يكاد لا يوجد أحد اليوم تعجبه حياته التي يحياها، الكل يتطلع لحياة أخرى، لمكان آخر، لـ «هناك» آخر، مخيلي، وأفضل وأعدل وأقل فوضى. بشكل ما حياتنا على الأرض هي بالأساس حادث حزين ومضن، لكننا ننسى ذلك، كان من المفترض أن نعيش في الجنة، كأبناء وأحفاد وسلسلة ممتدة للأب الأول والأم الأولى: آدم وحواء، باختلاف تنويعاتهما في كل الأساطير المؤسسة للإنسانية، الهبوط على الأرض هو عقاب مطول وسكن مؤقت وعناء حتى حين، نعود بعدها حيث ننتمي، لكن هذه المرة علينا إثبات الاستحقاق، استحقاق ندفع ثمنه منذ الخطيئة الأولى، حياتنا الحالية امتداد لها، هنا الآن، هنا بالأسفل، بينما كانت السماء دوماً مكان الحياة البديلة الأبدية الأفضل والأريح، بالأعلى… هناك.

الوعي أن الـ «هنا» والـ «هذا» و«الماهو واقع» لا تتناسب مع ما نتخيل وما نعلم وما نستطيع وما نتطلع إليه، كان دوماً الوفود لتلك الديناميات الاجتماعية والفردية والفلسفية المتنوعة، ما بين الرافضة والخاضعة والمتمردة والمفاوضة والفاعلة ضد ما هو «كائن» خارج حدود الوعي والذات، لحساب ما يجب «أن يكون»، كما يراه الواعي الداخلي وتطمح إليه الذات والعين الثالثة داخلنا. كان المحرك أيضاً للمخيلات الكبرى، السردية والروائية والأيديولوجية، حول مجتمع طوباوي عادل متناغم يحظى فيه الكل بنصيب من الحرية والكرامة والأمل والعدالة والمساواة، هل هذا البحث هو ارتداد لما قبل لحظة الهبوط الأولى في الوعي الأول، ومحاولة الصعود محدداً للـ «هناك» المثالي والمكتمل، كما يبدو عليه التأويل الرمزي للأمر أم هو مجرد دفعة نحو الأمام يفرضه الانتخاب الطبيعي والتطور المستمر البيولوجي وحركة الوحش الرأسمالي النيوليبرالي، لتحسين الحياة ودفعها باستمرار ولا نهائية كما قد يذهب تحليل دارويني تطوري أو رأسمالي للمسألة؟

متى بدأت القدرة على خلق حياة بديلة خاصة تظهر، وبأي مستوى وأي مسارات تتخذ تلك القدرة، وما دلالتها الأعمق؟ القدرة المقصودة هي مفهوم اجتماعي وفلسفي رائج في العلوم الإنسانية يعرف بـ (Agency) ملخصه هو قدرة الإنسان الفرد على الفعل.

هنا محاولة لتتبع المفهوم.

خط زمني قديم: الهجرة الأولى، الحياة البديلة الأولى

الـ (Homo Sapiens) هو الاسم العلمي لما استقرت عليه سلالة الإنسان الحديث بالشكل الحالي، وتشير التقديرات أنه ظهر منذ نحو 200000-300000 سنة بأفريقيا. الهجرة الأولى للبشر، بشكلهم الحالي، وفقاً لآخر البحوث المتفق عليها حدثت من أفريقيا ما بين 70000-100000 سنة، وكانت إحدى الفرضيات هي البحث عن مكان آخر بديل به مصادر غذاء أكثر تكفي الجميع، قام بها ما يقرب ما بين 1000-1500 شخص طبقاً لبعض التقديرات الجينية. ولم تكن تلك أولى الهجرات من أفريقيا. السلالات التي سبقت الإنسان الحديث وتقاطعت معه وحتى تزاوجت ومررت بعض من حمضها النووي إليه مثل كائن النياندرتال، ثم اندثرت، سبق وهاجرت من قبله نحو 1.8 مليون عام كما تشير الأبحاث الأثرية. هؤلاء كانت لديهم القدرة على التعاون وتشكيل مجموعات ولهم طقوس دفن ويستخدمون النار. ورث البشر كل تلك المهارات وطوروها بشكل أكثر تعقيداً، هؤلاء إذن شكلوا البشر الذين هاجروا وانتشروا وعمّروا الأرض خارج أفريقيا. خرجوا من الهضبة الأثيوبية نحو الشمال، ومن معبر سيناء انتشروا في العالم، وهم من أصبحوا «البشر» بتنويعاتهم كلها، خارج أفريقيا. وعبر آلاف السنين، ورغم النزاعات العلمية حول سردية الخروج من أفريقيا. والتاريخ المحتمل حولها، بعد الاكتشافات الحديثة جداً، وميلهم لتاريخ أقدم لتلك الهجرات، هؤلاء المهاجرون الأوائل اندمجوا وتكيفوا وتحولوا جينياً وخلقوا أساطير مؤسسة مستوحاة من البيئة والطبيعة وبنية المجموعة البشرية التي استقرت وتعقدت العلائق بداخلها.

لا أحد يعرف أي مخيلة حركت هذه الجموع، وأي حاجة ماسة دفعت بذلك العدد نحو المجهول، وربما كانت هناك سرديات حول من سبقوا من مخلوقات، ربما حدس أو اضطرار، لا نعرف ماذا حدث تحديداً سوى فرضية النقص في المصادر الطبيعية المتاحة.

في المطلق إذن كلنا، بشكل أو آخر، ننحدر من إنسان أول أسود، سكن ذات يوم بأفريقيا.

الـ «هنا» والـ «هناك» / الـ «الأعلى» والـ «الأسفل»

يتميز الإنسان بقدرته على التخيل والتجريد، ذلك البعد غير المحسوس الذي، من خلاله، يدرك نفسه والآخر والـ «هنا» المادي والـ «هناك» البعيد والـ «هناك» المجرد، بل ويخلق عوالم أفضل، استكمالاً أو هرباً من / أو تعديلاً للواقع.

مستويات ذلك الانفلات من الراهن، نجد لها صدى في مجالات مثل الأدب، أو الفلسفة، أو الحواديت، أو الأغاني، أو حتى آليات السخرية والعاطفية والشجن؛ كلها تهدف الانعتاق من الحالي والمؤلم والمحبط وغير المرضي، والتفاوض معه، وفي تلك المساحة، يمكن للإنسان أن يحتار الحلم الذين يناسبه، تعويضاً وإزاحة للواقع.

المخيلة هي نفسها التي، انطلاقاً من هذا الوعي المعقد ورغبة في إيجاد المعنى، تنسج السرديات والأساطير عن عالم بديل مطلق يكون مرآة عكسية للأسفل أكثر اتساقاً وأكثر إلهاماً، وهي من تنمو بها النوستاليجا لما مضى وكان معيشاً. بُعد آخر يعاد صياغته وترويضه لواقع لا نقدر على مفرداته، تلك المخيلة هي أيضاً ما ينمو بها التصور الذي يمكنه أن يتحول لخطة جمعية مشتركة والفعل يُحدث تغيراً، قد يكون جذرياً وكبيراً. الثورة في شكل من أشكالها هي البحث عن هدم عنيف للراهن ومقايضته بحياة بديلة، بنماذج بديلة وخطاب جديد للفرد والمجتمع والحياة لأن الحالي لا يتوافق وحجم التطلعات المتخيلة.

من هنا القدرة على التخيل والترميز والإحلال والحلم والتسامي والغضب والتفاوض والتسليم والمقاومة لواقع غير مرض، كانت دوماً موجودة في كل المستويات. القدرة على الفعل أمر آخر، ومستوى حديث وجديد على الإنسانية.

متى بدأت إذن القدرة على الفعل؟ الفعل وليس مجرد رفض الحياة الموروثة، رفض الإطار الذي ولدنا به، لآخر نريده ونشعر فيه بالتعويض والإزاحة والراحة، بل توافر التصور ثم القدرة (Agency) على ذلك لنعبر عبر الفعل إلى جنتنا المتخيلة / العادلة / المتسقة / المتوازنة التي تشبهنا؟

هذه القدرة على الفعل، وتخطي المتخيل للواقع وفرضه، هي بالأساس في مواجهة احتجاجية تتحول لحلول بديلة للنظام القائم، للمؤسسة أو المركز أو النسق المترسخ، منها مواجهات تمس قضايا كبرى وحاسمة مثل الخطر على الكوكب الذي نتشاركه (البيئة وكل ما له علاقة بالحفاظ على التوازن الطبيعي والنوعي للحياة بها)، تمس النمط الاقتصادي والاجتماعي السائد (نمط الاستهلاك واضمحلال دوائر الاكتفاء الذاتي واضمحلال ثقافات الدوائر الصغيرة التي تعتمد على بعضها البعض، مقاومة البني الاجتماعية القاهرة للمرأة والفردية والطبقية). أو تمس الفرد (اختيار الحياة أو الموت وطرق التعليم والسكن والعلاقات بين الجنسين وأنماطها الجديدة) وفي ظل تفكيك كل النماذج القديمة، لا بد من توافر نماذج جديدة تحل محلها، ولها القدرة على ترجمة الاحتياجات الجديدة والخيارات المتاحة أمام نسق قديمة لم تعد تواكب التطلعات، لم يعد هناك نسق قومي كبير وحاسم للجميع هناك خيارات لانهائية للفعل وهناك خيارات لانهائية لتلك النماذج متاحة للجميع.

خط زمني حاسم : الزراعة أو الحياة البديلة الثورية

الزراعة التي ظهرت قبل 10000 عام في العصر الحجري الحديث، في الشرق الأوسط، غيرت نمط الحياة البشرية للأبد وخلقت ظروفاً مواكبة للاستقرار، ولمجموعات بشرية أكبر عددياً، ولتخزين فائض غذاء لم يكن متاحاً قبل ذلك وأدت لظهور تمايزات جندرية ومهنية لم تكن موجودة قبل ذلك، وكذلك أمراض الاستقرار وتغير نوعي في الجينات اللاحقة للآدميين تقبل باللاكتوز والحبوب بلا متاعب صحية، حتى إننا ننظر للزراعة على أنها تاريخ الإنسان الطيب المستمر وتراثنا الراسخ، بينما كان الإنسان الأول يسير طويلاً لإيجاد طعامه ويتساوى في ذلك مع الجميع، القائد هو من لديه القدرة على إيجاد طرق نحو مصدر يكفي القبيلة أو المجموعة الصغيرة، لم يكن هناك تمايز جندري يُذكر، على الجميع إثبات قدرته على الإطعام، العلاقات تعاونية ومتحرّكة لأن الخطر محدق والحاجة تدفع لذلك، لا حاجة لمخيلة ميثولوجية كبرى ترسخ الإنسان، لأنه كان في حركة مستمرة نحو مصادر الطعام والحياة، ومن لا يقدر على ذلك يُترك هكذا ببساطة. لوقت قريب كانت قبائل الهنود الحمر، بالشمال الكندي، تترك من لم يعد يمتلك القدرة على السير والحركة لمصيره، لقد حان وقتي، هكذا ببساطة، بحزن وألم، لكن بلا دراما كبرى. يجب على الجميع التحرك والصيد، والمواسم لا تنتظر، والفرائس لها مواعيد، وهكذا تريد الأقدار.

خلقت الزراعة التراتبية الطبقية والهرم الاجتماعي ووظائف العمل اليدوي المتخصصة، والحماية والدفاع عن مخازن الغلة وفائض الثراء ووظائف من يأخذ ماذا ومن يدفع ماذا. كان الرجل نموذجاً قوياً للاستقرار، جسده مستقر نسبياً ولا يتغير كثيراً، بينما المرأة متغيرة وجسدها متغير ما بين بلوغ فانتفاخ حمل فرضاعة فانتفاخ آخر وهكذا، غير أنها مصدر صراع عليها في المجموعات البشرية، بين الذكور، بعدما أصبح كل شيء مصدر تفاوض وتراكم ثروة، وبناء تراتبية اجتماعية مستقرة، لم تعد البشرية تسير وتجوع، أصبح عليها فقط الاستمرار والتجذر في مكان ما والتنظيم وتقسيم العمل، وإدارة الثراء، وخلق سرديات حول الكون وأساطير مؤسسة، فكان النظام البطريركي لآلاف السنين. كانت الزراعة هي ضرع الإنسانية الذي لا ينضب، نسينا نسق ما قبلها لكنّ الطبيعة لا تنسى، فقط بعض من يتحسسون من اللبن، ما زالوا يحملون على الأقل خريطة الأسلاف الجينية الأولى.

لماذا الحياة البديلة

لماذا لا يتقبل الإنسان حياته الحالية ببساطة؟ إذا كانت أفضل من حياة الجوع والقنص والالتقاط الأولى أو حياة العبودية في الحقول منذ قرنين فقط، أو ظروف حياة كانت موجودة من 50 – 60 سنة يذكرها الأجداد ويقولون الدنيا كانت أقل وفرة، وأكثر فقراً، والعمل كان شاقاً. أو حتى مقارنة بحيوات موجودة بالعالم الحالي لا يمكنها الوصول لمنشور مشابه وقراءته واتخاذ موقف منه. تلك رفاهية شديدة لا يقدرون عليها. لماذا يسعى الفرد إذا لتغييرها/إصلاحها/ أو تبديلها تماماً لتصبح على درجة مقبولة من الرضا؟ وتبعاً لأي نسق ونموذج؟ متى تعدّت قدرة الإنسان، خلال آخر قرنين على تجاوز البنى الاجتماعية والدينية والأيديولوجية التي تضعه في قالب ؛طبقي/ دور اجتماعي/ دور جندري/ تراتبية عرقية أو جنسية؛ إلى تجاوز ذلك من التحايل عليها بشكل سري و«فاسد» و«منحل» و«مارق» إلى أن تصبح له قدرة أشمل كفرد قادر على التغيير بلا عقبات خطيرة تجبره على التراجع أو التخلي أو مجابهة مجتمع أو سلطة أو عوائق أو وضعه في قالب المنبوذ؟ تلك القدرة هي جوهر التساؤل هنا.

كان المجتمع، لوقت قريب هو البناء والخطاب والنسق، وله هيمنة على حياة الأفراد. على الجميع توفيق أوضاعهم طبقاً لذلك النسق، خصوصاً لو كانوا ينتمون للطبقة العليا والنخبوية، لأن النسق كان «هُم» وكسر النسق والنموذج كان ليهدم الطبقة. كان متاحاً العبث قليلاً لكن بلا مردود قوي على النسق. كان متاحاً أن تكون حياة سرية موازية بلا مجاهرة تنازع النسق. القدرة على تجاوز عدم الرضى من النسق للفعل بلا عواقب ومعترف به (أو نصف معترف به) شيء حديث في التاريخ البشري بدأ تحديداً عندما تعاظمت قيمة الفرد على حساب النسق، ولو على سبيل الوعي المتزايد عبر الوقت.

تعاظم الوعي إذن لأسباب تاريخية، وتعاظمت معه القدرة على الفعل، وجعلت حتى صور المعاناة الإنسانية مختلفة. بينما تبدو المعاناة التقليدية التاريخية بمواجهة المجتمع ونسقه، كطقس مرور نحو النضج والتجربة وصورة العدل المفقودة والتفاوض على الاستمرار على قيد الحياة بأشكال قاسية مثل القتل أو السجن أو القمع أو العنف الممنهج الاجتماعي أو السياسي أو قبول دور اجتماعي أو جندري مرفوض فردياً ليعيش النسق، أصبحت المعاناة الفردية المحضة المتجردة هي الشكل الجديد، التي لها علاقة بالمعنى الخاص والتعاطي مع العالم والناس بشكل حميم وضيق. في نهاية الأمر على الإنسان أن يعاني في هذا العالم وتلك الحياة، أياً كانت قدرته بها.

رغم ذلك لم تختفِ أشكال البنى التقليدية تماماً، ولا أشكال القمع والفقر والعنف بأشكاله التقليدية، بل أخذت أشكالاً أكثر قسوة وقوة مع تنامي الشعور بالفردية ومفهوم العدالة المفقود، وأصبح الوعي بها من مصادر الألم النفسي الفردي الخاص أيضاً، ومن مصادر منح المعنى وفقدانه نحو العالم. من إذن لديه تلك القدرة على التغيير والفعل بالأساس ولأي مدى؟ هل هم يمارسون الحياة التي مُنحت لهم من خلال أقنعة تتلاعب بواقع صعب إزاحته ويرضخون تارة، ويتفاوضون تارة، ويموتون تارة بشكل درامي يجتهدون لمنحه معنى أكبر؟ أم من يمتلكون القدرة فعلياً على تغيير الحياة بشكل ما، ولهم معاناة خاصة؟ وهل يحقق لهم ذلك أي شيء من مفهوم ديمقراطية العدالة وتكريس للفردية؟

«يقول لنا النظام إنّ كل إنسان فرد مسؤول مسؤولية كاملة عن سعادته الشخصية».

خط زمني مختصر للعالم … الآن

وعدت الحداثة بحياة أفضل للبشر؛ تقدم، ازدهار، تراكم لرؤوس الأموال، تقدم صحي تعليمي ومؤسساتي، ومع الوقت والتاريخ والاستعمار وصدام الحضارات وهدم نسق تقليدية والخيار الحداثي أصبح متاحاً/ نعمل ليصبح متاحاً للجميع بالعالم «نظرياً» تعليم وصحة ووسائل مواصلات تليق بالفرد. المدينة هي النموذج، ضد عالم الريف المترهل الملحق بخلفية الإنسانية، ضرعها المستمر البطيء. مع الوقت والتشابك والقبول والرفض والنجاحات والإخفاقات تراكمت مشكلات النظام الحداثي المطروح، وطرح الأفراد أسئلة حول مدى أخلاقيته وعدالته ومساواته، عاد الإنسان من جديد يشكك في الممنوح ومدى فاعليته ومدى تواؤمه مع ظروف صحية جيدة. كلها حركات احتجاج من أجل مزيد من التحسين ومن أجل تحقيق تصور عن أفضلية في منحى ما، الصحة، التعليم، السكن، المصنع، الطبيعة، الروحانيات إلخ إلخ إلخ. وبعدها كانت الديمقراطية هي نهاية التاريخ، يدور التاريخ والعلوم الإنسانية في دوائر ما بعد حداثية لا تستطيع الخروج منها على مستوى التنظير، ويسبح العالم في حالة سيولة حدودية معولمة ومربكة وحادة، أدت الى ردات فعل راديكالية على مستويات كبرى وصغرى: سياسية ودينية واجتماعية وعرقية ويستفيد الاقتصاد النيوليبرالي من كل ذلك بشكل لا يعرف الكلل.

حالياً تبدو الترتيبات التقليدية، السياسية والاجتماعية، في حالة تحلل أو خلخلة قوية، رغم هيمنتها المستمرة في مستويات عدة. في المشهد العام ظهرت قوى ناشئة وفاعلة رغم وجودها الافتراضي، أتاحها «النت» وإتاحة المعلومة وإتاحة منصات بديلة للقدرة. دوائر التأثير المتبادل المتجردة من تجذر مكاني أو علائقي واضح. عالم سائل، الدائرة تبدو تعبيراً جيداً عن مرحلة سائلة وغير واضحة المعالم لكنها تتحرك بقوة واستمرارية، القوة، السلطة فيها دائرة، ولكنها عابرة وغير راسخة ولا متجذرة في مكان، مثل حال رأس المال الآن. في تلك الدوائر نختار من يشبهنا، ونطرد الغريب وغير المتوافق. أصبح العالم المعولم، اقتصادياً وسياسياً، أكثر عولمة على مستوى الضيق والثقافي والإبداعي وانتقال الصورة والخبر والرأي، حيث الحدود هشة وغير واضحة على نطاقات هامة. خلق ذلك جزراً منعزلة اختيارياً. هل سيختفي المجتمع بتمثله التقليدي غير المتمازج، حيث توجد اختلافات واضحة وهيراركيات ونزاعات واختلافات يجب إدارتها بالتفاوض، مثال مجتمع القرية بشكله النمطي، أم أن مستوى التغريب والغربة بين البشر هو رد فعلهم على هذا العالم السائل حيث لم يعد هناك تجذر ولا أهمية للنسق التقليدية للفكر والمجتمع والأسرة والسلطة؟

لو أخذنا الأسرة كنمط التأمل سنجد أن الفرد أصبح متروكاً لغير الأسرة، لأول مرة في التاريخ. أصبحت المدرسة وسيلة الدولة لفرض خطابها ولغتها النموذج وهيمنتها على الفرد، الذي أصبح متروكاً لآخرين يؤثرون ويمارسون عليه استراتيجيات للتنشئة الاجتماعية، لا تمثل بالضرورة قيماً تقليدية للأسرة ثم تكتمل الآن بانشغال الأم والأب بالعمل لساعات طويلة، وتغير نمط الضبط ورؤية السلطة الأبوية.

الأسرة، كنواة المجتمع، أصبحت جملة خطابية ومحل تفكيك. هي الأخرى تعرضت لهزات قوية في نظم السكن والعمل وتبادل الأدوار، وللسخرية، نطاقاتها المتجذرة بالسلالة والعاطفة والعلاقات القوية أصبحت محل تساؤل، لأن هناك حاجة عملية لتعدي ذلك للتماشي مع حركة ما عالمية ومستمرة  تنتصر للفردية فقط وتجرف كل تجذر وكل ترسخ وتستبدلها بدوائر مريحة ومتشابهة في الاتجاهات والميول والجندر. أصبحت الأمومة محل تساؤل، سلطة الأب محل تساؤل، الأبوان كأفراد عاديين أصبحوا محل شك شرعي ومفهوم فيما يخص علاقتهم بالطفل.

البنى التاريخية القديمة، التي أفرزتها الزراعة ثم الحداثة، أصبحت هشة وحلّ محلها دوائر أخرى اختيارية، وليست تراتبية مفروضة، السلطة فيها متبادلة بين «انفلونسرز» يمكننا التماهي مع نموذجه، ومتابعين، يروجون لأشياء شديدة التنوع وتمزج بين النرجسية والتمرد والعمق والأداء المسرحي، وقد تتجاوز فكرة الأداء لفكرة التدليس والاستثارة والخطاب الشعبوي. الحركة كبيرة وواسعة ويجب السير معها، وفي لحظة قد تنهار الدائرة وتخرج أخرى وهكذا بلا توقف، من لا يمتلك القدرة على الاستمرار وتضخيم حجم متابعيه (الترافيك يحكم!) بكل الطرق الممكنة، محكومة عليه بالركود والخسارة، أين يذهب المجتمع والتفاوت في طبقاته والتفاوض فيما بينها بدون «بلوك» إذن؟ بناء عليه، أصبح للجميع صوت، أو صوت يمكنه التماهي معه، قد يغيره لاحقاً. الخيارات متاحة ومتعددة، والنماذج لا تُعد.  بمناسبة النموذج، هل غاب النموذج رغم الفردية والتملص من كل النماذج المفروضة، هل النموذج خيار أو احتياج ولأي درجة؟

خلق النموذج في عالم سائل، يبدو عملاً نبيلاً وخاصاً وبطولياً، النموذج الواقعي الذي يفند المركز والعالم، الذي يبدو دوماً في خداع لنا وهيمنة على مستوى ما نأكل، ما نشرب، ما نقرأ، وما نتعلم، وما نعمل. حتى العمل كقيمة أصبحت محل شك مؤخراً، ما معنى الآلاف من الوظائف غير المهمة التي تستعبد الفرد لساعات طويلة؟

خط زمني حاسم، بداية القدرة: الـ ( Pop Culture) وهدم النموذج

بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد العالم كما كان، تغير للأبد (العالم هنا هو العالم الأول بالطبع)، التغير بالعالم الأول يحدد المسموح به لباقي العوالم أسفل خريطته الخاصة. ومع إعلان حقوق الإنسان التي تبلورت حوله مع الوقت آليات ودوائر تأثير تمويل لترويج خطاب عالمي وشامل محتمل تطبيقه على كل الدول بصرف النظر عن ملائمته للتطبيق، أصبح لكل فرد كرامة مفترضة وحق أصيل في العدالة والمساواة، طبقاً لهذا الخطاب على الأقل. لكن ذلك لا يخلو من وعي عام أيضاً انتشر ببطء وحسم، يجعل احتمال الظلم وانتهاك الحقوق أقل تحملاً. بالإضافة إلى ذلك الإعلان الذي تحول لأيديولوجية لها خطاب قوي وكبير وعالمي حل محل السرديات الكبرى التقليدية الإيديولوجية أو الدينية لدى الطبقات المتعلمة والنخبوية. بالتوازي مع ذلك ظهرت بالولايات المتحدة ظاهرة ما اتفق على تسميتها بـ (ثقافة البوب Pop Culture) ،وهي تعني ظهور أنواع من الثقافة والفنون والنماذج هذه الأنواع تكسر النموذج التقليدي النخبوي المفروض في الفنون والسكن والعمل وحتى الديكور الداخلي للبيوت ولذلك قصة.

البداية كانت مع عودة الجنود الأمريكان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شباب صغير ومأزوم، تقرر الحكومة برئاسة روزفلت عام 1944 أن تدفع للجنود العائدين مصاريف التعليم وشراء بيوت جديدة فيما عرف بـ «GI Bill» استفاد منها حوالي 20 مليون شاب وشابة ما بين 20 و25 عاماً حتى عام 1956. كان هؤلاء الجنود من الطبقات الفقيرة بالأساس، وأمام خيار مادي بهذا الحجم أصبح للجندي العادي الشاب قدرة مالية كبيرة وقدرة على التخطي الطبقي لتوافر فرص التعليم الجامعي بتمويل من الدولة، وبدلاً من التماهي مع النموذج النخبوي في التعليم والسكن واستهلاك الثقافة، أدى ذلك الثراء لخلق نماذج جديدة من البيوت والديكور الداخلي، كلها على حدود المدن، في الضواحي حيث يعمل الرجال في النهار بالمدينة ويعودون للبيت مساءً، وحيث المرأة هي الملكة في تلك الضواحي النهارية الخالية من الرجال. نمت إذن قدرة مفاجئة لطبقات جديدة، وأصبح لها نماذجها الخاصة التي تغيرت مع الوقت لكنها لا تتجذر في خيار نخبوي، بل في ذوق متوسط وعملي وربما متناقض، تشبه الحالة ما حدث بعد الانفتاح بمصر، صعدت فجأة طبقات تمتلك المال وخلفية اجتماعية ما تختلف عن الهرم الطبقي المعتاد، ومعه خرجت نماذج استهلاكية فجة ولغة أثرت على بنى المجتمع. ربما النقطة الأهم هنا القدرة التي لم تتوقف ولم تعد محصورة على نموذج نخبوي مفروض من أعلى، سواء كان طبقياً أو مؤسسياً. بالطبع لم يمنع ذلك التداخل بين عناصر من هنا وهناك في نمط الاستهلاك تمكن الطبقات الفقرية، والتي لا تمثل النخب من «قدرة»، على صناعة حياة تشبههم. نمط (Pop Culture) كنموذج اجتماعي وظاهرة محورية قبل أن تكون ظاهرة فنية يمكن تقسيمها لمراحل ثلاث، مرحلة ما قبل الحرب وتتمثل في استهلاك الأشياء (1940- 1960)، المرحلة الثانية هي تجريب أنماط جديدة من العلاقات الاجتماعية لعلنا نذكر الهييز والعيش جماعياً على أطراف الغابات (1965- 1980)، وأخيراً المرحلة الثالثة المستمرة حتى الآن وهي استهلاك الصور وإعادة تدويرها على وسائل التواصل ( 1980- الآن).

رمزية صعود ملايين شباب الجنود الأمريكان إلى مستوى القدرة، وهدم تراتبية الطبقات ونموذجها، تسلل بالتدريج إلى بقية المجتمعات، إلى فرنسا وثورتها الطلابية 1968، وإلى مصر وحركة الطلاب السبعينية، ثم أخذ التاريخ مساره ما بين الهزيمة والمكسب، ليس بنفس الشكل ولا التفاصيل، يمكننا القول بوجه عام إنه أصبح هناك وعي بالفرد، كفاعل بمعزل عن طبقته، متزايد وحاسم في المقاومة والتفاوض مع السلطة وخيار الاختيار.

أين الحياة البديلة

يبدو خيار الحياة البديلة إذن ضد ما هو رائج ومفروض ولا يتمتع بأداء مرضي، مع توافر القدرة على التغيير، أي تحقيق المخيلة وتشارك خطاب محدد لتطبيقه على الأرض. السؤال المشروع يدور حتماً حول هل يعد ذلك امتيازاً طبقياً جديداً، أم حركة احتجاجية، أم مجرد ممارسة لحرية شخصية تتعلق بالمعتقد حول نمط الحياة؟ على سبيل المثال خيار الفرد للعيش في مجموعات تحترم البيئة بشكل صارم بإحياء فكرة القرية الإيكو على الطراز القديم والتي يعمل بها الجميع بشكل مضن وقاس طول اليوم، لا تختلف عن حياة الفلاح بصورته النمطية، ما الفارق إذن، المبدأ البيئي أم مبدأ التميز أم القدرة على الخيار مهما كانت نتائجه؟ من يختارون مبدأ التعليم بالبيت للأطفال وخلق بيئة (صحية) وانتقائية مسيطر عليها تماماً لأسباب دينية أو لتدني مستوى التعليم  العام والمطروح (وهي مشكلة عالمية جداً) أليس ذلك هو ما كان عليه الأمر قبل دمقرطة التعليم وإتاحته للجميع في مدارس أصبحت طقساً يومياً في حياة كل طفل في أي مكان بالعالم اليوم؟ ألا يوجد شك في تلك القدرة التي ترى نفسها تسعى للحلول الفردية إلى خلق كومباوندات بكل أشكالها مغلقة على أصحابها الذين يتشابهون في القيم ويتشاركون نمط حياة موحد وفكر موحد، هل يتحول العالم لجزر منعزلة ومريحة ومألوفة بدرجات متفاوتة؟ أليس هو الحال أصلاً؟ أين ستوجد إذن الجماعات المتجانسة والمختلفة التي تتفاوض طول الوقت للتجاور، أو تتشابك بكل الأشكال لصنع ثقافة متنوعة وثرية؟ هل ستوجد فقط لدى من لا يمتلكون القدرة على كامباوند سكني، تعليم منزلي، بيئة تحترم التوازن الإيكولوجي والطعام العضوي؟

هل الحياة البديلة كمفهوم ستؤدي لهيلكة إنسانية جديدة توسع الفارق ما بين من يمتلكون القدرة على الفعل والتغير والمعاناة الفردية المحضة وبقية الآخرين، من لا يتمتعون بأي قدرة على الفعل؟ هل القدرة على الفعل والتغير تصبح رفاهية طبقية مغلقة، أم هي نواة إنسانية جديدة تسعى للتطور بمفاهيم أخرى صديقة للبيئة والإنسان وكوكب الأرض؟ وبشكل أنثربولوجي بحت لأي فريق فرص أكبر للبقاء؟

يمكننا طرح السؤال بشكل آخر أكثر تبسيطاً، هل العالم أوسع مما نحتمل، وعلينا تضييق حدوده بشكل يسمح لنا بعدم الانهزام الفردي أمام تنوعه السائل والسيطرة على جودة الحياة؟ لكن هذا الوعي يأتي بالأساس من النظر الدائم على العالم بشكل أشمل وأكبر وربما بشكل يرعبنا ويثير غضبنا.

الحيوات البديلة المبتورة، خط زمني مستمر

لا شيء يعبر عن الكفاح من أجل حياة بديلة مثل الهجرة، بكل الأشكال الهجرة الشرعية والهجرة غير الشرعية والهجرة الاقتصادية الطويلة. الهجرة أصبحت تيمة أساسية في الأبحاث العلمية الاجتماعية والخيارات السياسية ونشرات الأخبار واستهلاك الصور والترافيك. الهجرة غالباً من البلاد الفقيرة نحو الغنية، كلها مسارات فردية وخاصة ولها ثمن يدفع لها ولها التواءات ولحظات قوية وكاشفة، الهجرة هي المسافة بين عالمين، أحدهما مرفوض وبه نترك النوستالجيا والأسرة والعاطفة والدراما والآخر فيه الأمل والعمل والعناء الحقيقي النيء والوحدة والاختلاف وفقد التوازن والمواءمات، وإعادة الوعي بالذات.  تلك حياة بين عالمين ولا تنتهي بالاستقرار في أي عالم منهما.  تشير الأرقام حول أحداث مآسي البشرية الحديثة وهي الأزمة السورية إلى حوالي أكثر من 400000 قتيل، الآلاف من الأطفال المفقودين والقتلى، ملايين الأطفال لم يذهبوا للمدرسة منذ أعوام، أطفال يموتون مجمدين من البرد القارس في مخيمات اللاجئين، زواج قاصرات طلباً لحياة لها حد أدنى من المطالب الآدمية، الآلاف مفقودة بالبحر، تجارة أعضاء مزدهرة على الحدود، موجة ضخمة من اللاجئين نحو الغرب، كلهم أرادوا حياة بديلة أيضاً وعاجلة، ذريعة أقوى من كل ما يمكن طرحه من ذرائع حول الحيوات البديلة، أقوى حتى من الهجرة الأولى للبشر بحثاً عن طعام أوفر، ومع ذلك لم تحظ تلك الحياة البديلة الطارئة بالحظ الكافي من القدرة.  من كان لهم حظ أوفر اختيروا انتقائياً لبلاد بدت متحضرة وإنسانية، بينما هي تعاني من مشكلات نسب المواليد. في البلاد الجديدة نكون فئات عرقية، لا شيء آخر، لا أم ولا أب ولا طفل ولا لغة حبيسة ولا تاريخ ممتد ولا ذكريات ضاغطة ولا تمزق نازف، نكون ذلك العرق الذي قذف بنا قسرياً لآخر العالم.

يظل الأمل، رغم ذلك، هو أقوى الأوهام، ويكون هناك دائماً بحر يجب عبوره، نحو خيار الأفضل، أو حائط لفصل الفقراء عن الأغنياء، تعزز ذلك المسافة بين الحلم والمأمول الذي يكون دائماً في مكان ما.. هناك.

لا تخلو تلك القصص من قوة وألم وتخبرنا عن حجم الحلم مدى الخسارات، مثل ذلك المراهق من السنغال الذي قطع كل المسافات الممكنة للهجرة وغرق في البحر على بُعد صغير من اليابسة الحلم، وجدوا شهادته المدرسية مخيطة بعناية بسترته، ربما تصور إنه يمكنه مقايضة مكان أليق غامض بقدرته السابقة حيثما كان يقول لسان حاله بارتباك «كنت إنساناً ولي تاريخ ولي تجذر»، مثير للإعجاب والحب.  غرق ذلك الحالم الجميل الملهم في الرابعة عشرة من عمره.

خاتمة

يبدو طرحي ربما ضد الحيوات البديلة والأمر ليس كذلك، هذا الطرح ليس ضد الاختيار المضاد للسائد، ولا لسمت أصحابها الذين يبدون مثل أبطال حقيقيين بالمعنى القديم، قادة للمجموعات التي تسعى للحياة والاستمرار على قيد الوجود، هم يسعون للأفضل ومنح معنى لحياتهم ولدوائر ملتصقة برؤيتهم. التساؤل المباح كان حول المفهوم بشكله الأوسع، وخيار التغيير الفردي بعدما انهارت كل النماذج الجمعية والمشاريع الأيديولوجية الكبرى. في النهاية ربما هكذا ما يجب أن يكون عليه العالم، حيوات صغيرة متجاورة يسعى أصحابها لإيجاد معنى خاص، وهو أمر لطيف وحالم على المستوى الفلسفي، ربما مازلنا بحاجة لنموذج ولبطل/ بطلة رغم كل الخلخلة التي حدثت في النماذج التقليدية والتفكك المستمر. وربما هو ارتداد للجماعة الأولى، حيث المجموعة هي القائدة لنفسها ولأمورها، وربما علينا أن نكون في مجموعة بشرية صغيرة أولية وضيقة، في نهاية الأمر، هذا ما تبدو عليه الحياة فعلياً إذا تجردنا من وعينا المتضخم بالعالم وبالخطابات التي صنعت ذواتنا!

ماذا نعرف -عملياً- من مدن نسكها غير حي أو اثنين، من الملايين التي تسكن مدينتنا سوى عشرات أو حتى مئات الأفراد، ربما ببساطة نحن مجبولون (رغم الاختيار) على الدوائر البسيطة والضيقة، وهنا لا معنى حقيقي للأشياء الضخمة التي تتحدث باسم الجماهير العريضة والبشرية، وربما هذا ما يجب أن يكون عليه الأمر، ثورات صغيرة غير متفجرة متجاورة لإيجاد معنى يمنح الحياة كرامة وخيارات فردية / ميكرو- جمعية تبدو مناسبة.

 نُشر هذا النص في مجلة أمكنة الصادرة في الإسكندرية، العدد 12، في كانون الأول 2019.