توطئة
يسعى هذا المقال إلى تفكيك مقولة المعرفة المجرّدة من السياسة من خلال استعراض مشروع الحداثة المهيمن كمشروع يتوسّطه مبدأ الذات المبيدة؛ «أنا أبيد إذن أنا موجود»، والذي لا يؤطّر الرواية التاريخيّة للحداثة فحسب، بل أيضاً المفاهيم المعاصرة للسلطة والمعرفة المنبثقة عنها، موضّحاً بأنّ الذات المبيدة أو الغازية هي جزء لا يتجزّأ من تحقيق الذات الحداثيّة، والتي تشكّل عدسة يمكن من خلالها معاينة الحداثة والاستعمار في علاقتها مع الذات والمعرفة.
يجادل الكاتب بأنّ أيّ نقد فعّال للحداثة، عليه تضمين جوانبها الاستعماريّة والإمبرياليّة ويقترح التفكير بالوقوف على الحدود (Border Thinking) كمنهجيّة نقديّة تفكّك الهياكل المعرفيّة الاستعماريّة التي تديم التهميش والقمع والإبادة. والذي بدوره يتجاوز قصور النقد الداخليّ للحداثة (Immanent Critique) الذي ميّز النظريّة النقديّة عند مدرسة فرانكفورت في مراحلها الأولى فيمهّد للتفكير بالوقوف على الحدود لتجاوز نقد الحداثة إلى مقاومتها.
من خلال هذا الإطار التحليلي، يوضّح المقال تناقضات الحداثة الغربيّة وموروثاتها- والتي تتميّز بأشكالها الخاصّة من العقلانيّة والكفاءة البيروقراطيّة – وتتجلّى في أنماط مختلفة من العنف، سواء التاريخيّ أو المستمرّ. ويدرس امتداد هذه الديناميكيّات إلى سياق «معاداة الساميّة» والتداعيات الأوسع على الشعوب خارج المركز الأورو-غربيّ بما فيها الشعوب العربيّة. ويموضع فلسطين لا بصفتها كياناً جيوسياسيّاً فحسب، بل كرمز للمقاومة وأفق بديل للتحرّر المعرفيّ.
***
في مقاله المعنوَن «الحداثة: مشروع لم يكتمل»، يجادل يورغن هابرماس، أحد منظرّي مدرسة فرانكفورت النقديّة، بأنّه بدلاً من التخلّي عن الحداثة ومشروعها بشكل كليّ، يجب علينا التعلّم من الأخطاء والانحرافات التي رافقتها، وتجنّب المقترحات المتطرّفة والمغرورة حول تجاوزها واستبدالها. [1] في المقابل، يجادل الباحث الفلسطينيّ في العلوم الاجتماعيّة وفلسفتها، خالد عودة الله، بأنّ السرديّة الأوروبيّة التاريخيّة للحداثة قامت بمحو جغرافيّات الاستعمار من مدوّنتها، وبأنّ هذه السرديّة المتولّدة في أوروبا أهملت ما يقارب الخمسة قرون من الغزو الاستعماريّ، الذي شكّل بحقّ أسس ومقدّمات الحداثة وتطوّرها اللاحق. ويخلُص عودة الله إلى ضرورة الانتقال من مجرّد نقد الحداثة إلى مقاومتها. [2]
يحمل كلّ من هابرماس وعودة الله مواقف متناقضة حول التعامل مع الحداثة الغربيّة، ولا تقتصر هذه المواقف على السجالات الفكريّة فحسب، بل تتعدّاها لتصبح قضاياً وجوديّةً ترتبط بالمشاريع الحضاريّة المتعثّرة التي ينتمي إليها كلّ منهما. كما أنّ هذه الآراء المتناقضة، تعكس وتكشف موقعيّة كلّ من المشروعين والأدوات والطرق المنهجيّة التي يوظّفانها في مقاربة مفهوم كالحداثة. وفي هذا السياق، يتكوّن جدال هابرماس من فكرتين أساسيّتين متقاطعتين؛ الأولى، اعترافه بمحدوديّة مشروع الحداثة الغربيّ وخروقات المثُل التي وعد بها من الحرّية والمساواة والتقدّم. أمّا الثانية، فيؤكّد هابرماس أنّ هذه الخروقات يجب ألّا تشكّل عذراً للتخلّي عن مشروع الحداثة بكلّيته. ومن خلال وصفه المقترحات البديلة للحداثة بالمتطرّفة والمغرورة، اختار هابرماس تقديم نقد للحداثة من الداخل، بعكس النقد الذي قدّمه لها عودة الله، من موقع خارجيّ.
لكن، إذا ما التفتنا إلى الإنسان ذو البعد الواحد لهربرت ماركيوز، أحد منظّري مدرسة فرانكفورت أيضاً، يشير ماركيوز هناك إلى تحدٍّ أمام النقد الموجّه للأنظمة الحداثيّة الرأسماليّة في المجتمعات الصناعيّة المتقدّمة (المجتمعات الغربيّة)، والمتمثّل في تقويض أسس النقد ذاتها داخليّاً. حيث يوظّف النظام الحداثيّ الرأسماليّ التقدّم التقنيّ لمأسسة بنية من السيطرة والتنسيق، والتي تستطيع استيعاب القوى المتناقضة والمتعارضة، ممّا يجعل الاحتجاج النقديّ ضدّ هذه الأنظمة عقيماً. علاوة على ذلك، يقدّم النظام نفسه وسيلة لتحقيق الحرّية من الكدح والهيمنة، ويستطيع من خلال هذا الادّعاء، تحدّي الآمال والتطلّعات التاريخيّة لتلك المجتمعات في تحقيق الحرّية. في ميدان التقنية، تلتقي فضاءات الثقافة والسياسة والاقتصاد لخلق أنظمة عميقة ومتغلغلة في المجتمعات، قادرة على امتصاص أو صدّ الخيارات المحتملة البديلة. باستحضار نقد ماركيوز في النقاش حول القدرة على نقد مشروع الحداثة من داخله، كما هو الحال عند هابرماس، يبرز تساؤل ماركيوز التالي؛ كيف للأفراد الخاضعين لهيمنة فعّالة -كالتي يفرضها النظام الحداثيّ- أن يُعزّزوا ويستثمروا في ظروفهم الخاصّة لتحقيق الحرّية؟ تشمل إجابة ماركيوز نقاشاً حول خداع فكرة «الخيار الحرّ» وحرّية اختيار سلع وخدمات تُديم السيطرة الاجتماعيّة على حياة يتخلّلها الخوف والكدح. ما يبدو على أنّه خيار واختيار حرّ ما هو إلّا اختيار قسريّ متولّد جرّاء وعي زائف وتصوّرات مضلّلة والتي تشكّلها الأنظمة الرأسماليّة-الحداثيّة لدى الأفراد، وخيارات محدودة في أطر هذه الأنظمة. إذ يجادل ماركيوز في هذا السياق بأنّ الانتخاب الحرّ للسادة لا يُبطل وجود سادة وعبيد. [3]
بناءً على ذلك، أقترح هنا أنّ هابرماس، ونقاشه حول الحداثة من داخلها، خاضع لوعي زائف ووهم «حرّية الاختيار» أو حرّية النقد، بغض النظر عن مدى راديكاليّة نقده الموجّه للحداثة. فالأمر متعلّقٌ بعجز الحداثة المتأصّل عن تحقيق تغييرات نوعيّة من الداخل، تواجه بها محدوديّتها وقصورها. يساعد هذا المقترح أيضاً في فهم نقد إدوارد سعيد لمدرسة فرانكفورت وإحدى مصادرها النقديّة؛ الماركسيّة. حيث تبدو الماركسيّة الغربيّة غير واعية أو متجاهلة للإمبرياليّة ودورها. وعلى الرغم من توفير نظريّة مدرسة فرانكفورت رؤى نقديّة رائدة في العلاقة ما بين الهيمنة والمجتمعات الحديثة، فإنّها صامتةٌ بشكلٍ لافت حول مواضيع العنصريّة ومقاومة الإمبرياليّة ومعاداة الإمبراطوريّة. هذا الصمت ليس تجاهلاً، كما أوضح هابرماس في مقابلة له، بل هو نابع من قرار واعٍ بالامتناع عن التعليق؛ فليس لدى النظريّة النقديّة ما تساهم به في الصراعات المناهضة للإمبرياليّة والرأسماليّة في العالم الثالث، على الرغم من إمكانيّة اعتبار هذه الرؤية متمركزة غربيّاً ومحدودة وفقاً لهابرماس. [4]
يسلّط ماركيوز الضوء، وإن بشكل مقتضب، على ترابط الديناميكيّات الداخليّة للمجتمعات الغربيّة الرأسماليّة، وعلاقتها بالعالم الذي يحيط بها. في مؤلّفه «الإنسان ذو البعد الواحد»، يجادل ماركيوز بأنّ المجتمعات الغربيّة تتّسم بالتعبئة الكلّية الدائمة، حيث تتزاوج دولة الرفاه مع دولة الحرب، فيعيش المجتمع على حافة خوض الحرب دائماً، معتمداً على البنية التنظيميّة للمجتمعات الصناعيّة التي تميل إلى النمو والثراء المتواصل بينما تتحضّر للحرب، حيث يصان السلام الداخليّ فيها من خلال التحضير الدائم للحرب مع الخارج. من هنا، تشكّل التعبئة الاجتماعيّة الدائمة ضدّ خصم أو عدوّ محفّزاً قويّاً للإنتاج والنموّ والابتكار والتشغيل، بالتالي الحفاظ على مستويات معيشيّة عاليّة تتّسم بالرفاه. هذا يهيّئ للقبول بالوضع القائم، ويحوّل المجتمع بكليّته إلى مجتمع موجّه للحرب، وذلك أنّ العدوّ دائم الحضور؛ حضوره الدائم قاعدة لا استثناء. وفي أكثر تطبيقاته تطرّفاً، يحوّل هذا التصوّر جرائم ضدّ الإنسانيّة إلى مشاريع عقلانيّة. [5]
في أعمال أخرى، يشير ماركيوز بوضوح إلى دور «العالم الثالث» في تخليق عالم مختلف من خلال نصيبهم من النضال، الذي قد يساهم في إضعاف وتفكيك النظام العالميّ الإمبرياليّ، حيث ترتبط التطوّرات في العالم الثالث ارتباطاً وثيقاً بديناميكيّات العالم الأوّل كما أوضح سابقاً. بلغة أخرى، فإنّ التناقضات الحادّة والمتأصّلة في النظام الحداثيّ الرأسماليّ، قد تتفاقم من خلال التوسّع العدوانيّ للرأسماليّة الإمبرياليّة والتي تشكّل مصدر بضائع وإنجازات العالم الأوّل، ومصدراً للإخضاع الهادئ من خلال تحجيم الكدح الغربيّ على حساب العالم الثالث. فجميع منجزات العالم الأوّل مشتقّة من أناس يقطنون بعيدًا عن المركز الغربيّ، ووفقا لماركيوز فإنّ المجتمعات الثريّة تبدو بشكل كبير جاهلة لأفعالها ودورها في نشر الخوف والعبوديّة ومعاداة الانعتاق والتحرّر في العالم. من هنا، يقدّم ماركيوز النظام الحداثيّ الرأسماليّ ودولة الرفاه باعتبارهما دولة ونظاماً للحرب، حيث لا بدّ من تخليق عدوّ دائم وشامل، وإن لم يتوفّر، سيتمّ اختراعه. [6]
يخرج طرح ماركيوز الآنف عن النمط الفكريّ الذي تتّسم به النظريّة النقديّة لمدرسة فرانكفورت، خاصّة فيما يتعلّق بتطوّر المجتمعات الغربيّة وفضاءاتها المتعدّدة–السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة-في علاقتها مع الجنوب العالميّ. وفرضيّتي هنا، أنّ عدم الاعتراف بالاستعمار كجانب أساسيّ من جوانب الحداثة وتطوّرها، إلى جانب إقصاء الجنوب العالميّ ودراسته في النظريّة النقديّة، ليس مجرّد تحيّز للتمركز الغربيّ، بل يرتبط بمنهجيّة النقد الداخليّ لدى مدرسة فرانكفورت. والتي أخفقت في تشخيص مواقع ومكوّنات أساسيّة لبدائل محتملة للحداثة خارج الغرب، يمكن لها أن تبني تصوّراً مستجدّاً ومختلفاً للكيفيّة التي يمكن أن يحيا الإنسان بها.
من هذه الفكرة الأخيرة، تتناول هذه الدراسة في البداية تفكيكاً لمقولة «العلم الخالي من القيمة السياسيّة»، وخاصّة في اختيار منهجيّات وطرق البحث (Research Methods)، إذ يعدّ اختيارها اختياراً سياسيّاً في المقام الأوّل. ثمّ تنتقل الورقة للمقارنة ما بين مضامين منهجيّة النقد الداخليّ (Immanent Critique) لدى مدرسة فرانكفورت ونظريّتها النقديّة من جهة، والتفكير بالوقوف على الحدود (Border Thinking) من جهة أخرى. ذلك لتمهّد الطريق أمام تناول الحداثة من جغرافيّات نقديّة مختلفة بما فيها أمريكا الجنوبيّة والجغرافيا العربيّة، خاصّة تلك التي تميل للتفكير من خلال الوقوف على الحدود، وتعطي وزناً وأبعاداً أخرى لمشروع الحداثة الغربيّ في تطوّره، بمعاينة وتشخيص علاقته الجدليّة مع الآخر غير الغربيّ.
ّطرائق البحث: ما بين الموضوعيّ والسياسي
حول أولويّة فهم موضوعات البحث على اختيار طرائقه في إنجازها، يجادل المفكّر الفلسطينيّ عزمي بشارة بأنّ اختيار المنهجيّة لا يكون دون انغماس في موضوع البحث والخوض في الدراسة ذاتها، إذ يقترح بأنّ طرائق البحث ومنهجيّاته مشتقّة من موضوعات البحث ولا تعتبر طرائق جاهزة وقابلة للتطبيق. لذلك، فإنّ موضوع البحث وفهمنا له يأخذ الأسبقيّة على اختيار طرائق بحثه، ويلخّص بشارة الأمر بالقول: «فليس اختيار المنهج قراراً مسبقاً أو انحيازاً مسبقاً إلى مقاربة ما». [7] يتقاطع جدال بشارة مع تأكيد الباحث الفلسطينيّ إسماعيل الناشف بأنّه عند تطبيق «المنهج» غالباً ما يُساء فهم الواقع مرّتين؛ الأولى بإعادة صياغته من أجل الأغراض البحثيّة. والثانية، بتوصيف يدّعي تمثيله كما هو. ويقترح الناشف حلّاً لهذه المعضلة من خلال مساءلة الظاهرة قيد الدراسة عن أكثر الطرق فاعليّة وعمليّة في دراستها وإخضاعها للبحث. [8]
تضعنا مساءلة الظاهرة أو الموضوع عن أنجع طريقة في موضعي خلاف مع أطروحة بشارة؛ الأوّل في قوله إنّه لا وجود لمنهج صحيح ومنهج غير صحيح في عمليّة البحث. والثاني، المترتّب عليه، في قوله إنّ للنقاش النظريّ حول المناهج فائدة محدودة تتموضع في غايات مدرسيّة أو فلسفيّة غير ذي أهمّية في موضوع عينيّ. ويخرج بشارة بخلاصة مفادها بأنّ التقنيات البحثيّة لا تقع في صلب المنتجات الحضاريّة التي نحتاج تفكيكها وتبيئتها، كما في نظريّات العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة التي «تطوّرت في مراحل زمنيّة وأماكن وسياقات حضاريّة مختلفة، لدراسة مجتمعات أخرى غير التي نطمح لتناولها بالبحث». [9]
تتّخذ هذه الدراسة موقفاً مغايراً لذلك، وتجادل بأنّ اختيار طرائق ومنهجيّات البحث لا تتأثّر بموضوع البحث فحسب، بل هي اختيار سياسيّ في صميمه. تدعم الباحثة سوزان بويد هذا المنظور بالتأكيد على أنّ المعرفة في عمومها سلطة، وأنّ اختيار منهجيّة وطرائق البحث فعل سياسيّ بامتياز. [10] ويشاركها هذا الرأي باحثون آخرون بطرق مختلفة، فيوضّح إسماعيل الناشف أنّ العلم ومناهجه هي منتجات لظروف تاريخيّة واجتماعيّة محدّدة. [11] وتجادل كلّ من كارين بوتس وليزلي براون بأنّ جميع المعارف مبنيّة اجتماعيّاً وسياسيّاً. [12] أمّا ديب روتمان وغيره، فيؤكّدون أنّ الباحثين يتصرّفون كمنتجين للمعرفة، ويتموضعون في بُنى اجتماعيّة معقّدة، لذا تؤثّر هويّاتهم ودوافعهم وأجنداتهم على الأسئلة والطرق التي يوظّفونها، وبالتالي الاستنتاجات التي يخرجون بها. بكلمات أخرى، إنّ إنتاج المعرفة ليس تمريناً أو تدريباً في الموضوعيّة؛ [13] ما أوردته ليندا سميث في قولها «بكلمات أخرى، البحث ليس بريئاً أو تمريناً أكاديميّاً، ولكنّه نشاط ذو مغزى يحدث ضمن شروط سياسيّة واجتماعيّة»،[14] ومن هنا يمكن فهم دعوة الباحثة إلى تحرير المناهج معرفيّاً في مؤلّفها المركزيّ.
هدف هذا الملخّص إلى تأكيد تأصّل الجانب السياسيّ في اختيار طرائق البحث؛ الاختيار ليس موضوعيّاً أو خاليّاً من هذه القيمة. بل يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من البناء السياسيّ والاجتماعيّ للباحث، أو ما يطلق عليه بموقعيّة الباحث (Positionality). لذلك، يقترح هذا التأطير التوجّه إلى طرائق البحث باعتبارها منتجات إبستمولوجيّة متأثّرة بالسياقات الاجتماعيّة والسياسيّة، ويحيلنا إلى التقاليد البحثيّة (Research Traditions) الأكاديميّة التي تقع على النقيض منها، المتأصّلة فيما يمكن تسميته بـ«إبستمولوجيا التنوير» وما تبلور عنها من المدرسة والفلسفة الوضعيّة.
في هذا السياق، تقول الباحثة سوزان ستريجا إنّ الفكر المتمركز غربيّاً مبنيّ على إبستمولوجيا التنوير، إذ تشكّل حقبة التنوير حقبة مركزيّة في الفكر الغربيّ وفيها تمأسست الحدود بين ما صُنّف على أنّه علم، وما وُسِم بمعرفة غير علميّة. وفي هذه الحقبة، تطابق مفهوما العلم والمعرفة في المعنى. وأنشأ هذا التمييز تسلسلاً هرميّاً اعتُبرت فيه المعرفة العلميّة متفوّقة على غيرها. انعكس ذلك في تأطير ما أسمته ستريجا بـ«الممرّ الوحيد والحقيقيّ للمعرفة»؛ تطبيق منهجيّة علميّة صارمة بواسطة ذات عقلانيّة حياديّة وموضوعيّة. وفق هذا البردايغم، تتحوّل المعرفة إلى معرفة خالية من التحيّزات. هذه المسافة التي يفترضها بردايغم إبستمولوجيا التنوير بين الباحث وموضوعه، تنزع الذات من براثن مشاعرها واهتماماتها وقيمها السياسيّة. تضحي بذلك شعارات مثل المعرفة لأجل المعرفة والمعرفة «البريئة» مقبولة، بل أساساً إبستمولوجيّاً للمدرسة والفلسفة الوضعيّة بشكل خاصّ، وإبستمولوجيا التنوير كتقليد بحثيّ بشكل عامّ. [15]
هذا التحوّل في الأنموذج المفاهيميّ والطرائقيّ الذي تدعو إليه هذه الدراسة، ضروريّ للكشف عن السياقات الاستعماريّة لبناء المعرفة وتوظيفاتها. تؤكّد الباحثة باجيلي تشيليسا أنّ براديغمات البحث الأورو-غربيّة تتجاهل دور الإمبرياليّة والاستعمار والعولمة في بناء المعرفة، ولذلك تبلورت هناك الحاجة إلى منهجيّات تمتاز بالحساسيّة السياسيّة للسياقات الاستعماريّة، ذلك لتجاوز حالة ووضعيّة الإقصاء المعرفيّ الناجمة عن طرائق البحث التقليديّة. [16] وتطرح كلّ من ليسلي براون وسوزان ستريجا، فكرة التهميش في العملية البحثيّة، بما تنطوي عليه من تحديد نوع من المعلومات التي تعدّ مقبولة وصالحة وحقيقيّة؛ المتولّدة عن أناس معينيّين وبطرق محدّدة، فإن لم تخضع لتلك المعايير فلا تعدّ معرفة. وبذلك برزت دعوة براون وستريجا إلى رفض التواطؤ في هذا التهميش المتمثّل بالاعتقاد بانفصال واهم بين الأيديولوجيا والمنهجيّة. [17] مع ذلك، يبرز السؤال التالي؛ كيف يمكن تفكيك الطرائق البحثيّة التقليديّة -بيت السيّد- بما تتضمّنه من تحيّزات متجذّرة في المركزيّة الأوروبيّة، علماً بأنّ المنهجّيات والطرائق الأورو-غربيّة لا زالت تصوغ فكرنا وممارساتنا البحثيّة. في سبيل الإجابة على هذا السؤال، يتناول العنوان التالي قراءة مقارنة ما بين النقد الداخليّ لدى مدرسة فرانكفورت، والتفكير بالوقوف على الحدود الذي ابتكره المفكّر والتر منيولو، ويبرز فيه ما اصطلح عليه بـ«النقد المزدوج» لعالم الاجتماع عبد الكبير الخطيبي نموذجاً.
النقد: ما بين الداخليّ والتفكير بالوقوف على الحدود
هنالك مجادلة بأنّ النظريّة النقديّة لمدرسة فرانكفورت تقف على التضادّ مع الأطر الفلسفيّة الصارمة، فمن الصعب تحديد شكلها المعرفيّ نظراً لما تمارسه من نقد دائم لفلاسفة وتقاليد فلسفيّة مختلفة. على سبيل المثال، يستكشف كتاب المخيّلة الديالكتيكيّة لمارتن جيه أعمالاً فكريّة متنوّعة لمنظّرين نقديّين في مدرسة فرانكفورت، تتراوح مواضيعها ما بين النظريّة الاجتماعيّة والتكهّنات الفلسفيّة والنقد الجماليّ والوصف التاريخيّ. كما يتناول اشتباك منظّري مدرسة فرانكفورت مع مجموعة منتقاة من الفلاسفة كهيجل وماركس وفرويد ونيتشه وفيبر وهوسرل وهايدجر. ترى الأكاديميّة سوزان بك-مورس بأنّ مصطلح «النظريّة النقديّة» مبهم وغير محدّد من حيث المضمون. إلّا أنّ الباحث روبرت أنطونيو يقول إنّه على الرغم من التنوّع الذي تشمله النظريّة النقديّة، فإنّها تمتلك وتجسّد جوهراً معترفاً به، فالجانب الرئيسيّ الذي يجدر ملاحظته أنّها ليست نظرية عامّة، بل تخدم كطريقة تحليل؛ ألا وهي النقد الداخليّ (Immanent Critique).[18 ]
نشأ مفهوم النقد الداخليّ في حقل الفلسفة، ويمكن تتبّعه تاريخيّاً لفكر هيغل، ومن ثمّ أخذ شكله في أعمال ماركس، ولاحقاً فصّلته الماركسيّة الغربيّة ومدرسة فرانكفورت. بناءً على هيغل، تقع الأسس النظرّية للنقد الداخليّ في فكرة الواقع الاجتماعيّ (Social Reality) أو الواقعيّة (Actuality). وكلاهما يرتبطان بالروح الكونيّة والمشبعة بالمبادئ العقلانيّة، والافتراض بأنّ معايير النقد الفلسفيّ يجب أن تكون متأصّلة في الواقع الاجتماعيّ من داخله. هذا يقود إلى تأطير النقد الداخليّ، فلكلّ فهم أو تصوّر ذاتيّ للمجتمع وممارساته المعرفيّة، توجد دائماً مقاييس معياريّة، والتي يمكن استخدامها لتقييم هذا الفهم الذاتيّ بوضعه تحت الفحص الداخليّ؛ بمعنى تحرّي أنماط المعرفة بناء على افتراضاتها الذاتيّة. وتصل الممارسة المتعلّقة بالنقد الداخليّ حدّ الوعي الذاتيّ، فمن خلال جعل قواعدها الخاصّة قابلة للتقييم تسمح هذه الممارسات للفاعلين بالتعرّف على تناقضاتها. يميط نهج هيغل في النقد الداخليّ اللثام عن عنصرين بالتزامن؛ الأوّل، الممارسات الاجتماعيّة التي تشكّل أسس الروح الموضوعيّة (Objective Spirit) إلى جانب المعرفة. أمّا الثاني، يتعلّق بأنظمة القواعد التي تبيّن ارتباط الممارسة والتزاماتها التي ستحقّق الوعي الذاتيّ. وفقاً لفلسفة هيغل، على النقد أن ينبع دائماً من الفهم الذاتيّ (Self-Understanding) القائم لأيّة ممارسة، ويعتمد على دقّة التصوّر الذاتيّ (Self-Perception)، وفقاً لمعاييره المعرفيّة. بل يسائل النقد الداخليّ الفهم الذاتيّ ويفحص إن كان مبرّراً بمعاييره الذاتيّة؛ وهذه العمليّة تقدّم بدورها احتماليّة ابتكار شكل داخليّ للنقد، التي قد تجعل من اختبار فهم المجتمع الذاتيّ لنفسه اختبارا مبنيّاً على معايير ذلك المجتمع. [19]
بصورة مماثلة، يؤكّد ماركس أنّ أسس النقد الاجتماعيّ يجب أن تُستقى من التقاليد الاجتماعيّة الداخليّة نفسها بدلاً من تطبيق معايير خارجيّة. ويؤسّس ماركس لنمط من النقد الاجتماعيّ الذي يعترف بالقواعد المتأصّلة والكامنة في الممارسات المجتمعيّة دون الاعتماد حصراً وبشكلٍ صارم على تقييم عقلانيّتها الداخليّة كما يفعل هيغل. عوضاً عن ذلك، يعتقد ماركس بأنّ النقد الاجتماعيّ له أن يكشف عن الصراع بين التصوّر الذاتيّ الفريد تاريخيّاً والمتصوّر ذي الطبيعة العالميّة، وبين مضامينهما المتحيّزة. يضع ماركس بذلك الأساس لنقد أكثر شموليّة يتجاوز الممارسات الحاليّة ويدعوها للانتقال إلى سلوكيّات اجتماعيّة مختلفة، أي أنّ النقد الاجتماعيّ الداخليّ هدفه الكشف عن التناقضات.
ولذلك، تكمن في فلسفة ماركس فكرة وجود التناقضات والصراعات في البنى الموضوعيّة المعياريّة للتقاليد الاجتماعيّة المادّية، وأنّ هذه الصراعات توفّر أساساً للنقد الداخليّ. من هنا، تختلف مقاربة ماركس للنقد الداخليّ كتفسير للالتزامات الضمنيّة المعياريّة عن تلك عند هيغل بشكل خاصّ، فرؤية ماركس للنقد الداخليّ كتفسير ليس للقواعد (Norms) التي ترتكز على شكل محدّد للمعرفة وتبريرها، بل لتلك التي تُذكّي التناقض الداخليّ لأنماط معيّنة من الممارسات الاجتماعيّة المادّية والملموسة. هذا التفسير يصبح نقداً، عندما يصوّر هذه القواعد ضمن انتمائها لبنيتها المعقّدة، فالنقد الفلسفيّ الأصيل للحالة القائمة لا يلقي الضوء على تناقضاتها فحسب، بل يفسّرها ويفهم أصولها وضروراتها. بناء على ذلك، فإنّ مقاربة ماركس للنقد الداخليّ لا تتطلّب مقارنة ما بين القواعد والواقع فحسب، بل فهماً لضرورة التفاوت والتباين بين تلك القواعد والواقع.
بناء على ما سبق، تقترح تقاليد مدرسة فرانكفورت أنّ النقد الداخليّ يفعل أكثر من الكشف عن الإمكانيّات الكامنة في فهمنا الذاتيّ. فالجدال يدور حول فهم طبيعة القواعد المشار إليها في النقد الاجتماعيّ الداخليّ المتأصّل، والذي يمكن أن يتحقّق فقط إذا ما فهمنا تمترس هذه القواعد اجتماعيّاً، بعيداً عن معتقدات الأفراد والإجماع المبنيّ على فهم المجتمع وتفسيره لذاته. هذا بدوره يوضح أنّ كلّاً من النظريّة الاجتماعيّة والنقد الاجتماعيّ مترابطان، ولا يمكن السعي وراء أحدهما دون الآخر. هذه الفكرة الأخيرة التي تُقيم بشكل أساسيّ نوعاً محدّداً من النقد، يمكن تطبيقها إذا ما توفّرت افتراضات محدّدة داخل النظريّة الاجتماعيّة. ومع ذلك، في تاريخ النظريّة النقديّة، دائماً ما رافقت هذه الافتراضات أطروحة قويّة؛ ألا وهي أنّ جدوى النقد لا تعتمد على متطلّبات مسبقة أساسيّة وموضوعيّة فحسب، بل أيضاً على تعريف الممكنات المعياريّة في المجتمع والتي يمكن من خلالها تبنّي وجهة نظر نقديّة. لذلك، فإنّ الافتراض القائم هو أنّ الممكنات المعياريّة مرتبطة بأجندة بحثيّة نقديّة ومميّزة. أي بكلمات أخرى، «لا تعتمد إمكانيّة النقد على شروط اجتماعيّة موضوعيّة مسبقة فحسب، بل على اكتشاف الممكنات المعياريّة في المجتمع، والذي سيكون ممكناً فقط بتبنّي وجهة نظر نقديّة». [20]
يفسّر الفيلسوف أكسل هونيث طريقة النقد في مدرسة فرانكفورت، فيقترح أنّ المنهجيّات الترميميّة (Reconstructive Methodologies) كالنقد الداخليّ تهدف إلى كشف المثل المعياريّة للمؤسّسات والممارسات المتأصّلة في الواقع الاجتماعيّ، والتي يمكن الاستفادة منها في نقد هذا الواقع. توظّف النظرّية النقديّة عقلانيّة قادرة على التحقّق من الشرعيّة المعياريّة للمُثُل الداخليّة، لذا، فالترميم المعياريّ يساهم في الكشف عن واكتشاف المثُل المعياريّة في المجتمع، والتي توفر المعيار لنقد مستحقّ كما تتجسّد في العقلانيّة الاجتماعيّة، فأيّ محاولة للنقد الداخليّ للمجتمع داخل حدود التحقّق العقلانيّ الاجتماعيّ يجب أن تتضمّن مشروعاً لبحث جينالوجيّ (Genealogical Research) يلقي الضوء على السياقات الحقيقيّة لتطبيقات النقد. [21] من هنا، فإنّ النقد الداخليّ كما هو عند هيغل وماركس ومدرسة فرانكفورت يعدّ استراتيجيّة تبدأ من ممارسات المجتمع الفعليّة، لكنّها لا تتوقّف عندها وعند إعادة إنتاج التزامات معياريّة على مستوى النظريّة. لذلك يعرّف النقد الداخليّ على أنّه «نقد يستمدّ معاييره التي يوظّفها من موضوع النقد، أي المجتمع، بدلاً من مقاربة المجتمع بمعايير مستقّلة عنه». [22]
من هنا، وبينما تمتدّ جذور النظريّة النقديّة لمدرسة فرانكفورت إلى التجارب التاريخيّة الحصريّة لأوروبا، والغرب عموماً، متجاهلة تاريخها الاستعماريّ والإمبرياليّ، فإنّ التفكير بالوقوف على الحدود متأصّل بعمق في الجرح الاستعماريّ وتجارب وتواريخ العوالم المستعمَرة. إذ يعالج تأثيرات الإمبرياليّة ويسعى إلى التحرّر من هيمنة الحداثة الغربيّة بالتزامن، ولذلك، كما المسيحيّة والليبراليّة والماركسيّة–أي الأيديولوجيّات الثلاثة للحضارة الغربيّة-فإنّ النظريّة النقديّة لمدرسة فرانكفورت، إلى جانب نظريّات نقديّة مهيمنة أخرى كالتفكيكيّة وتحليل النظام العالميّ (World-System Analysis) ونظريّات ما بعد الحداثة؛ عالقة في ذات الإطار الذي خلق العثرات الحضاريّة التي تسعى إلى حلّها، أي أنّ النقد أصبح جزءاً من المشكلة لا حلّاً لها، نظراً لتفاديه البحث في التاريخ الاستعماريّ خاصّته.
في هذا السياق، تبرز جيوسياسيّة المعرفة والتفكير بالوقوف على الحدود، كمفاهيم فعّالة لتجاوز النقد المتمركز غربيّاً للمركزيّة الأوروبيّة. فهذا النمط من النقد يؤكّد أنّ الموقع الإبستمولوجيّ للباحث يشكّل المعرفة، والملخّص في الكوجيتو الذي ابتكره المنظّر والتر منيولو «أنا حيثما أفكر»؛ والذي يركّز على جيوسياسيّة المعرفة المنحوتة ضمن الشرط الاستعماريّ. يقرّ هذا المبدأ الإبستمولوجيّ بجميع أشكال الفكر وينزع المصداقيّة عن الادّعاء بأنّ هناك إبستمولوجيا عالميّة واحدة مركزها الغرب. لذا فإنّ التفكير بالوقوف على الحدود تطوّر لمواجهة عدوانيّة الإبستمولوجيا الإمبرياليّة، وسرديّة الحداثة القائمة على إنقاذ العالم تحت الادّعاء القائل بدونيّة الآخر غير الغربيّ. يعترف هذا الفهم بأنّ الحدود ليست جغرافيّة فحسب، بل سياسيّة وذاتيّة وإبستيميّة، وأنّ مفهوم الحدود، يفترض وجود شعوب ولغات وأديان وأنماط مختلفة من المعرفة على جانبيها، تربطها بعضها ببعض بنى القوّة الاستعماريّة. بناء على ذلك، يظهر التفكير بالوقوف على الحدود بشكل أساسيّ، كنمط من أنماط مقاومة الشعوب للإبستمولوجيا الإمبرياليّة، وردّاً على الاختلاف الاستعماريّ بين جانبي الحدود (Colonial Difference). [23]
بناء على ما سبق، تستعرض الدراسة مفهوم التفكير بالوقوف على الحدود، من خلال طريقة «النقد المزدوج» للناقد المغربيّ عبد الكبير الخطيبي. حيث تسعى هذه المقاربة إلى تفكيك وهدم المعرفة والتصوّرات التي تدّعي احتكارها تمثيل العالم العربيّ بينما هي متمركزة غربيّاً في النشأة والمضمون، بالتزامن مع نقد المعرفة السوسيولوجيّة عن المجتمعات العربيّة المتولّدة ذاتيّاً في داخل العالم العربيّ وعنه. تقوم عمليّة التفكيك هذه على افتراض أساسيّ بأنّ الأفكار هي منتجات لسياقات تاريخيّة وأحداث ومنظورات خاصّة، على سبيل المثال، تزامن تطوّر العلوم الاجتماعيّة في الغرب مع الهيمنة الإمبرياليّة التي انعكست على توجّهات هذه العلوم، ولكنّها عزّزت في الوقت ذاته الادّعاء بأنّه لا وجود لأفكار ومعرفة علميّة خالية من المركزيّة الأوروبيّة.
يجادل الخطيبي بأنّ المعرفة العربيّة المعاصرة يتنازعها نموذجان؛ الأوّل، النموذج الغربيّ الذي يلقي بظلاله على العالم، ويعيد تشكيل الآخر من الداخل، ويخدم محو السياق الجيوسياسيّ لنشأته ومضامينه. ولذا، يعمل النقد المزدوج كنموذج ثانٍ على إعادة بناء وتجديد بنى العلوم الاجتماعيّة ومعرفتها من موقع جيوسياسيّ، إذ تقترح طريقة النقد المزدوج مقاربات بديلة للتحليل وتوجّهات معرفيّة مختلفة وجديدة. يتضمّن النقد المزدوج إزاحة عنيفة وحركة مزدوجة في سعيه لتحقيق أهدافه، أي باعتباره الاستراتيجيّة الوحيدة التي تسمح لعلماء الاجتماع العرب بتطوير شكل من المعرفة أقلّ اشتقاقاً من المعرفة الغربيّة واعتماداً عليها، وأكثر توافقاً مع واقعهم الفريد. وفقاً للخطيبي، جاء ابتكار هذه الطريقة من أجل منفعة ومن منظور ما اصطلح عليه بـ «العالم الثالث». إذ يجادل الخطيبي أنّ عملّية التحرّر لم تتمكّن إلى الآن، من بناء نظام معرفيّ وفكريّ يقوم بتحدّي ديناميكيّات الإمبرياليّة والمركزيّة الإثنيّة الغربيّة. وأنّ التحرّر الحقيقيّ يجب أن يشمل تفكيكاً شاملاً للخطابات التي تديم الهيمنة الإمبرياليّة بشكل ضمنيّ أو صريح. ويجادل أيضاً، أنّ التحرّر الذي نريد لا يقتصر على مواجهة السلطة الإمبرياليّة، بل يمتدّ إلى التأكيد على الذوات الفريدة للتغلّب على الانفصال الشكليّ ما بين واقع الاستعمار وواقع التحرّر، ولإعلاء صوت «المجتمعات الصامتة».[24] في القسم التالي نستكشف التفكير النقديّ بالوقوف على الحدود، تحديداً فيما يتعلّق بارتباط وتلازم الحداثة الغربيّة بحركة الاستعمار والإمبرياليّة، هذا الارتباط المغيّب في الفكر المتمركز أوروبيّاً.
نقد الحداثة بين نموذجين
برزت النظريّة النقديّة لمدرسة فرانكفورت كمساهم مهم في النقاشات التي تدور حول طبيعة ومسار وتأثير ما يعرف اليوم بالحداثة، مستمدّةً الإلهام من ماركس ونيتشه وماكس فيبر، فقد أبدت النظريّة النقديّة اهتماماً بالغاً بمصير الحداثة، إذ قدّمت نظريات موسّعة ومفصّلة حول مسارها. كما قيّمت النظريّة النقديّة الحداثة ونقدتها من خلال الإشارة إلى عيوبها وأمراضها وتأثيراتها المدمّرة. في الوقت ذاته، أكّدت على جوانب الحداثة التقدّمية، فالجيل الأوّل للنظريّة النقديّة اتّفق مع تصوّر ماركس حول الحداثة كمخرج من مخرجات التصنيع الرأسماليّ، وأنّ الاقتصاد السياسيّ والنمو الاقتصاديّ خدما كأسس لمسار الحداثة التاريخيّ.
مع ذلك، ومن البداية، أدمجت النظريّة النقديّة تقييم ماكس فيبر للحداثة باعتبارها عمليّة علمنة وعقلنة عزّزت أنماط جديدة من الفكر كالليبراليّة. كما قدّمت النظريّة النقديّة وجهات نظر نقديّة حول تدرّج مسار الحداثة الرأسماليّة والتحوّلات التي رافقت تطوّر النظام الرأسماليّ. توسّعت النظريّة النقديّة إلى تعريف الحداثة من خلال ديالكتيك التنوير، لتقديم رؤى جديدة في أصل ما اصطلح عليه أدورنو وهوركهايمر أزمة الحضارة الغربيّة والحداثة عقب الحرب العالميّة الثانيّة والهولوكوست. لذلك، خدم النقد الداخليّ للنظريّة النقديّة كنقد للحداثة من خلال الكشف عن التناقضات المتأصّلة فيها، وفشلها في تحقيق تطلّعاتها العالميّة من الحرّية والتقدّم والازدهار. بناءً على ذلك، تقترح هذه الدراسة أنّ صمت النظريّة النقديّة فيما يتعلق بتاريخ الاستعمار والإمبرياليّة ودورهما في تشكيل الحداثة الغربيّة، متولّد من طبيعة النقد وطرائقه الموظّفة في صياغة أنماطها الفكريّة النقديّة. [25]
على العكس من ذلك، يتّفق بعض الباحثين على أنّ الحداثة مرتبطة جوهريّاً بالحركة الاستعماريّة والإمبرياليّة الغربيّة؛ أنّ هذه الحركة هي الجانب المظلم للحداثة والذي يتحدّى الفكرة المتمركزة غربيّاً حول خلوّ الحداثة من العنف ومناصرتها السلام العالميّ. تشكّل هذه النماذج من التفكير بالوقوف على الحدود، وفي تفصيلها، نبدأ من سؤال حول موقع غير الأوروبيّين وغير الغربيّين في السرديّة الكبرى لحداثة ما بعد التنوير، يردّ الباحث فيليب لورانس بأنّهم يتموضعون في السرديّة الرسميّة للاستعمار، حيث اعتُبر الغزو العسكريّ ضرورة لنشر السلوك المتحضّر، فالحداثة تولّت زمام أوروبا والغرب، والآن تلقي بنور عقلانيّتها على «الأماكن المظلمة» في العالم. [26]
في سياق مشابه، يجادل نيلسون توريس بأنّ الحداثة ظاهرة غربيّة بلا شكّ، لكنّها تنشأ في علاقة جدليّة مع ما هو ليس غربيّ، فهي متّصلة بشكل جوهريّ مع واقع الاستعمار. أدّى هذا الاتصال بدوره إلى تطبيع الحرب، أي اعتبارها واقعاً طبيعيّاً، وما يتضمّنه ذلك من الإحالة إلى نبذ العلاقات السياسيّة والأخلاقيّة لصالح نشر الموت، الأمر الذي يحوّل المجازر وأنماطاً مختلفة من الإبادة إلى ظواهر طبيعيّة أيضاً. في علاقته مع الآخر، بني هذا التطبيع في الوجه الأكثر قتامة للحداثة الصلبة بحسب توريس، من خلال تصنيفات تعبّر عن العلاقة ما بين من انتخبوا كحالة طبيعيّة للنجاة والازدهار في الغرب، في مقابل الآخرين الذين يصنّفون في السرديّات المهيمنة للحداثة على أنّهم عاجزون إمّا ثقافيّاً أو بيولوجيّاً؛ أي هيكلة تراتبيّة بشريّة بناء على الداروينيّة الاجتماعيّة.
أطلق توريس على هذا النظام الإبستيميّ والاجتماعيّ «بردايغم الحرب»، الذي يحيل إلى طريقة في تصوّر الإنسانيّة والمعرفة والعلاقات الاجتماعيّة بشكل يعطي امتيازاً للصراع والحرب، والذي اعتُبر عام 1492 -عام غزو الأمريكيّتين- نقطة جوهريّة وحاسمة لفهمه. من هناك، ارتبطت الحداثة بشكل لا ينفصم بتجارب المحاربين والغزاة والاستعمار الحديث، فلا تعتبر الحرب استثناءً أو خروجاً عن حالة السلم والسلام التي تسوّقها الحداثة عن نفسها. بل تعتبر الحرب خاصّية مركزيّة للعوالم والحياة الحديثة، وتعتبر التجارب والتصوّرات والأفكار المشتقّة من فعل الغزو جزءاً تأسيسيّاً للحداثة، تعطي الغرب حسّاً عالياً بالمركزيّة. بذلك، يخرج توريس بنتيجة مفادها أنّ الحداثة والكولونياليّة أنتجتا حالة دائمة من الحرب، لم يكن بإمكان المستعمَرين تفاديها أو الهروب منها. في الوقت ذاته تحوّلت فيه المستعمَرات، والتي سبقت مخيّمات الإبادة النازيّة، «إلى أرضيّة فاحصة لحدود واحتماليّات الحداثة وكاشفة عن أسرارها السوداء»، على حد تعبير توريس، مضيفاً بأنّ «العلم، الاستعمار، المركزيّة الأوروبيّة، وظهور نظرة جديدة للعالم، كلّ ذلك يتّصل جوهريّاً بلحظة الاكتشاف والغزو». [27]
من المنطلق ذاته، تجادل الباحثة ماكي كيمورا أنّ التحليل الاجتماعيّ للعلاقة بين الحداثة من جهة، والحرب والعنف من جهة أخرى، لا يرتقي للمستوى المطلوب، على الرغم من اجتياح العنف والحروب للأزمنة الحديثة. وتجادل بأنّ الهولوكوست فتحت النقاش حول الحداثة والعنف. تعزو كيمورا الأمر إلى تقاليد التنوير والحداثة التي سعت إلى بناء مجتمعات خالية من العنف، من خلال حركة التاريخ الذي سيجلب التقدّم، والذي بدوره سيحرّك المجتمعات بعيداً عن العنف البربريّ الذي لا يمتّ لهذه التقاليد بصلة، مفترضةً أنّ العقل والعقلانيّة الإنسانيّة التي بشّرت بها تقاليد الحداثة ستمنع البشر من ارتكاب العنف. بذلك، أُطّرت الحداثة وفقاً لكيمورا باعتبارها العقلانيّة الكونيّة والنمو الاقتصاديّ والتطوّر العلمي والسلام، بعيداً عن الجانب المظلم فيها أي العنف والحرب، اللذان اعتُبرا عند تبريرهما انحرافاً عن الحداثة ونكوصاً إلى البربريّة، على الرغم من أنّ تشكيل المجتمعات الحديثة لازمها اضطهاد المجتمعات المستعمَرة. بينما عرضت الحرّية والمساواة على أنّها أنموذج القيمة الغربيّة، كانت الدول الغربيّة تمارس الاضطهاد والاستعمار على شعوب العالم، سالبة إيّاهم الحرّية والمساواة. [28]
ولا تختلف فيفيان جابري عن ذلك في أطروحتها حول العلاقة ما بين الحداثة والحرب، إذ اعتبرت الحرب ملازمةً للمجتمع الحديث، وجادلت أنّه لا يمكن فهم مشروع الحداثة الغربيّ دون تأمّل في اللحظة التأسيسيّة لهذا المشروع، أيّ الاستعمار وتداعياته. فالعقلانيّة، سمة مشروع الحداثة الغربيّة، ارتبطت تاريخيّاً بالإخضاع العنيف لما هو غير غربيّ، وأخذت على عاتقها تبرير التدخّلات الاستعماريّة تحت مسمّى الإنسانيّة، كما هو الحال في الحرب الأمريكيّة على العراق. من هنا تخرج جابري بنتيجة مفادها أنّ التعبير عمّا هو عقلانيّ وديمقراطيّ وحديث في مشروع الحداثة الغربيّ، ما هو إلّا تاريخ الحرب والعنف والغزو للآخر غير الغربيّ. [29]
وهو ما يؤكد عليه فيليب لورانس بقوله إنّ «العلاقة بين الحرب والحداثة ليست علاقة عرضيّة، بل أساسيّة… الحرب موضوع معتمد للحياة الحديثة، ففي العصر الحديث، الحرب رديفة للغرب». بناء عليه، كان الاستعمار والغزو الحديثين رأس الحربة لبقاء الممارسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة للحداثة الغربيّة على مستوى العالم. ولم تُبدِ عقيدة الحداثة أيّ ندم تجاه أشكال الحياة التي دمّرتها، فتعميم الحداثة اتّسم بالدمار والألم في المجتمعات غير الغربيّة، وجاء من منطلق أنّ الحداثة لديها من التفوّق ما يسمح لها بهذا الغزو، مبرّرةً الفعل بأنّه سيجلب في نهاية المطاف مستقبلاً أفضل قائماً على حمل منارة العقل والعقلانيّة رغم ويلاته. [30] كما قدّم والتر منيولو صيغةً أخرى لذات المضمون بقوله إنّ الكولونياليّة الغربيّة بما تشمله من أنظمة اجتماعيّة وإبستيمولوجيّة وسياسيّة مهيمنة تعتبر تأسيسيّة للحداثة، فلا توجد حداثة دون الكولونياليّة والمشروع الاستعماريّ الغربيّ في تماسّه مع الآخر غير الغربيّ. [31] وعلى ذات المنوال، يناقش الباحث صامويل مويلر أنّه بينما تعتبر العقلانيّة من القواعد التأسيسيّة للحداثة، التي ادّعت بناء عالم تستبدل فيه الهيمنة والقوّة بالحوار، يدلّ وجهها الآخر على عكس ذلك، إذ فتحت الحداثة الغربيّة الأبواب أمام تعليم الغرب تدمير الحياة البشريّة بدقّة لا متناهية وتعقيد غير مسبوق، وذلك تمييز لها عن الحقب الإنسانيّة السابقة. [32]
عبّر الباحث عبد الحق منصف عن هذا التلازم ما بين الحداثة والحرب الاستعماريّة قائلاً إنّ «الموضوع الفعليّ المتخفّي وراء ثيمة السلم العالميّ هو الحرب والعنف، التفكير بالسلم هو أحد نتائج التفكير بالحرب». ويضيف منصف أنّ الحقبة الحداثيّة هي حقبة حربيّة بامتياز، فهي إحدى ممكنات الدولة؛ ليس أنّها قد تتحقّق أو لا تتحقّق، إنّما هي أحد حتميّات الدولة الحديثة، خاصّة عندما حلّت الدولة محلّ الإله. إلى جانب اعتبار الحرب أحد أسس نشأة الدولة الحديثة، ومقوّمات كيانها الاجتماعيّ والتاريخيّ، فإنّها المنطق والأساس الذي تستند عليه الدولة الحديثة. ويخلص الباحث إلى أنّ المشروع الحداثيّ الغربيّ كرّس المنطقين معاً؛ السلام المدنيّ والحرب، فمن ناحية اختار الغرب السلام الداخليّ والتنظيم الديمقراطيّ للحياة العموميّة، ومن ناحية أخرى، كرّس منطق الحرب تّجاه الآخر منذ القرن السابع عشر، والذي تجلّى على شكل حروب استعماريّة واختراق للثقافات الأصلانيّة للشعوب غير الغربيّة وصولا حدّ الإبادة. [33]
ينقلنا هذا الاستطراد إلى النموذجين الذين قدّمهما الفيلسوف الأرجنتينيّ-المكسيكيّ إنريكي دوسيل لفهم الحداثة الغربيّة؛ الأوّل متمركز غربيّاً والثاني عالميّ. ينظر النموذج الأوّل إلى الحداثة بصفتها ظاهرة غربيّة حصراً، تطوّرت منذ العصور الوسطى وانتشرت لاحقاً في العالم. وبناءً على هذا النموذج، امتلكت الذات الغربيّة الحديثة خصائص داخليّة استثنائيّة مكّنتها من تجاوز الثقافات الأخرى. كما أنّها تطوّرت مكانيّاً وزمانيّاً في الغرب؛ من النهضة في إيطاليا، مروراً بإصلاحات ألمانيا والتنوير، وصولاً إلى فرنسا والثورة الفرنسيّة، وبذلك أصبحت الحداثة تجسيداً لكلّ تلك الأحداث الأوروبيّة حصراً. أمّا النموذج الثاني لفهم الحداثة، اعتبر بدايةً أنّ التحقيب الزمنيّ لنموذج الحداثة الأوّل المتمركز غربيّاً مشوّه تاريخيّاً، ويشكّل تقسيماً زائفا للتاريخ. حيث بدأ بهذا التشويه أمثال مونتيسكو، ومفكّري عصر التنوير في إنجلترا، وكانط في ألمانيا، وليس انتهاءً بهيجل، والذي عبّر عن الحداثة باعتبارها انتقال الروح باتّجاه الغرب في خطّ ومسار نحو الحرّية والحضارة. فقد اختار أوروبا باعتبارها المعنى النهائيّ للتاريخ الكونيّ، في مقابل الشرق الذي يمرّ بمرحلة الطفولة ويعبّر عن أنموذج الاستبداد وسلب الحرّية.
على الرغم من إقرار دوسيل بأنّ الحداثة ظاهرة غربيّة، إلّا أنّها بحسبه ليست مستقلّة بذاتها، ليست ذاتيّة المنشأ والمرجعيّة، فقد نشأت وتمأسست في علاقة جدليّة مع غير الأوروبيّ. ذلك على النقيض ممّا قدّمه هيجل وهابرماس من الاكتفاء الذاتيّ عند أوروبا في تعريف نفسها ومشروعها دون حاجتها للآخر. في ذلك اعتبار الروح الأوروبيّة على أنّها الحقيقة المطلقة التي تحدّد نفسها بنفسها دون الحاجة للآخر. فليس لدى أوروبا المسيحيّة الحديثة ما تتعلّمه من العوالم والثقافات الأخرى، هي تملك مبادئها في نفسها، متحقّقة بذاتها ولذاتها. ومن الجهة الأخرى، تجد الأحداث المؤسّسة لمبدأ الذاتيّة الحديثة في الإصلاحات والتنوير والثورة الفرنسيّة.
حدّد دوسيل نقطة انطلاق الحداثة وولادتها بالعام 1492، حين تحوّلت الإمبراطوريّة الإسبانيّة إلى أوّل دولة حديثة مركزيّة بالنسبة للهامش؛ الأمريكيّتين. ظهرت الحداثة عندما قدّمت أوروبا نفسها على أنّها مركز العالم وتاريخه، في الوقت الذي دشّنت «الهامش» الذي يحيط بهذا المركز. والغزو والاستعمار هو جزء أساسيّ لمأسسة الأنا والذاتيّة الغربيّة الحديثة، ذاتيّة تنظر إلى نفسها على أنّها المركز ونهاية التاريخ. اعتبر دوسيل أنّ مركزيّة أوروبّا في النظام العالميّ حديث الولادة، والذي حلّ محلّ النظام العالميّ الذي كان مركزه في بغداد قديماً في القرن الثالث عشر، أعطتها أفضليّة للتفوّق على العالم العربيّ والهند والصين. هذه المركزيّة إذاً ليست ثمرة خصائص تفوّق أوروبا الذاتيّ والمتراكم خلال العصور الوسطى، إنّما ثمرة الغزو والاستعمار؛ فتاريخ الحداثة هو تاريخ الهيمنة على العالم.
ورافق صعود نجم الحداثة الغربيّة التي وسمت نفسها بالعقلانيّة والانعتاق والسلم، نشأة العنف تّجاه غير الأوروبيّين. حيث قامت أوروبا بعقلنة عنفها باعتباره عملاً تحضيريّاً، وحوّلت عذابات ومعاناة المستعمَرين إلى تضحية ضروريّة وثمن لا بدّ منه في سبيل إنقاذ الأرواح من البربريّة التي يعيشون فيها. طبّق الغرب هذا المنطق منذ غزو الأمريكيّتين وصولاً إلى حرب الخليج الأولى، وفقاً لدوسيل، فيقول إنّ «أسطورة الحداثة دائماً ما تشرعن عنفها على أنّه ضرورة حضاريّة سواءً أكان ذلك عند نشرها للمسيحيّة في القرن السادس عشر أو الديمقراطيّة والسوق الحرّ في القرن العشرين». [34] ويعلّق المفكِّر وائل حلّاق على أطروحة دوسيل بقوله «أكّد الفيلسوف إنريكي دوسيل أنّ الذات الغازية شرط لتحقّق الذات المدركِة، أي ‘أنا أغزو إذا أنا موجود’…تعدّ هذه الفكرة أسلوب حياة ميّز تلك الذات التي تنظر إلى نفسها بوصفها مركز العالم الذي غزته بالفعل. يتوسّط هذا الأساس مبدأ الذات المبيدة ‘أنا أبيد إذًا أنا موجود». [35]
في هذا السياق، يكتب الباحث جوليان ريد عن الردّ الغربيّ على هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، حين أعلنت الولايات المتّحدة الأمريكيّة وحليفاتها من الأنظمة الليبراليّة شكلاً جديداً من أشكال الحرب؛ الحرب على الإرهاب. يصف ريد هذه الحرب بأنّها غير مسبوقة في سعتها وكثافتها؛ إذ أعلنت الحرب على عدوّ وصفه الرئيس الأمريكيّ السابق جورج بوش الابن بأنّه يفتقر للجيوش النظاميّة والقدرات الصناعيّة العظيمة، وليست لديه أمّة أو مواطنين للدفاع عنه. ألزم هذا الأنظمة الليبراليّة بحرب دون نهاية زمانيّة أو مكانيّة أو سياسيّة لها، تتطلّب تعبئة دائمة ضدّ عدوّ يقال إنّه يتحرّك بطرق غير متوقّعة ويضرب مرّات عديدة بشكل غير متوقّع.
كلّ ذلك يقع على النقيض ممّا قدّمته الحداثة الليبراليّة من وعود بقدرتها على إنشاء مجتمعات متحرّرة من شرطيّة الحرب وتصبو نحو السلام. من التصوّر الهوبزيّ للمجتمع المتحرّر من شرطيّة الحرب من خلال الدولة ذات السيّادة، مروراً بالتصوّر الكانطيّ للمجتمعات التي ستتغلّب على الحرب بشكل تدريجيّ من خلال المؤسّسات والممارسات الليبراليّة. وعدت الحداثة بتحقيق السلام الأبديّ من خلال جعل الحرب من الماضي، وتحويل كلّ ما هو حديث وعقلانيّ بالكامل إلى أسس للسلام الدائم؛ التقدّم في مواجهة الرجعيّة، الحضارة في مواجهة البربريّة، والنظام المدنيّ للدولة الحديثة ضدّ فوضى النظام الطبيعيّ. هذا التمييز بين ما يمكن له أن يؤسّس وما لا يؤسّس لحياة تتّسم بالقيمة، وجد أصوله في التحضير الدائم للمجتمعات الحداثيّة لخوض الحرب ضدّ ما تعتبره جيوباً متبقّية مناهضة للحداثة، وإفرازات هامشيّة مرضيّة للنظام العالميّ، هزيمتها تحقّق مصلحة الإنسانيّة. يؤكّد أحد الباحثين أنّ الحداثة الليبراليّة، اعتبرت الحروب والصراعات العنيفة منتمية إلى حقبة ما قبل التاريخ الإنسانيّ المتحضّر، التي إذا ما اندلعت في عصر الحداثة تكون تعبيراً ودلالة على انحدار وانتكاسة أصابت الحداثة. فالافتراض بأنّ الحداثة تعبّر عن السلام، خاصّة وأنّ الانتقال إلى الطرق السلميّة في التعامل مع الصراعات في المجتمعات، اعتبر جانباً أساسيّاً في تعريف المجتمعات الحداثيّة.
ولكن وفقاً للتاريخ، أصبح تعريف الحداثة الليبراليّة باعتبارها جسداً من الفكر والممارسة المخصّصة لتحقيق السلام من خلال نشر مبادئ الجمهوريّة والديمقراطيّة والليبراليّة والسوق الرأسماليّة موضع شكّ، خاصّة عند تناول علاقة المجتمعات الليبراليّة الحداثيّة بالإمبرياليّة، والاستخدامات المتعدّدة للحرب. سقطت فكرة الحداثة دون عنف وحرب، بل استمرّت الحداثة في إنتاجها. شكّل هذا أساساً لفهم العلاقة الناظمة بين الدول الحداثيّة الليبراليّة وغيرها من الدول والمجتمعات، حيث الحرب هي الموجّه لهذه العلاقة، وما نشْر وتطوير المؤسسات والممارسات الليبراليّة على النطاق الدوليّ إلّا استراتيجيّة غربيّة إمبرياليّة للهيمنة والتحكّم والسيطرة، يغدو فيها السلام الديمقراطيّ في نهاية المطاف سلاماً إمبرياليًّا. [36]
لعلّ ما قدّمه زيجمونت باومان في مؤلّفه الحداثة والهولوكوست هو أبرز المساهمات التي تتناول علاقة الحداثة بالعنف والتنظيم البيروقراطيّ للدولة والتوجّهات العلميّة. حيث يحاول باومان استيعاب دروس الهولوكوست في التيّار الرئيسيّ لنظريّة الحداثة، من خلال نقد التيّار الرئيسيّ لعلم الاجتماع التقليديّ والذي رأى في الهولوكوست فشلاً للحضارة الغربيّة وليس نتيجة لها. حيث يشير باومان إلى أنّ الهولوكوست أكثر من انحراف لمسار الحداثة الغربيّة وتدفّق لا عقلانيّ للبربريّة ما قبل الحديثة التي تعذّر استئصالها، بل هي تعبير عن الوجه الآخر للمجتمع الحديث. فيوضّح باومان أنّ العصر الحديث قام على الإبادة التي تكلّلت بالإبادة النازيّة، والتي مارسها أناس متحضرّون لا وحوشاً وبرابرة وفق المعايير الغربيّة. يلخّص باومان الأمر بقوله «إنّ الهولوكوست أكبر من مجرّد شذوذ، وأكبر من مجرّد انحراف عن الطريق المستقيم للتقدّم، وأكبر من مجرّد ورم سرطانيّ في الجسم السليم للمجتمع الغربيّ المتحضّر. إنّ الهولوكوست ليست نقيضاً للحضارة الغربيّة، وكلّ ما يرمز إليها، بل استطاعت الهولوكوست أن تكشف وجهاً جديداً للمجتمع الحديث الذي يروقنا وجهه المألوف…ونخشى أن يكون الوجهين ملتصقين على أكمل وجه بالجسد نفسه. ولعلّ أشدّ ما نخشاه هو أنّ أحد الوجهين لا يستطيع أن يكون دون الآخر».
وللتأسيس للعلاقة بين العنف والحداثة، يكشف باومان عن الآلهة الجديدة للحداثة من العقلانيّة والعلم والتقدّم والدولة القوميّة كشروط تواطؤ ومأسسة للحداثة على العنف. حيث يتحوّل فيها ومن خلالها القتل من العفويّة والعاطفة إلى التصميم العقلانيّ المدروس والمحسوب بدقّة، مع غياب تامّ للصدفة. وبذلك جاءت الهولوكوست نتيجة التعاون ما بين أجهزة العلم وبيروقراطيّة الدولة النازيّة لتحقيق المجتمع المثاليّ المأمول، من خلال توظيف الإبادة كآليّة للهندسة الاجتماعيّة.
ما سهّل وساهم في بلورة هذا النمط من الإبادة القائم على العقلانيّة عموماً، وعقلانيّة الجهاز البيروقراطيّ والحسابات الدقيقة من جهة أخرى، هي إحدى سمات الحداثة الصلبة ألا وهي التجريد، أي طمس الوجه لصالح الانتماء لفئة معينة، فالتشريع الألمانيّ والبروباغاندا وظّفت جميعها للتفرقة بين اليهوديّ المجرّد واليهوديّ العينيّ المعروف لدى الألمان. أعطت التصنيفات المجرّدة للإبادة شكل بناء النظام، حيث يمارس فيها الفاعلون القتل المشروع، في ذات الوقت الذي يقدَّم فيه الممارسون على أنّهم مجرّدون من غرائز القتل والفساد الأخلاقيّ والتحامل على الآخرين الذين خضعوا للتجريد والتصنيف، ممّا جعل القتل والإبادة أكثر أخلاقيّة وفاعليّة وإتقاناً حيث اتّسم الممارسون بالتفاني الصارم. [37]
يقوم نهج التفكير من على الحدود بإنشاء صلة ما بين الهولوكوست والتاريخ الاستعماريّ للغرب. على سبيل المثال، يشير فيليب لورانس إلى استغلال المستعمرات كمختبرات للعنف الاستعماريّ الغربيّ، فيقول: إنّ «واقع الحداثة كحاصدة للأرواح اعتبر أمراً خفيّاً بالنسبة لعقيدة التنوير، لأنّ الضحايا كانوا في أراض بعيدة تعتبر غريبة، ممّا جعل ضحايا العنف والحروب الاستعماريّة بشراً غير حقيقيّين، فموت غير الغربيّ لم يحمّل أيّ تبعات أخلاقيّة… وكلّ ذلك لم يخترق تصوّر الغرب عن نفسه باعتباره مسالماً وتقدّميّاً، فضحايا العنف لم يكونوا بيضاً أو مسيحيّين… كما أنّ أدوات الحرب الجديدة للحداثة وجدت تجربتها الأولى في الحملات الاستعماريّة خارج الغرب». [38] والتي شكّلت مخزون «الهولوكوست» من التبريرات الأخلاقيّة وأسلحتها المهندسة بدقّة.
في حديثه عن الحداثة والإبادة، يوضّح ديرك موزيز أنّ نسيان وطمس الجذور غير الأوروبّية للحداثة، التي أصابها العمى تّجاه الآخر غير الأوروبّي، قد أفضى إلى اعتبار الذاتيّة الغربّية نتاج تطوّر حصريّ للنهضة والإصلاحات والتنوير والثورة الفرنسيّةّ. بناءً على ذلك، قدّمت الفلسفة التاريخيّة الغربيّة تبريراً للأوروبّيين لممارسة العنف ضدّ غير الأوروبيّ، لأنّ سرديّة الحداثة الكبرى قسّمت العالم بين حدود الحداثة-التقليد، الحضارة-الهمجيّة، العلم-السحر، الدولة والأمّة-الفضاءات غير الدولانيّة. باختصار، يتأصّل منطق الحداثة في الحركة الاستعماريّة، ويُرجع موزيز بذلك تجربة الإبادة النازيّة إلى أصولها في التجربة الاستعماريّة خارج أوروبّا. حيث تعلّمت القوى الأوروبيّة في المستعمرات ممارسات الإبادة والإقصاء العنصريّ، ومارست ما ادّعت أنّه حقّها في تقرير مصير الشعوب المستعمَرة، وبذلك أخذ السلام في الحداثة الغربية وجه حربٍ لا نهاية لها تّجاه الآخر. [39]
يقول المسيري إنّ «الهولوكوست أوّل مذبحة تقوم بها الإمبرياليّة الغربيّة داخل أوروبا وضدّ أوروبيّين وعلى أرض الحضارة الغربيّة، في مقابل الإبادات الاستعماريّة التي ارتكبت بعيدًا عن أوروبا في آسيا وإفريقيا والأمريكيّتين… والتي تحوّل فيها الضحايا من ذوي البشرة الداكنة إلى ذوي البشرة البيضاء». اعتبر المسيري أنّ اللحظة النازيّة لحظة نموذجيّة كشف فيها المشروع المعرفيّ والحضاريّ الغربيّ الحداثيّ عن وجهه القبيح. فهي استمرار للإطار العقائديّ القائم على نظريّات التفاوت العرقيّ والداروينيّة الاجتماعيّة التي وجدت ممارستها في التشكيل الاستعماريّ قبل اللحظة النازيّة. وبموضعة اللحظة النازيّة في إطار عملّيات الإبادة الممنهجة التي ارتكبها الإنسان الأبيض خارج الغرب، ستظهر على أنّها «ظاهرة متواترة وأنّ فرادتها تنبع من درجة تبلورها فحسب، فهي لحظة عبّر فيها النموذج المعرفيّ الإمبرياليّ الغربيّ عن نفسه بدرجة حادّة»، وفقاً للمسيري. [40] وبالالتفات للمسيري، نختم هذه الورقة البحثيّة بفحص تفاعل العالم العربيّ والإسلاميّ مع الحداثة، من خلال أطروحات نقديّة لعدد من الباحثين والمفكّرين.
في معرض تقديمها لترجمة كتاب باومان، الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين، تقول الباحثة هبة رؤوف عزّت أنّ الحداثة التي أتت للتبشير بعالمٍ أفضل تقوده العقلانيّة والعلم، هي ذاتها التي تشكّل رافعة الاحتلال والهيمنة على الآخر، [41] بمعنى أنّ وجهي الحداثة الصلبة لا ينفصمان.
وفي معرض حديثه عن شموليّة مشروع الحداثة، يقول المفكر وائل حلّاق إنّه «لم يستشِرنا ولم يسألنا أحد عمّا إذا كنّا راغبين في ذلك التحوّل الكلّي. فواقع الأمر هو أنّ كلّ ذلك قد فرض علينا فرضاً من خلال الكولونياليّة، لاسيّما في القرن التاسع عشر، وأنّنا الآن نسينا ذلك الفرض الذي تمّ في الماضي. لقد تمّ تطبيع ذلك الفرض، وبتنا لا نفكّر فيه بوصفه فرضاً بعد أن صرنا حداثيّين. بيْد أنّ المأساة لا تقتصر فقط على هذا الفرض، ولذلك، على الرغم من قسوة التجربة والآلام التي ارتبطت بها، فمأساة واقعنا الحاليّ الحقيقيّة تتمثّل في قبولنا لكلّ هذا على أنّه أمرٌ مفروغ منه دون أن نعي ما طرأ علينا فعلاً». [42]
وحول ارتباط الحداثة الغربيّة بنشوء الدولة الوطنيّة، يؤكد الباحث عبد الرحيم البصريّ أنّ الغرب من البدايات سعى إلى تصدير النزعات الحداثيّة إلى الشعوب الأخرى، وهذا التصدير أخذ شكل غزو هذه الشعوب تحت مسمّيات حقوق الإنسان والديمقراطيّة، وخير دليل على ذلك غزو العراق وأفغانستان. [43]
هذا الفهم الذي قدّموه عزّت وحلّاق والبصري، لم يتبلور بصيغته هذه في الفكر العربيّ عموماً عند تماسه الأوّليّ مع الغرب، بل أخذ منحى فحص التجربة بأعينٍ فيها من اللهفة-النكوص ما يحدّد طبيعة التلاقي الغربيّ-العربيّ. إذ يقول الباحث عبد الحليم مهورباشة أنّه منذ ما اصطلح عليه عربيّاً بالنهضة العربيّة في نهايات القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، سعى العقل العربيّ إلى التعرّف على العقل الغربيّ وتفكيك مقولاته مستعيناً بوسائل معرفيّة وأدوات منهجيّة شتّى بغرض هضمها واستيعابها وتجاوزها، ولتحقيق غاية الولوج إلى الأزمنة الحداثيّة على صيغة ونمط المجتمعات الغربيّة. فيوضّح الباحث أنّ هذا التماس المعرفيّ تمّ من خلال عمليّات قسريّة عنيفة وناعمة في ذات الوقت؛ فقيم الحداثة الغربيّة بلورت تحدّياً مهمّاً أمام المنظومات القيميّة الحضاريّة المختلفة عنها بما فيها العربيّة، ولم يترك هذا التحدّي حرّية الاختيار، بل أجبرت الحداثة الآخر على التساوق والاندماج في رؤيتها.
سمّى المفكّر محمد سبيلا إجبار الآخر على التساوق والاندماج في الحداثة الغربيّة بصدمة الحداثة. حيث يناقش سبيلا أنّ المجتمعات الغربيّة الصناعيّة الحداثيّة حقّقت مستوى عالياً من التطوّر دفعها إلى غزو وترويض المجتمعات الأخرى، وواكب هذا الغزو التبشير بالحداثة الغربيّة، إلّا أنّه كان تبشيراً عنيفاً، فالمجتمعات التي لم تكن مهد الحداثة ولم تعانِ من مخاضها المباشر، تعرّضت لخلخلة قويّة وعنيفة على جميع المستويات. أُقحمت الحداثة باعتبارها حركة عاصفة بالمجتمعات التقليديّة ووضعتها في وضع حرج. في الوقت الذي تبلورت فيه حركة الحداثة في المجتمعات الغربيّة بفعل ديناميّة داخليّة على حدّ تعبير سبيلا كما ما فنّدنا سابقاً، إلّا أنّها سارت وفق ديناميّة خارجيّة في المجتمعات غير الغربيّة؛ ديناميّة الصدمة التوسّعيّة الاستعماريّة، إذ اعتبر الاستعمار قوّة تحديثيّة في تلك المجتمعات.
نتيجة لذلك، تولّدت ردود ومقاومة عنيفة لمواجهة الصدمة، تلخّصت عند سبيلا في تبلور ثنائيّة تتّسم بالعنف المعرفيّ، والتي تتراوح ما بين استلهام الماضي ودعم الهويّة من جهة، والاحتذاء بالنموذج الغربيّ من جهة أخرى. وهذا ما عبّر عنه الباحث مهورباشة وأوجزه بأنماط الوعي العربيّ بالحداثة الغربيّة، إذ قسّمها إلى ثلاثة أنماط تستمدّ منها تيّارات الفكر العربيّ وجودها. الأوّل، نمط يدعو إلى تبنّي النموذج الغربيّ بوصفه نموذج العصر، والتسليم بما يحمله من مضامين وتوجّهات حتّى إن اختلفت مع القيم الحضاريّة العربيّة. أمّا النمط الثاني، فيحمل توجّهاً سلفيّاً يدعو إلى استعادة وضعيّة ما قبل الانحطاط والانحراف للنموذج العربيّ والإسلاميّ، لمواجهة النموذج الغربيّ بكلّيته. أمّا الثالث والأخير، فيدعو إلى المزاوجة ما بين النموذجين؛ الغربيّ والعربيّ، من خلال الجمع بين أفضل ما فيهما بهدف التوفيق بينهما في صيغة واحدة تتوافر فيها عناصر الأصالة والمعاصرة معاً. ولعلّ أبرز الأمثلة على التيّار الثالث فكر رفاعة الطهطاوي، إذ يشير أدونيس أنّ خلاصة أفكار الطهطاوي «تؤكّد عدم التعارض بين الموروث العربيّ والمدنيّة الحديثة، فهو يوفّق بين الدين والحضارة. وجميع ما كتبه بهذا الصدد محاولة للإجابة عن هذا السؤال: كيف يمكن للمسلم أن يتبنّى حضارة العالم الأوروبيّ الحديث دون أن يتخلّى عن دينه؟». [44]
إلّا أنّه هناك من المفكّرين من تنبّه للوجه الآخر للحداثة الغربيّة وقدّم نقداً ونقضاً معرفيّاً لمواجهتها في السياق العربيّ. منهم على سبيل المثال لا الحصر عبد الوهاب المسيري، ومحمد عابد الجابري وفتحي التريكي. بداية، يوجّه المسيري نقداً للمفكّرين الإصلاحييّن الأوائل من العرب، الذين لم يربطوا بين الحداثة والإمبرياليّة الغربيّة، قائلاً إنّهم حين ذهبوا إلى العواصم الغربيّة لم يروا سوى النور والاستنارة، في الوقت الذي وجّهت فيه الإمبرياليّة الغربيّة ضربات مدافعها تّجاه بلادنا، والتي استشعرها من بقوا في بلادهم في آسيا وإفريقيا فقد «رأوا ألسنة النيران مندلعة، وسمعوا قعقعة القنابل، وشمّوا رائحة البارود». كما نظر المسيري إلى أنّ ما سمّي بعصر الاكتشافات الجغرافيّة ما هو إلاّ عصر بدأت فيه إبادة الملايين من البشر. من هذا المنطلق، اعتبر المسيري أيّ حديث عن النموذج المعرفيّ والحضاريّ الغربيّ لا يأخذ بالحسبان ظاهرة الإمبرياليّة هو تحيّز معرفيّ وخلل تحليليّ جوهريّ. وطالب المسيري باستعادة الإمبرياليّة كمقولة تحليليّة أساسيّة في دراسة الحداثة والمجتمعات الغربيّة، حيث أنّ نجاح النموذج الحضاريّ الغربيّ يعود إلى الإمبرياليّة بشكل أساسيّ.
ساهمت هذه القاعدة المعرفيّة التي انطلق منها المسيري في بلورة تشخيصه لواقع الحداثة الغربيّة باعتبارها منظومة إمبرياليّة داروينيّة، ينظر فيها العالم الغربيّ إلى نفسه على أنّه مركز العالم، ويحوّل ما دونه إلى مادة استعماليّة يوظّفها لصالحه من موقع القوّة، تحت مبرّرات وشعارات عبء الرجل الأبيض ورسالته الحضاريّة الناظمة لثنائيّة «الأنا والآخر». نتيجة لذلك، ربط المسيري الرخاء والرفاهيّة في العالم الغربيّ بعمليّة النهب الإمبرياليّة الغربيّة الكبرى التي لا مثيل لها في التاريخ. حيث عزا الثورة الصناعيّة التي تعتبر إحدى تجلّيات الحداثة الغربيّة إلى عمليّة النهب تلك، إذ أنّ مجموع ما نهبته الإمبراطوريّة البريطانيّة من الهند وحدها على سبيل المثال ، يتجاوز أضعاف ما أنتجته بريطانيا محلّياً، بذلك يتحوّل التراكم من تراكم رأسماليّ إلى تراكم إمبرياليّ. [45]
يقدّم الجابري نسقاً فكريّاً يشترك فيه مع المسيري، إذ ربط الحداثة عضويّاً مع الحركة الاستعماريّة الغربيّة، ولفهم هذا الارتباط العضويّ حفر الجابري في النظام الفكريّ للحداثة الأوروبيّة، وخلُص إلى أنّه باسم الحداثة التي قامت على العلم والعقل والتقدّم، عملت أوروبا على تكريس فكرة تقدّم الإنسان الغربيّ وجدارة أوروبا بالهيمنة على العالم لتمدينه ونشر الحضارة فيه. هذا الادّعاء بتفوّق الحضارة الغربيّة ونموذجها الحداثيّ، مكّن الغرب من النظر إلى نفسه على أّنه الحاضر، وعلى أنّه تعبير عن الأزمنة الحداثية، وأنّه الوحيد الذي يعيش بكنف الحداثة، بالتالي نموذجاً اجتاز جميع العصور الإنسانيّة السابقة تتويجاً لمسيرة حضاريّة بلغت أوجها في أوروبّا الحديثة، فقد اختار التاريخ «أوروبّا لتكون قمّة مساره وأوج تطوّره، فحلّ التاريخ محل الله وأصبحت أوروبا هي شعب التاريخ»، على حدّ تعبير محمد عابد الجابري .
رافق هذا التمركز الغربي الحداثي انتشار فكرة «البقاء للأصلح» والتي تحوّلت لاحقاً إلى «البقاء للأقوى»، وأصبحت مبادئ عامّة تفسّر فيها التقدّم والتطوّر في جميع الحقول، بما في ذلك التاريخ وعلم الاجتماع. قدّمت هذه المبادئ تبريراً أيديولوجيّاً لهيمنة أوروبا داخلها وخارجها؛ في السياق الداخليّ خلقت مبرّرات لهيمنة واستغلال وسيطرة الطبقة البرجوازيّة. أمّا في الخارج، وفي الوقت ذاته، وظّفت هذه المنطلقات للتوسع والهيمنة خارج أوروبا، أيّ لبناء سرديّة للاستعمار المستنير قائمة على الاصطفاء الاجتماعيّ النابع من الحروب بين الأمم والشعوب، مدعّماً بالنزعات والتيّارات العلمويّة والتي رفعت شعارات الحداثة وقدّمت ما اعتُبر تبريراً نظريّاً وعلميّاً للاستعمار، باعتباره علماً تمدينيّاً لنشر التقدّم والحضارة. [46]
في نفس المسار، يخطّ فتحي التريكي طريقه في نقد الحداثة، فيستعرض بدايةً ولوج المجتمعات العربيّة إلى عصر الحداثة بعكس ما ذهب إليه بعض المفكّرين العرب. وفقاً للتريكي، وضع هذا الولوج المجتمعات العربيّة في خضمّ المسائل التي طرحتها الحداثة، بما فيها حالة التخبّط والصدمة الحضاريّة، وما تنطوي عليه من حصار فرضته أسئلة فلسفة النهضة في بداياتها؛ أسئلة التراث والحداثة ومحاولة التوفيق بين الأنا والنفوذ المباشر للآخر، أكان ذلك النفوذ على شكل استعمار مباشر أو نفوذ سياسيّ أو غزو ثقافيّ أو نفوذ اقتصاديّ.
ويقوم التريكي بتأصيل اقتران الحداثة بالعنف الاستعماري بالعودة إلى تاريخ تشكّل أمريكا، فيقول إنّه في الوقت الذي أسّس فيه ديكارت مبادئ العقلانيّة، قتلت الجيوش الإنجليزيّة والغربيّة عموماً السكان الأصليّين وحرقت الغابات وبنت المستعمرات لتصبح أمريكا ما هي عليه في راهنها؛ مؤسّسة لنظام عالميّ عدوانيّ قائم على الحرب والعنف. جاء هذا التأصيل ليبيّن أنّ العقلانيّة الغربيّة لم تُنتج العلوم والتكنولوجيا فحسب، بل أنتجت منطقاً جديداً قائماً على الإقصاء والاستعباد والقتل. فيشخّص التريكي هذه الدعوة إلى الإنسانيّة في الحداثة كدعوة مشطورة إلى قطبين؛ الأولى، إنسانيّة غربيّة يصفها بالمحبّذة، يعمل العقل الغربيّ على تطويرها والدفاع عنها. والقطب الثانية، إنسانيّة منبوذة، يعمل العقل الغربيّ على إفنائها وتصفيتها وإبادتها. فقد بنيت الحداثة على الوعي بالذات غربيَّا في علاقتها مع الآخر غير الغربيّ، التي أخذت شكل تحويل الذوات الأخرى إلى مواضيع يتسلّط عليها العقل العلميّ الغربي.
على الرغم من سرديّته التأسيسيّة هذه حول الحداثة الغربيّة، اعتبر التريكي الحداثة امتداداً لإرثنا الحضاريّ، مبرّراً ذلك بأنّ تكوين العقل العلميّ الغربيّ جاء نتيجة إسهامات الحضارة العربيّة الإسلاميّة وعلمائها وفلاسفتها، خاصّة تأثيرات ابن سينا وابن الهيثم والبيروني وابن رشد في الثقافة اللاتينيّة. واعتبر التواصل مع إنتاجيّات الحداثة من علوم وتكنولوجيا تواصلاً مع تراثنا العلميّ والعقليّ. يدعو التريكي إلى التعامل مع الحداثة كشيء من كياننا، وتحويلها إلى عنصر فاعل ومهم لهويتنا، فهي في عمومها «نقطة استكمال الدورة الجدليّة للتفاعل الحضاريّ بين الشعوب والأمم، وهي حركة دائمة تستبدل بالقديم جديداً». [47] لكنّ التريكي أغفل ما عبّر عنه منيولو في قوله «صناعة المعرفة متخندقة مع الأغراض الإمبرياليّة/الاستعماريّة منذ عصر النهضة الأوروبّية حتّى الليبراليّة الأمريكيّة الجديدة». [48]
ّفلسطنة العالم: أفق بديل لمشروع الحداثة الغربي
في كتابهما «جدل التنوير»، يناقش أدورنو وهوركهايمر بأنّ تطوّر الحضارة الغربيّة مبنيّ على السيطرة على الطبيعة من جهة، وانتكاسة التنوير وارتداده إلى الميثولوجيا من جهة أخرى، ممّا قاد الإنسانيّة إلى كارثة، فبدلاً من الدخول في حالة إنسانيّة تامّة، توجّت بانتكاسة إلى البربريّة. من هنا، يمكن تفسير تاريخ «معاداة الساميّة» الحديث من خلال تاريخ الحضارة الغربيّة نفسه. استكمالاً لهذا التفسير، في كتاب «الشخصيّة التسلّطية» (The Authoritarian Personality)، أقام أدورنو الصلة بين معاداة الديمقراطيّة (Anti-Democratic) ومعاداة الساميّة (Anti-Semitism) باعتبار الأخيرة عارضاً من عوارض البنية الشخصيّة الهدّامة للأولى. وفي دراسة حول معاداة الساميّة أعدّتها حلقة مدرسة فرانكفورت بدعمٍ من إحدى الجمعيّات اليهوديّة في الولايات المتّحدة، خلصت الحلقة إلى أنّ هذه المعاداة تأتي «كتعبير للعدوانيّة التي تعتبر سمة أساسيّة خاصّة بطبيعة حضارتنا؛العدوانيّة تّجاه الآخر والغريب، حيث اعتبر اليهوديّ كذلك في جميع المجتمعات التي عاش فيها في الشتات، فصورة اليهوديّ مازالت هي صورة الآخر والأجنبيّ». [49]
في يومنا هذا، والذي يسمّى بعصر الحداثة المتأخّرة، تصاعدت نزعات مناهضة فلسطين لدى الأنظمة الغربيّة الرسميّة والأنظمة الشعبويّة على مستوى العالم كما لو كان الفلسطينيّ يهوديّ العصر، في مقابل ما نشهده اليوم من حالة تضامن ودعم جارفة من شعوب العالم للقضيّة الفلسطينيّة. بينما يشير هذا الدعم والتأييد على حيوية الديمقراطيّات العالميّة، نشهد جمود الأنظمة الحاكمة ورفضها لتطلّعات شعوبها، ومن هنا يمكن الربط ما بين الأنظمة الغربيّة العميقة في تأييدها لـ«إسرائيل» ذي التوجّهات السلطويّة ومعاداة «الفلسطنة»، أي المواجهة بين عالم تسوده المصالح والتوحّش في مواجهة عالم تسوده التطلّعات الإنسانيّة.
لعلّ حالة تأييد الشعوب لفلسطين تتجاوز فكرة التضامن السلبيّة. فمثلاً، في دراسة لأستاذ الدراسات الثقافيّة والفلسفة عبد الرحيم الشيخ، بعنوان «التضامن مع بيرزيت: الأسود، الأبيض، والرماديّ»، يقول إنّ التضامن مع فلسطين «يتعلّق بفهم المعاناة الفلسطينيّة، وفهم الظلم التاريخيّ الواقع على الفلسطينيّين كشرط مسبق لفهم حقيقة الهويّة الأخلاقيّة الذاتيّة». لعلّ في أطروحة الشيخ صدى لمقولة الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش «من لا يصبح فلسطينيّاً في قلبه، لا يمكن له أبداً فهم هويّته الأخلاقيّة». كلا الأطروحتين، تستدعيان كما يشير الشيخ إنتاج وتدشين مرجعية أصلانيّة، غير استشراقيّة ومتحرّرة معرفيّاً، لمعاني التضامن مع فلسطين الضروريّة لمواجهة المحو الاستعماريّ الذي تواجهه فلسطين بالاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ. حيث يتطلّب العيش في مشهد متغيّر سياسيّاً ينطوي على الانعتاق، فهمَ التحوّلات السياسيّة الوطنيّة والعالميّة. [50] على ذات المنوال، ينسج جون كولينز مقولة فلسطين المعولمة وفلسطنة العالم (a Palestine that is globalized and a globe that is becoming Palestinized) في محاولة لفكّ شيفرة العالم من خلال النظر إلى فلسطين. فتتركّز مقولته في أنّ العمليّات التي تشكّل فلسطين تلعب دوراً في تشكيل العالم في الوقت ذاته لكنّها مموّهة الشكل، ولهذا تحتاج إلى فلسطين لإزالة هذا الغموض عنها وسوء الفهم حولها وحيالها. [51]
ليس مبالغةً القول بضرورة العمل على برنامج لفلسطنة العالم لا عولمة الفلسطينيّين (أيّ قولبتهم في قوالب جاهزة مستساغة عالميّاً). فبينما يقوم جوهر الصهيونيّة على الإقصاء والاستبعاد والاستعباد، فإنّ الفلسطنة (Palestinianism) كما طرحها إدوارد سعيد لا تقع على النقيض فحسب، بل تمتلك وعيها الذاتيّ القائم على الشمول واستيعاب أبعاد النضالات الإنسانيّة على امتداد العالم، [52] حيث يمكن لفلسطين والنضال الفلسطينيّ أن يشكّلا نقطة إسنادٍ لفهم عالم يهيمن عليه سعار الرأسماليّة والإمبرياليّة؛ المكونات الأساسيّة للحداثة، وأيضاً لإعادة اكتشاف الذات في عالمٍ سقطت فيه السرديّات الكبرى والإيمان بالإنسان والغائيّات الإلهيّة.
ولعلّ كلمات المفكّر الشهيد فتحي الشقاقي الأكثر حضوراً في هذه المضمار؛ فتشكّل فلسطين اليوم مركزاً للصراع الكونيّ بين تمام الحقّ وتمام الباطل، ونرى فيها تدافع العالم بشكلٍ ملموس. في ذات السياق، يؤكّد وائل حلّاق «لقد جلبت الحداثة الغربيّة للعالم أسلوباً جديداً للحياة هدف في الأصل إلى تحسين الظروف الإنسانيّة. غير أنّنا نعلم جيّداً الآن، بعد ثلاثة قرون من التجارب، أنّ هذا الأسلوب أصابنا بالفشل الذريع. بل كان هذا المشروع مصدر الدمار ووسيلته، دمار البيئة والنسيج المجتمعيّ والعائلة، وفي الآونة الأخيرة، دمار الروح، وتفكّك الفرد نفسيّاً، وتفريغ الذات». [53] ويخلُص حلّاق إلى أنّ الاختلاف والتناقض مع «إسرائيل» وحلفائها ليس عسكريّاً وسياسيّاً فحسب، بل يرتبط بالموقف من الحداثة الغربيّة وبرؤية كلّ فرد منّا للعالم وموقعه فيه.
لذلك، يمكن لمنهجيّة النقد المزدوج المشتقّة من التفكير من على الحدود أن تمهّد لتفكير آخر يساهم في تجاوز مأزق الحداثة الغربيّة وتداعياتها على جغرافيّات العالم المختلفة، من خلال توفير وجهات نظر متنوّعة ومختلفة تمكّن من استكشاف مسارات بديلة. تضع هذه المقاربة أهميّة قصوى لما طرحه والتر منيولو عن التعدّديّة العالميّة (Pluriversality) والتي تروّج لفهم يقول إنّ العالم الذي نعيشه يمكن له أن يستضيف منظوراتٍ متعدّدة على النقيض من العالميّة (Universality) الأحاديّة التي نعيش. ويتأسّس التفكير الآخر على مقدّمات تقول إنّ المعرفة لا تنحصر ضمن حدود الإبستمولوجيّات الغربيّة، بل تعترف بأطر إبستمولوجيّة أخرى تتجاوز أو توازي تلك الغربيّة.
على الجهة الأخرى من «التفكير الآخر»، تقع مقاربات مدرسة فرانكفورت وخاصّة فيما يتعلّق بطريقتها في النقد الداخليّ. فالأخيرة تقوم بتحليل المجتمعات الغربيّة بثقافاتها وأنظمتها من داخل أطرها المفاهيميّة، لتكشف عن التناقضات التي تعتريها. بكلمات أخرى، هي تعمل على كشف العيوب المتأصّلة، والتناقضات والتوتّرات في الغرب الذي تنتمي إليه وتقوم بنقده. ولذلك، تكمن أهمّية اعتناق تفكير آخر في الممكنات التي يحملها لتحدّي مصفوفات وبنية السلطة الحاضرة، فيبرز هذا التحدّي من الاعتراف بتعدّدية الأنظمة المعرفيّة وشرعيّتها التي تقوم بخلخلة الوضع القائم الذي يعطي أفضليّة لأنماط الوجود والمعرفة الغربيّة. إذ يلعب التفكير الآخر دوراً كمحفّز لتغيير شامل يمهّد للتحرّر من خلال تفكيك الأطر المعرفيّة الكولونياليّة التي لطالما همّشت طرق المعرفة والوجود غير الغربيّة، كما أنّ هذا التحرّر لا يقتصر على التحرّر الجسديّ فحسب، بل يطال العقل وأنماط التفكير الاستعماريّة.
علاوة على ذلك، يشجّع التأكيد على التعدّدية والتنوّع على تشكيل مقاربات شاملة لتأسّيس فهم مختلف للعالم، إذ يعترف التفكير الآخر بأنّ العالم مكوّن من نسيج معقّد من ثقافات وتواريخ ومنظورات متنوّعة، لكلّ منها رؤى خاصّة. فيعزّز هذا الاعتراف الحوار العابر للجغرافيا من خلال الاعتراف بصلاحيّة أشكال مختلفة من الوجود والمعرفة. إجمالاً، يقدّم التفكير الآخر احتمالات لمستقبل أكثر تعدّدية ومساواة، يتحدّى فيها قوى السلطة القائمة، ويعزّز التحرّر المعرفيّ والمادّي، ويفتتح مسارات مختلفة للتفكير والفهم تثري حسّنا الجمعيّ والفرديّ، والذي تكون فيه فلسطين في قلب هذا العالم ومصدراً للإلهام بعالم إنسانيّ.
[1] يورغن هابرماس، “الحداثة – مشروع لم يكتمل”، ترجمة فتحي المسكيني، مجلة تبيّن، المجلد الأول، العدد 1 (صيف 2012): ص191.
[2] خالد عودة الله، من نقد الحداثة إلى مقاومتها. مداخلة غير منشورة.
[3] Herbert Marcuse, One-Dimensional Man: Studies in the Ideology of Advanced Industrial Society (London & New York: Routledge, Second Edition 1991), pp xlii, xlvii, 9-10.
[4] Edward W. Said, Culture and Imperialism (New York: Vintage Books, 1994), pp 278.
[5] Herbert Marcuse (1991), pp x, xl, 21, 23-24, 55.
[6] Herbert Marcuse, “Liberation from the Affluent Society” in The New Left and the 1960’s: Collected Papers of Herbert Marcuse (Volume Three), edited by Douglas Kellner (London & New York: Routledge, 2005), pp 80, 83-84, 86; Herbert Marcuse, An Essay on Liberation (Boston: Beacon Press, 1969), pp vii, 67, 80,84.
[7] عزمي بشارة، “في أولوية الفهم على المنهج”. مجلة تبين، المجلد الثامن، العدد 30 (خريف 2019): 10-11.
[8] إسماعيل الناشف، “صمت الظواهر: مقاربات في سؤال المنهج”. مجلة إضافات، العدد 10 (ربيع 2010): 133-134.
[9] عزمي بشارة، مرجع سابق: ص 10، 30.
[10] Margaret Kovach, Indigenous Methodologies: Characteristics, Conversations, and Contexts (Toronto, Buffalo and London: University of Toronto Press, 2009), 53.
[11] الناشف، مرجع سابق: 130.
[12] Karen Potts and Leslie Brown. “Becoming an Anti-Oppressive Researcher” in Research As Resistance: Critical, Indigenous, and Anti-Oppressive Approaches, edited by Leslie Brown and Susan Strega. (Toronto: Canadian Scholars’ Press, 2005), 261.
[13] Deb Rutman and others. “Supporting Young People’s Transitions From Care: Reflections on Doing Participatory Action Research With Youth From Care” in Research As Resistance: Critical, Indigenous, and Anti-Oppressive Approaches, Ibid: 156.
[14] Linda Tuhiwai Smith, Decolonizing Methodologies: Research and Indigenous Peoples (London & New York: Zed Books, 2nd edition, 2012), 5.
[15] Susan Strega, “The View from the Poststructural Margins: Epistemology and Methodology Resistance” in Research As Resistance: Critical, Indigenous, and Anti-Oppressive Approaches, Ibid: 202-204; Shawn Wilson, Research Is Ceremony: Indigenous Research Methods (Halifax and Winnipeg: Fernwood Publishing, 2008), 36.
[16] Bagele Chilisa, Indigenous Research Methodologies (Los Angeles & London: SAGE Publications, 2012), 8.
[17] Lesli Brown and Susan Strega, “Transgressive Possibilities” in Research As Resistance: Critical, Indigenous, and Anti-Oppressive Approaches, Ibid: 7, 13.
[18] Robert J. Antonio, “Immanent Critique as the Core of Critical Theory: Its Origins and Developments in Hegel, Marx and Contemporary Thought”. The British Journal of Sociology, Volume 32, Issue 3 (September 1981), pp 330, 332.
[19] Titus Stahl, Immanent Critique (Laham, Boulder, New York and London: Rowman & Littlefield, 2022), translated with John-Baptiste Oduor, pp 25-28.
[20] مرجع سابق، ص28-30، 75.
[21] Axel Honneth, Pathologies of Reason: On the Legacy of Critical Theory (New York: Columbia University Press, 2009), Translated by James Ingram: pp 48, 50, 52.
[22] Titus Stahl, “What is Immanent Critique?”. SSRN Working Papers (2013), retrieved from http://ssrn.com/abstract=2357957 .
[23] Walter D. Mignolo, The Darker Side of Western Modernity: Global Futures, Decolonial Options (Durham & London: Duke University Press, 2011), 81; Walter D. Mignolo, Local Histories/Global Designs: Coloniality, Subaltern Knowledges, and Border Thinking (Princeton & Oxford: Princeton University Press, 2nd edition 2012), pp x, xxi, xxvi, 37; Walter D. Mignolo and Madina V. Tlostanova, “Theorizing From the Borders: Shifting to Geo- and Body-Politics of Knowledge”. European Journal of Social Theory, Volume 9, Issue 2 (May 2006), pp 206-208.
[24] Abdelkebir Khatibi. “Double Criticism: The Decolonization of Arab Sociology”, in Contemporary North Africa: Issues of Development and Integration, edited by Halim Barakat (London & New York: Routledge, 1985), pp 9-11, 16-17; عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج (الرباط: منشورات عكاظ، 2000)، ص187-198
[25] Douglas Kellner, Critical Theory, Marxism and Modernity (Cambridge: Polity Press, 1989), pp 3-4.
[26] Philip K. Lawrence, Modernity and War: The Creed of Absolute Violence (London & New York: Macmilan Press LTD & St. Martin’s Press, 1997), pp 30; Edward A. Tiryakian, “War: The Covered Side of Modernity”, International Sociology, Volume 14, Issue 4 (1999): 474.
[27] Nelson Maldonado-Torres, Against War: Views from Underside of Modernity (Durham & London: Duke University Press, 2008), pp XI-XII, 3-4, 210-218, 229, 242.
[28] Maki Kimura, Unfolding ‘Comfort Women’ Debates: Modernity, Violence, Women’s Voices (London & New York: Palgrave Macmillan, 2016), pp 50-52.
[29] Vivienne Jabri, War and the Transformation of Global Politics (London and New York: Palgrave Macmillan, 2007), pp 8, 28-30.
[30] Philip K. Lawrence (1997), Ibid: p 2, p8, p 160.
[31] Walter D. Mignolo (2011), ibid: pp 3.
[32] Samuel F. Mueller, “Peace, War and Modernity in International Relations Theory”, Transcience Journal, Volume 1, Issue 3 (2010): pp 34-35, 44.
[33] عبد الحق منصف، “الحرب وأسس الحداثة السياسية”، الأزمنة الحديثة، العدد 6-7 (السنة غير معروفة)، 133-139.
[34] Enrique Dussel, “Beyond Eurocentrism: The World-System and the Limits of Modernity”, in The Cultures of Globalization, edited by Fredric Jameson and Masao Miyoshi (Durham & London: Duke University Press, 1998), pp 3-4, 10; Enrique Dussel, “Eurocentrism and Modernity (Introduction to the Frankfurt Lectures)”, Boundary 2, Volume 20, Issue 3 (Autumn 1993): pp 65-66, 74-75; Enrique Dussel, The Invention of the Americas: Eclipse of “the Other” and the Myth of Modernity, Translated by Michael D. Barber (New York: Contiuum Publishing Company, 1995), pp 9-12, 23-25, 50, 64-71; Enrique Dussel, “World-System and “Trans”-Modernity”, Translated by Alessandro Fornazzari. Nepantla: Views from South, Volume 3, Issue 2 (2002): pp 222
[35] وائل حلاق، قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي، ترجمة عمرو عثمان (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019)، ص 147
[36] Julian Reid, The Biopolitics of the War on Terror: Life Struggles, Liberal Modernity and the Defense of Logistical Societies (Manchester & New York: Manchester University Press, 2006), pp 1-12; Julian Reid, “War, Liberalism, and Modernity: The Biopolitical Provocations of Empire”, Cambridge Review of International Affairs, Volume 17, Issue 1 (2004): pp 63-69; Vivienne Jabri, Ibid: pp 67; Hans Joas, “The Modernity of War: Modernization Theory and the Problem of Violence”, International Sociology, Volume 14, Issue 4 (1999): pp 459-460.
[37] Paul Michael Garrett, “From ‘Solid Modernity’ to ‘Liquid Modernity’? Zygmunt Bauman and Social Work”, British Journal of Social Work, Issue 42 (2012): pp 636-638; Zygmunt Bauman, “The Duty to Remember, but What?” in Enlightenment and Genocide, Contradictions of Modernity (Brussels: Peter Lang Inc, 2000), pp 36-38, 52, 55, 57;
زيجمونت باومان، الحداثة والهولوكوست (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2014)، ترجمة حجاج أبو جبر ودينا رمضان، ص26، 59، 170-171.
[38] Philip K. Lawrence, “Enlightenment, Modernity and War”. History of Human Sciences, Volume 12, Issue 1 (1999), pp 21-22; Philip K. Lawrence (1997), ibid: pp 2.
[39] Dirk A. Moses, “Genocide and Modernity” in The Historiography of Genocide, ed. By Dan Stone. (New York: Palgrave Macmillan, 2008), pp 171, 179-180.
[40] زيجمونت باومان (2014)، مرجع سابق، ص19، ص44؛ عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006)، ص94-95.
[41] زيجمونت باومان، الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين، ترجمة حجاج أبو جبر (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017)، ص11-ص12.
[42] وائل حلاق (2019)، مصدر سابق، ص14-ص15.
[43] عبد الرحيم البصري، “الحداثات البديلة والحداثات المتعددة: نحو فهم جديد لمسألة الحداثة”، مجلة تبيّن، المجلد التاسع، العدد 34 (خريف 2020): ص191.
[44] عبد الحليم مهورباشة، “الحداثة الغربية وأنماط الوعي بها في الفكر العربي المعاصر: دراسة مقارنة بين عبدالله العروي وطه عبد الرحمن”، مجلة تبيّن، المجلد السادس، العدد 23 (شتاء 2018): 104، 108-110؛ محمد سبيلا، مدارات الحداثة (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2009)، ص 123-124، 130-131؛ أدونيس، الثابت والمتحول: بحث في الابداع والاتباع عند العرب، الجزء الرابع (بيروت: دار الساقي، 1994): ص30.
[45] عبد الوهاب المسيري (2006)، مرجع سابق: ص35-36، ص87، ص93-94، ص100.
[46] محمد عابد الجابري، “الحداثة الأوروبية…الوجه الآخر”. في الحداثة وانتقاداتها: نقد الحداثة من منظور عربي-إسلامي، اعداد وترجمة محمد سبيلا عبد السلام بنعبد العال (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2006)، ص55-59
[47] عبد الوهاب المسيري وفتحي التريكي، حوارات لقرن جديد: الحداثة وما بعد الحداثة (دمشق: دار الفكر، 2003)، ص180-181، 186، 210-212، 216-217.
[48] Walter D. Mignolo, “Epistemic Disobedience, Independent Thought and Decolonial Freedom”, Theory, Culture & Society, Volume 26, Issue 7-8 (December 2009): pp 176.
[49] Jack Jacobs, The Frankfurt School, Jewish Lives, and Antisemitism (New York: Cambridge University Press, 2015), pp 73-74, 83-84.
[50] Abdul-Rahim Al-Shaikh, “In solidarity with Birzeit: The black, the white, and the gray”. Curriculum Inquiry, Volume 52, Issue 3 (2022): p 351, 369; عبد الرحيم الشيخ، “متلازمة درويش (II): الفكرة، الثورة، الدولة”. مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 125 (شتاء 2021): ص 179.
[51] John Collins, Global Palestine (London: Hurst & Company, 2011), pp ix, x.
[52] Timothy Brennan, Places of Mind: A Life of Edward Said (New York: Farrar, Straus and Giroux, 2021), pp 212-213; Abdul-Rahim Al-Shaikh, “Palestine: the tunnel condition”. Contemporary Arab Affairs, Volume 3, Issue 4 (2010): pp 483-484; عبد الرحيم الشيخ، “الهوية الثقافية الفلسطينية: “المثال” و”التمثيل” و”التماثل””، في التجمعات الفلسطينية وتمثلاتها ومستقبل القضية الفلسطينية – المحور الأول: الفلسطينيون…الهوية وتمثلاتها (رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية، 2013): ص 112.
[53] “المفكر وائل حلاق للجزيرة نت: “طوفان الأقصى” دليل على نفاق وعنصرية الحداثة الغربية”، الجزيرة نت؛ رابط.