطيفة إلى عين للخروج ومعها من تاريخنا الفلسطيني الذي لا ينتهي، من الرحلة إلى ما قبل الوصول إلى هناك، وهناك ما أكثر التفاصيل وأطول الطريق، ذهبتْ للعبور، من التراب إلى التراب، الذي يرى بحر البلاد، وتغني سطراً أخيراً، لشاعرٍ مرّ برفقتها في بلاد عربية «العصافير تموت في الجليل»، وهذه المرّة لطيفة عالقة في مقطعٍ طويل لإحدى عشر كوكباً، والنرجس دائماً ما يكون وداعه الأخير.