تعالج هذه الورقة عملية الانتقال من الريف إلى المدينة، والاضطرابات التي تخلّفها تلك العملية، لتشكّل أحد أهم العوامل في فهم دينامية الثورات العربية المعاصرة ومساراتها. وتبحث الورقة في واقع المدينة العربية قبل الثورات العربية والتطورات التي حصلت في داخل حيزها، وتعالج التحولات التي رافقت النيوليبرالية على وجه الخصوص. كما تناقش الورقة المدينة كحيز صراع دموي يشكل فضاء للصراع، وتحاول تأطير عملية الانتقال بأبعادها النفسية وأثرها على طبيعة وبنى العلاقات الاجتماعية. قراءة طيبة
“ستقتلني وتقتلك المدينة، أنا ستقتلني بكراهيتي لها وهروبي منها ومن مدنيّتها، وأنت سيقتلك سعيك ونهمك للمدينة والمدنيّة”.
الشهيد باسل الأعرج
مقدمة
المدينةُ العربيةُ اليوم أقربُ إلى ساحة معركةٍ دمويةٍ، تتصارع عليها وفي ميادينها شرائحُ اجتماعيةٌ واقتصاديةٌ متباينةٌ، وأيديولوجياتٌ وسردياتٌ عظمى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأزمة المدينة والانتقال لها. بالفعل، لقد تحولت المدينة إلى ساحة معركة- رابعة، ميدان التحرير، حلب، حمص، درعا، صنعاء، عدن، مدن فلسطين المسلوبة- وكأن المدينة بموتها تقذف بسكانها إلى عذابات المنفى في مدنٍ أخرى بعيدةٍ وباردةٍ، حيثما يجد بعضهم أمناً في ظل تشظي وتفكك الأمن في غابات الإسمنت في العالم العربي.
لا يمكن لنا فصل الأحداث المرتبطة بتحول المدينة إلى فضاء قتالٍ وصراعٍ وحربٍ عن الانتقال الجماعي إلى كنفها في سوريا ومصر وغيرها من دول عربية. يحدثنا الشهيد باسل الأعرج، في أحد نصوصه، عن السعي وراء المدينة والمدنيّة، وعملية الانتقال من حميمية الريف الفلسطيني إلى بشاعة وغُربة الإسفلت والحجر الأبيض الرقيق في رام الله، كما يورد الاقتباس في بداية الورقة. (الأعرج ٢٠١٨، ص. ٢٨٠)
تنبع هذه البشاعة، في العديد من الأحيان، من سرعة تطوّر العمارة والمدينة في ظل ضغطٍ سُكانيٍّ كبيرٍ. فمثلاً، في السنوات العشر الأخيرة تضاعفت مدينة رام الله من حيث توسعها المعماري والحضري، بل إنّ نسب التسارع في البناء شكلت عبئاً حقيقياً على البنى التحتية للمدينة، والتي لا تزال تتوسع بشكلٍ يوميٍّ، مُغيرةً من طابع وشكل المدينة. ويمكن لأي مُراقبٍ للتغيرات أن يشهد تصاعد المباني العملاقة وزيادة المؤسسات الخدمية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، ناهيك عن التغير في المناظر الطبيعية للمدن وتوسعها، وصولاً لحدود الريف، بل استحالت هذه التغيّرات جزءاً لا يتجزأ من حلم رام الله كمدينةٍ ليبراليةٍ على هوامش الاحتلال.
إذا كانت اللغة طريقة تواصلنا واتصالنا بالآخر؛ أيّ التعبير الأولي والصارخ عن كياننا الرمزي والثقافي، فإن العمارة والمدينة هما المعترك الذي تتجسد فيه خيالاتنا، فوجودنا المادي (العمارة) لا يقل أهميةً عن وجودنا الرمزي (اللغة). فعادةً ما نشهد ولادة أمراض المدن- إن صح التعبير- في سياق الدينامية التي تصعد من خلالها فضاءاتٌ واسعةٌ تحوي الآلاف والملايين من المنتقلين إلى كنف المدينة؛ أي في بروز المدن بشكلٍ متسارعٍ وأحياناً مضطربٍ، وما يحمله ذلك البروز المتسارع من تراكماتٍ نفسيةٍ وتناقضاتٍ اجتماعيةٍ تتجسد في أزماتٍ متلاحقةٍ، يمكن وصف أحد أعراضها بالاغتراب.
بعبارةٍ أخرى، لا يمكن فصل الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالوطن العربي، في سوريا، ومصر، وصولاً لتونس، دون تفكيك إشكالية الانتقال المتسارع إلى المدينة في العالم العربي، والإشكاليات النفسية والاجتماعية والسياسية والدينية والمادية التي صاحبت ولا تزال تصحب عملية الانتقال إلى المدينة. في هذا السياق، يحاجج سامر خلف قائلاً “لا يشكّل التوجه المتسارع نحو المدينة فقط معوقاً أساسياً للتطور والحداثة، بل إنها تستنزف الموارد القيّمة وتوّلد اضطرابات اجتماعية وسياسية”. (خلف ١٩٨٣، ص. ٢١٩)
لا يمكن التخفيف من وطأة المدينة على الذات، فقد أدرك “جان ايف تادييه” مركزية المكان في تشكّل الذات حين قال: “قل لي أين تعيش (أو أين لم تعد تعيش)، أقل لك ما ستحكيه” (الغانمي ٢٠٠٠، ص. ١٦١). يتضح من ذلك أنّ للمدينة حكايتها الخاصة بها وسردها الروائي والتاريخي، ما يجعل للمدينة “الموضوع” موقعاً مركزياً في تفسير سيرورة القلق والتوتر في العالم العربي، وعلاقة الفضاءات المكانية واكتظاظها بمجموعة من التقسيمات الدلالية الاجتماعية، منها الطبقي والثقافي على شاكلة ثنائية القروي والمدني، وما تنتجه من توترٍ وقلقٍ صارخين يصلان حدَّ الاغتراب. يؤكد فيصل دراج على ذلك، في وصفه لحالة الإنسان العربي بعلاقته مع المكان: “يتجلّى المكان قلقاً، قلقَ الإنسان على ذاته، وروحه موزعةٌ بين ماضيه العريق وأصالته وتشوقه للوجود الخارجي الضاغط”. (دراج ٢٠٠٤، ص.٢١).
في ضوء ما سبق، ستعالج هذه الورقة عملية الانتقال من الريف إلى المدينة، والاضطرابات التي تخلّفها تلك العملية، لتشكّل أحد أهم العوامل في فهم دينامية الثورات العربية المعاصرة ومساراتها. وبالرغم من أن العديد من الأدبيات تربط ما بين عملية الانتقال إلى المدينة والتحديث، كما يصف سعد إبراهيم، إلّا أن العالم العربي يعاني من التمدّن المتسارع، بحيث تصبح عملية الانتقال إلى المدينة عبئاً حقيقياً على عملية التحديث والتنمية في الدولة العربية الجديدة نسبياً. (إبراهيم ١٩٧٥، ص. ٣١)
لقد كشفت الثورات العربية عن عمق الأزمة التي تعتري المدن العربية، وعمق التباينات الطبقية والاجتماعية، وصعوبة تأقلم المدينة العربية مع عملية الانتقال المتعاظمة إليها. تتمحور المجادلة هنا بأن عملية الانتقال إلى المدينة، وصعوبة خلق الروابط بين الوافدين إلى المدينة وسُكانها السابقين، فضلاً عن صعوبة تأقلم الوافدين إلى المدينة مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي في داخل حيزها، ساهمت مُجتمعةً في خلق الاضطرابات التي أدت إلى الاحتجاجات الاجتماعية التي وصفها بعضهم بـ”الربيع العربي”.
عكست الثورات الاجتماعية والسياسية التي انتشرت في أنحاء مختلفة من العالم العربي عن امتعاض وغضب شرائح اجتماعية واسعة من نماذج التنمية الاقتصادية التي هيمنت على تلك البلدان، خاصةً مجموع السياسات التي انطوت في العديد من البلدان تحت شعار “سياسات التنمية الوطنية”، والتي بدورها لم تستطع التعاطي مع تسارع الانتقال إلى المدينة في مناطق واسعة من العالم العربي، أو التأقلم مع وفود أعداد هائلة للمدينة. كما تؤثر عملية الانتقال إلى المدينة على العلاقة معها، فتشكل التُغيرات المتسارعة في شكلها، وتوسعها الأفقي والعمودي، وصعود ثقافات مختلفة وأحياناً متباينة أو متناقضة داخلها، مسرحاً لصراعاتٍ اجتماعيةٍ أهمُها ما يدور في فلك التناقضات الطبقية والثقافية.
تمثّلت إحدى نتائج “الانتفاضات العربية” في وضع العديد من السياسات الحكومية تحت مجهرٍ نقديٍّ. بالرغم من ذلك، لم تلقَ المدينة كموضوعٍ اهتماماً واسعاً. ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال المنشورات التي تناولت المدنية في العالم العربي، والعدد الواسع من الأدبيات التي تناولت الربيع العربي والانتفاضات من زوايا ثقافيةٍ أو سياسيةٍ، أو عبر استحضار الاستقطاب الناجم عن سردياتٍ أيديولوجيةٍ كبرى (Abdelrahman, 2012; Ahmed, 2012; Holger and Bishara, 2011).
إن هذا الابتعاد عن موضوع المدينة، بالرغم من غزارة الإنتاج المعرفي حول الانتفاضات، يضعنا أمام تحدٍّ معرفيٍّ، مفادُه تفكيك أثر الانتقال إلى المدينة، ونتائج ذلك الأثر الذي يتجلّى في الدماء التي سالت فيها وحولها. بتعابيرَ أخرى، نعتبر أن تحليل الانتفاضات، التي بدأت في العام 2010، من خلال عدسة الديناميكيات التي تدور في فلك المدينة كفضاءٍ اجتماعيٍّ مكتظٍّ يتيح لنا فهمَ أسباب تصاعد الاحتجاجات السياسية والاجتماعية المعقدة التي مرت بها المنطقة العربية عموماً، وسوريا ومصر وتونس واليمن والبحرين تحديداً.
ستقدِّم هذه الورقة ثلاثة مداخل رئيسية، القسم الأول سيتناول واقع المدينة العربية قبل الثورات العربية والتطورات التي حصلت في داخل حيزها. تستند الحجة الرئيسية على مقولة “دافيد هارفي” التي تموضع عملية الانتقال إلى المدينة داخل سيرورة العجلة الاقتصادية، والتحولات التي رافقت تغلغل شكلٍ متأخرٍ من الرأسمالية؛ أي النيوليبرالية. كما يقدم القسم أيضاً تفسيراتٍ محليةً لعملية الانتقال؛ أي الأسباب المناخية والبيئية والثقافية والاجتماعية والديموغرافية الني ساهمت في تسارع نسب انتقال سُكان الريف إلى المدينة. في القسم الثاني، نبحث في موضوع المدينة كحيز صراعٍ دمويٍّ، ليُجسد اليوم فضاء الصراع الأوضح في عالم تزداد فيه أهمية المُدن على حساب الأرياف وغيرها من أشكال الحياة الحضرية؛ أي أن المدينة اليوم تجسد وتمثّل، في سياق توسعها، الفضاءَ الأهمَ للصراع على حساب رؤىً كلاسيكيةٍ رأت في التكتلات الطبقية أو الاجتماعية-الهوياتية الحجرَ الأساسَ للصراع في سياق العالم العربي. أمّا في القسم الثالث، فسنؤطر عملية الانتقال في أبعادها النفسية، وأثرها على طبيعة العلاقات الاجتماعية وبنيتها.
المدينة العربية قبل الانتفاضات: التحضّر في العالم العربي
لا شكّ أن تغلغل الاستعمار في الرحم الاجتماعي العربي رافَقَ صعود ونشأة المدينة وبدايات انتقال الريف إليها، إذ إنّ حاجة المستعمر ووكلائه لإداراتٍ مؤسساتيةٍ وحكوميةٍ وعمالٍ في شتى أنواع الوظائف أدّت دوراً استقطابياً في عملية جذب الريف إلى المدينة. لذلك، نجد أن غالبية المدن العربية تُقسَّم إلى قسمين؛ النواة القديمة أو المدينة القديمة والأحياء التي تدور في فلكها وبُنيت على هامشها، بحيث قُسِّمت المدينة طبقياً ما بين من سكن أحياءها المترفة من النواة القديمة وأحياء زاهية جديدة، وبين مَنْ عُزل في هوامشها في تكتّلات الفقر ومدن الصفائح. (مقبول ٢٠١٦، ص. ٤٨) وكأننا في مدينتين؛ مدينة الغبن والفقر، ومدينة الثراء وقاطنوها من “الخواجات”.
تستدعي هذه السيرورة التاريخية لتشكُّل المدينة العربية الحداثية فهمَ تلك الفضاءات المتباينة والمتصلة في آنٍ -مدينة الفقر ومدينة الثراء- كونَ هذا الانقسام الحضري يقدّم في طيّاته بعضاً من أجوبتنا حول الاضطرابات التي يولدها النزوح نحو المدينة. وبالرغم من أهمية الإضاءة على هذا الانقسام، إلا إنه يخفي أيضاً مدى الترابط والتشابك داخل المدينة الواحدة، إذ يُبقي هذا التوزيع داخل المجال الحضري الطبقةَ العاملةَ في مساحةٍ مكانيةٍ قريبةٍ من مركز رأس المال، خاصةً في المدن الكبرى مثل القاهرة، ما يجعل من وجودها واتصالها بمراكز الصناعة والدوائر الحكومية أحدَ أهم المتطلبات في قدرة المدينة على إعادة إنتاج ذاتها وتوسعها.
إنّ تركيز العمال والموظفين في مناطقَ متاخمةٍ للمدينة يشكّل، أيضاً، إمكانيةً لصعود شبكات اجتماعية عابرة؛ أيّ أنّ عملية استجلاب الفلاحين والبدو إلى المدينة تؤدي إلى خلق فضاءاتٍ مكتظةٍ ومُركزةٍ توفر بيئةً خصبةً لتركيز النضالات الاجتماعية وخلق شبكاتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ قادرةٍ على خلق أطرٍ تنظيميةٍ نقابيةٍ وحزبيةٍ لتحقيق أهدافها الاجتماعية والاقتصادية. يقول “تارو وتيلي” (Tarrow and Telly, 2006) في هذا السياق: “زيادة الأعداد في المدن تعني ازدياد احتمال تشكُّل العلاقات بين المشاركين السياسيين المحتملين، فمن خلال عملية التمدّن يُمكن تجميع العمال في المنظمات الكبيرة والعمل على تنظيم صفوف المهمّشين”. بتعبيرٍ آخر، تشكّل ظاهرة التمدن أفقاً لتقاطعاتٍ سياسيةٍ لا يمكن لها النشوء في سياق توزع وتشتت جغرافيَيْن، بل تساهم تلك العملية في إعادة تشكيل نماذج التعبئة الاجتماعية والسياسية والقدرة على الحشد.
لا يمكن لنا فهم أو إدراك تسارع التمدن والتحضّر في العالم العربي دون أن نعي العلاقات الخفية التي تربط تسارع التحضر مع الرأسمالية، فكما يعلل دافيد هارفي: “تحتاج الرأسمالية إلى التمدّن لاستيعاب المنتجات الفائضة التي تنتجها على الدوام. ومن هنا، تنبع العلاقة الداخلية بين تطور الرأسمالية والتحضر” (هارفي ٢٠١٢، ص. ٥). إنّ الحاجة إلى خلق الفائض تستدعي العمالة بالضرورة، كما أن الحاجة إلى بيع الفائض تتطلّب تحويل اقتصادات الريف إلى اقتصادات السوق؛ بمعنى تحويل الفلاح إلى مستهلكٍ، ولربما التعبير الأهم عن هذا التحول يكمُن في استجلاب الفلاح إلى المدينة. وبذلك، تكتمل عملية التحول، ليصبح الفلاح، الذي كان يعتاش على الأرض، المستهلكَ والعاملَ المثاليَّ.
في السياق عينه، يقول هارفي في كتابه “مدن متمردة”: “تبحث الرأسمالية دوماً عن فائض القيمة (الربح)، وفائض القيمة يتحقّق عن طريق (فائض الإنتاج)، وهذا يعني أن الرأسمالية تنتج دوماً فائض الإنتاج الذي يتطلب التطوير العمراني. ومن ثم ليس من المثير للدهشة أن تتوازى المنحنيات اللوجستية لنمو الناتج الرأسمالي مع المنحنيات اللوجستية لتمدّن سكان العالم”. (هارفي ٢٠١٢، ص. ٣١)
وبالرغم من أهمية المقاربة التي يقدمها “هارفي”، إلّا ان واقع التحضر في العالم العربي اتخذ منحىً غيرَ مرتبطٍ بالضرورة فقط بقوة السوق وآلياته الداخلية، بل ارتبط أيضاً بمجموعة عواملَ مناخيةٍ وسياسيةٍ وثقافيةٍ، إذ كان للتمدّن المتسارع منطقٌ مختلفٌ عن نظريات الحداثة المتبعة في تفسير النموذج الغربي، خاصةً في العقود الثلاثة الأخيرة. لكن بالمقابل، لا يمكن إنكار عمق واتساع التمدن اللذين يتّضحان من مجمل البيانات المتوافرة حول العالم العربي، وعملية التحول التي شهدها في العقود الأخيرة.
يورد تقرير منظمة “الموئل” التابعة للأمم المتحدة أنّه ما بين عامي١٩٧٠ و٢٠١٠ شهدت المنطقة تسارع نسب التمدن بما يوازي الـ ٤٠٠٪. (UN Habitat 2013)، مؤكداً على أن ما يقارب الـ ٥١٪ من جميع سكان المنطقة العربية يمكثون في المدن، بينما ستزيد النسبة تلك لتصل ٦٨٪ في العام ٢٠٥٠ كما يتنبأ التقرير (ibid). كما يذكر التقرير أسباب تسارع نسب التحضر في العالم العربي، لتتقاطع مع فشل الدولة العربية في استيعاب تحديات التنمية المتعددة، ومنها الإصلاحات الزراعية التي حاولت تطبيقها في الأرياف.
بالفعل، ترتبط الموجات الجديدة من التمدّن المتسارع بتدهور البيئة في الأرياف، أو باستمرار الجفاف في مناطقَ شاسعةٍ مثل سوريا، أو بالجفاف والفقر وغيرها من أسباب تتعلق باختلالاتٍ في الطبيعية والمناخ (ibid). لذلك، يجب التفرقة ما بين التوسع الحضري في داخل المدينة المستند إلى التوسع الرأسمالي، والآخر المرتبط بأسباب خارجية المنشأ. ففي الحالة الأولى، تشكل الاستثمارات في المدن عاملاً جاذباً لأبناء الريف، ويُمكِن بالتالي احتواء العمالة الوافدة في العجلة الرأسمالية. لكن في الحالات الأخرى، تزداد وتتسارع نسب التحضر دون إمكانية استيعاب العمالة الوافدة، ما يسبب حالةً من الاختلال الاقتصادي والاجتماعي والمعماري، المرتبط بنشأة العشوائيات، أو في ازدياد نسب البطالة، أو نشأة طبقات اجتماعية جديدة تعيش على فُتات المدينة وتستقر على هامشها.
نستخلص ممّا سبق أنّ التسارع في نسب التمدن في العالم العربي يتعدّى البنى المادية ذاتها، بل يجسد تعبيراً واضحاً عن اجتماع عواملَ متعددةٍ ومُركّبةٍ، تشمل العوامل الديمغرافية وازدياد نسب التعليم، ما يعني توجُّه فئات وشرائح واسعة نحو المدن لتوائِم ما بين تأهيلها العلمي والعمل، فضلاً عن الأسباب المناخية والبيئية، وتلك الاقتصادية التي تنبع من العجلة الرأسمالية وحاجتها للعمال.
أدى تسارع وفود أعدادٍ هائلةٍ إلى المدن إلى ضيق المساحات المكانية التي يمكنها استيعاب الطاقة السكانية المهاجرة، الأمر الذي ساهم في إنشاء هوامشَ معماريةٍ في فراغاتها، كما يجسّد سكان المقابر في القاهرة، ويُطلق على تلك الفراغات الصاعدة مُسمّى العشوائيات أو أحياء الصفائح التي تتكاثر عالمياً، إذ إنّ حالة التمدن المتسارع لا يمكن قصرها على العالم العربي فقط. وقد قدم “دافيد هارفي” مقاربةً عن أثر التمدن المتسارع في العالم، حين وصف هذه الظاهرة بأنها الظاهرة الأهم في القرن الواحد والعشرين، وبأنها تنذر باستبدال فضاء المدينة التقسيماتِ الطبقيةَ الماركسيةَ التقليديةَ- عمال ورأسمال- الناتجة عن فضاءات العمل على وجه التحديد، بالشرائح المتولدة من تناقضات ذلك الفضاء الفجة والمُختلة التي ستحكم الصراعات في القرن الواحد والعشرين. فما يصبو إليه “هارفي”، في كتابه “مدن متمردة”، هو إعادة تعريف المدينة كفضاءٍ للصراع الطبقي، بدلاً من النظر إلى فضاء العمل (المصانع مثلاً) كمسرحٍ للصراع.
إنّ صعود مدن الصفائح والعشوائيات على هوامش المدن يشكِّل نقلةً نوعيةً في فهم واقع المدينة العربية ومآلاتها وتفجّر الصراعات حولها وفي طياتها، فكما تؤكد “جانيت أبو لُغد” في بحثٍ لها تناول التقسيمات المجالية الحضرية في مدينة الرباط أنّ تشكُّل تلك الهوامش المكانية والمعمارية يعبّر عن اختلالٍ مجاليٍّ صارخٍ، وعن أزماتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ، بل في سياقها تتشكَّل المدينة بغاية الحفاظ على فصل الطبقات/الشرائح بعضها عن بعض، لتكون تلك الفواصل المجالية تعبيراً عن نظام التمييز الحضري (ْUrban Apartheid) (Lughod 1980, p.131). وتُعرف “أبو لغُد” هذا التقسيم بمصطلح “التمييز الحضري”، على اعتبار أنه في طيات التقسيمات التي شهدتها مدينة الرباط وبتأثّرٍ واضحٍ من السياسات التي فرضها الاستعمار الفرنسي، تم تشكيل مدينتين؛ إحداهما مدينة القوة ومركزها والتي تُمنح ميزاتٍ هائلةً، والأخرى هي المدينة العشوائية والموازية، التي لا ترتقي لتكون جزءاً من عملية التخطيط الحضري المركزي المتبع في المدن الكبرى. (ibid)
إنّ التحولات التي شهدتها المدينة العربية في العقود المنصرفة الأخيرة تُعبّر عن عمق الأزمة التي خلّفتها سياساتٌ متنوعةٌ إنمائيةٌ واقتصاديةٌ لم تستطع مواءمة نفسها لواقع التغيرات المتسارعة تلك، وعمَّقت بدورها من الاضطرابات الاجتماعية الناتجة. فما تواجهه المدن العربية هي نفس التحديات التي تواجهها مدنٌ أخرى؛ من خصخصةٍ تتعرض لها القطاعات العامة، خاصةً تلك المرتبطة بالخدمات الأساسية كخصخصة خدمات الكهرباء، أو من إعلاء الأنظمة المالية، والتي ساهمت في رفع أسعار الأراضي. كما ساهمت مجموعةٌ من العوامل المجتمعة في خلق أفقٍ للاضطرابات التي تجسدت بما شهدته فضاءاتٌ مدنيةٌ واسعةٌ من التظاهرات والانتفاضات. فكيف لنا هنا أن نتجاهل حقيقة أن الثورات العربية بمجملها اتخذت من المدينة محطةً مركزيةً في صراعها مع الأنظمة الحاكمة، من المنامة وتونس والقاهرة، مروراً بدمشق وحلب، وصولاً إلى صنعاء وعدن؟ فحتى عندما انتقلت الثورات إلى الريف، جاء ذلك الانتقال بعد انسداد أفق المدينة كمحطةٍ في الصراع الدائر، والذي انتهى إلى حروبٍ أهليةٍ في كثيرٍ من المناطق العربية.
إنّ السياسات الحكومية التي نفّذتها الوزارات والهيئات العامة والبلديات بين الأعوام ١٩٩٠ و٢٠١٠ في مدنٍ كالقاهرة ودمشق لم تُجارِ تسارع التمدّن في فضاءاتها، خاصةً على صعيد توفير الخدمات الاجتماعية والبنى التحتية، ما ساهم في انتشار السكن العشوائي/غير القانوني، وانتشار اقتصاداتٍ غيرِ رسميةٍ في هوامش المدن تلك (مصيلحي ٢٠١٧، ص.٣٤). كما أدّت السياسات النيوليبرالية- تحرير الأسواق- وإعادة الهيكلة الاقتصادية في العالم العربي- خاصةً في الدول غير النفطية- إلى محاولة جذب استثماراتٍ ساهمت في تطوّر بناءٍ معماريٍّ اقتصر على قطاعاتٍ معينةٍ مثل السياحة في مصر، أو بناء مدنٍ للطبقات النخبوية الوسطى والعليا، مثل روابي في فلسطين.
أتت معظم تلك الاستثمارات من الدول الغنية بالنفط، مؤكدةً على الاختلال الجيو-اقتصادي الذي تعاني منه المنطقة، والذي ساهم بدوره في ازدياد التمدن، خاصةً من قبل الأيدي العاملة العربية الوافدة إلى الدول الغنية بالنفط. هذا الاختلال على صعيد المنطقة تجسَّد أيضاً داخل الأقطار من خلال كثافة الاستثمار في المدن، وضحالته على صعيد الأرياف، ما أدى الى تعميق اختلالات التنمية الإقليمية (Luciani 2015, p.84). بعبارةٍ أخرى، إن النموذج الاقتصادي الحضري القائم على الريع، ولا سيما في تجربته في التسعينيات والألفية من خلال نهج “المشاريع الضخمة”، هو مصدرٌ رئيسيٌّ لأوجه القصور والإخفاقات لحكومات المنطقة. إن الصورة التي سبقت الاضطرابات الاجتماعية في المدن الكبرى العربية قاتمةٌ؛ أعدادٌ هائلةٌ ترحل إلى المدينة، وفي داخل هذا الرحيل والهجرة إليها بذورُ الثورات العربية والتمرد الاجتماعي والصراع على الفضاءات العامة التي بدأت في العام٢٠١٠ ولم تنتهِ إلى يومنا هذا. فكيف لنا ان نقرأ المدينة كحيزٍ وفضاءِ صراعٍ، وما هي أوجهه؟
المدينةُ كفضاءِ صراعٍ: دموية الانتقال
يقّدم “دافيد هارفي”، في كتابه “مدن متمرّدة”، مقاربةً جديدةً حول مركزية المدينة في الصراعات السياسية. ولربما أهم ما ورد في كتابه يتعلق بأهمية تشكّل شرائح اجتماعية متنوعة داخل المدينة لا تتسق مع المنظور الماركسي الصناعي الكلاسيكي للطبقات، والتي بمنظور “هارفي” ستمثّل بنيةً أساسيةً في الحركات الاجتماعية والسياسية في عالم اليوم، إذ يقول: “الطبقة العاملة اليوم هي جزءٌ من مجموعة أوسع من الطبقات/الشرائح التي تُركز صراعتها على المدينة نفسها. بمعنى آخر، يمكن استبدال المفهوم التقليدي للصراع الطبقي بصراع جميع من ينتج ويعيد إنتاج الحياة الحضرية”.
بينما يُركز “هارفي” على الأبعاد الاجتماعية المرتبطة بتشكل طبقاتٍ متنوعةٍ ومتباينةٍ في علائقيةٍ مضطربةٍ داخل الحيز الحضري، يؤكد “دافيد كاكلاين” على انتقال الحرب من الجبال إلى المدن، ومن الأرياف إلى الغابات الإسمنتية التي تصعد بشكلٍ متسارعٍ في أنحاء الكرة الأرضية، قائلاً: “سوف يتنافس المزيد من الناس، أكثر من أي وقتٍ مضى في التاريخ، على الموارد الشحيحة والنادرة في مناطق سيئة الإدارة، والتي تفتقر إلى البنية التحتية، وسوف ترتبط هذه المناطق ارتباطاً وثيقاً أكثر فأكثر بالنظام العالمي، لذا سيكون للصراع المحلي تأثيرٌ أكبرُ بكثير”. (كاكلاين ٢٠١٤، ص. ٥٠)
على إثر ذلك، إنّ النزوح نحو المدينة لأسبابٍ متعددةٍ كما ورد سابقاً، وتعاظم أهمية شبكات الاتصال، ونشأة مدن الصفيح على هوامش المراكز الحضرية، كمساحاتٍ وفراغاتٍ لا تسيطر عليها القوى القائمة، كلّها مسائلُ تعبّر عن فقدان المدينة قدرتَها على إنتاج ذاتها وسيرورتها. كما تعبّر عن التنافس المتباين داخلها بين قوىً منظمةٍ مختلفةٍ قد تأخذ اشكال الجريمة المنظمة، أو أحياناً العصيان العسكري المسلح المرتبط بأيديولوجيات وسرديات عظمى؛ كالحركات الإسلامية السلفية الجهادية في سوريا.
في الأزمنة الثورية التي تجسَّدت في مصر وتونس وسوريا واليمن عام 2010 باحتجاجاتٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ، يظهر الصراع على الحيز/الفضاء الحضري، وتتنافس داخل ذلك الحيز مختلفُ الشرائح الاجتماعية والقوى السياسية الأيديولوجية المتعايشة حتى تلك اللحظة في كنف المدينة. ولربما نجد في قمع التظاهرات وأشكال الاحتجاج المتعددة من قبل الأنظمة السياسية القائمة التجليَ الأوضحَ لذلك الصراع، فالهدف الأساسي من توظيف أدوات القمع هو إعادة السيطرة على الفضاء العام وإعادة هيمنة النظام السياسي والاقتصادي والعسكري على الحيز الحضري.
تأسيساً على ما سبق، إنّ تطويق ساحة المنامة في البحرين وهدمها من قبل النظام القائم يشكلان تعبيراً صارخاً عن خوف الأنظمة من المساحات، وقدرتها على إعطاب سيرورة المدينة “الطبيعية”. لذلك، ليس من المستغرب استحداثُ الجدران في وسط القاهرة لإغلاق الشوارع والتحكم بمن يستطيع الوصول إلى الميادين الرئيسية، كما ليس من المستغرب قيامُ الآلة العسكرية السورية بقصف وتدمير مدن أو أحياء تبدو تقسيماتها مرتبطةً بتسارع التمدن في سوريا، من عظمة مخيم اليرموك كعاصمةٍ للشتات الفلسطيني والريف الدمشقي إلى تهالكه اليوم.
إنّ شكل الصراعات داخل المدينة وحولها يتسق مع مداخلة “كاكلاين” النظرية، والتي حاولت أن تؤسس لضرورات الحرب في كنف المدينة، فما يضع قوى في أفضلية أمام القوى المنافسة هو القدرة على تأسيس منظومةٍ معياريةٍ إداريةٍ يمكن لسكان المدن التعاطي معها والتعامل داخل طياتها. يقول “كاكلاين”: “في النزاعات العادية- أيّ في النزاعات التي يكون فيها أحدُ المقاتلين على الأقل جزءاً من جماعةٍ مسلحةٍ غيرِ تابعةٍ للدولة- يصبح العنصر المسلح الذي يقدم للسكان المعنيين نظامَ حكمٍ معياريّاً واسعَ النطاق ومتّسقاً، ويمكن التنبؤ به، متمتّعاً بأفضليةٍ في السيطرة على السكان والمناطق السكنية”. (كاكلاين ٢٠١٤، ص. ١٢٦)
بذلك، يصبح التدمير- أي تفتيت المعالم والعمران- أحدَ عوامل النجاح في الحرب، لأنه يُمكّن القوى المدمّرة من منع صعود نظامٍ حكمٍ معياريٍّ ومستقرٍ في المناطق التي لا يسيطر عليها، ويحوّل المعركة إلى تلك المناطق، بينما يحافظ على أنظمة الحكم في المناطق المُسيطر عليها، لتكون بذلك ثنائيةُ الدمار/الإعمار في سوريا ثنائيةً قائمةً على التنافسية بين القوى المتصارعة، وقدرة كلٍّ من تلك القوى على توفير أنظمة حكم معيارية لقاطني المجالات الفضائية المرتبطة بها.
تعكس فترات التغيير، أو الأزمنة الثورية بشكلها الحالي في العالم العربي، الأزمةَ التي تعتري المدينة العربية وتسارع نموها، كما تعكس أيضاً عدم انسيابية التغيير، بحيث لا تنطلق من زمنٍ إلى آخر دون مواجهة مقاومة فئاتٍ وعناصرَ اجتماعيةٍ تريد من المدينة البقاء على حالها، أو بدون كثافة الدمار كما في سوريا، بغية تغيير المدينة بما يتسق مع مصالحها الطبقية أو السياسية أو الطائفية.
إنّ الصراع على المدينة كفضاءٍ عامٍ يوفر فرصةَ تحولٍ، ليس فقط للقوى التي تناشد بالتغيير، بل أيضا للقوى التي تُناشد باستمرار الوضع القائم. المفارقة أنّه حتى عندما تنتصر القوى التي تريد استتباب الوضع القائم، فهي تعمل على إعادة إنتاج المدينة بما يتسق مع تطلعاتها، بل بتدمير فضاءاتٍ واسعةٍ تسمح بقيام خطط حضرية جديدة تُعنى بإعادة تخطيط المدينة، بما يضمن استمراريتها وهيمنتها على فضاء المدينة. بتعبيرٍ آخر، لا تبقى المدينة كما هي حتى لو انتصرت القوى السياسية والاجتماعية التي ترى في الوضع القائم ملاذها، على اعتبار أنّ الدمار يتيح إعادة هيكلة المدينة، الأمر الذي يساعد على إغلاق فجواتٍ أظهرتها الاحتجاجات، خاصةً في أنظمة السيطرة والتحكم.
هوية المدينة في العالم العربي: اغتراب الاكتظاظ
لا يمكن إغفال أن التسارع في التمدن لم يقابله التسارع في نشأة الهوية المدنية، كما يوضح “سعد إبراهيم” في مقاربته حول التمدن في العالم العربي (إبراهيم ١٩٧٥، ص. ٣٤). ولهذه المسألة آثارٌ وخيمةٌ، خاصةً وأن وفود الملايين من الريف إلى المدن لا يُترجم إلى تغيّرٍ في طبيعة المنظور الثقافي المختلف والمتباين ما بين المدينة والقرية، بمعنى لا يصاحب هذا الانتقال تغيّراً هيكليّاً في طبيعة هوية المنتقل؛ الأمر الذي يؤجّج علاقةً مضطربةً ما بين المنتقل والحيز الحضري الذي يعيش في كنفه، ويؤجّجها كذلك الافتقار لفرص العمل، وغيرها من عواملَ خارجيةٍ ضاغطةٍ تولِّد الانفجارات والصراعات في فضاء المدينة.
كأنّ المدينة تجذب الفقراء لتقذف بهم إلى هامشها، حيث لا تتوافر إمكانيةُ اندماجٍ حقيقيٍّ بين شرائحها. فبعيداً عن الجدران الحقيقية التي تعتلي الكثير من المدن وتقسّم طبقاتها إلى أحياء ومناطق سكنية مختلفة، ثمّة جدرانٌ ثقافيةٌ وطبقيةٌ خفيةٌ أيضاً تلعب دورها في فصل شرائح المدينة. يعبّر هذا التناقض الثقافوي ما بين شرائحَ اجتماعيةٍ متباينةٍ عن عنصرٍ من عناصر التجاذبات التي تتصارع في داخل الحيز الحضري، وقد وجدت تعبيرها في الاضطرابات الاجتماعية التي صاحبت الانتفاضات العربية.
يتقاطع ما سبق مع ما يعبّر عنه “عبد الله البياري” بالقول: “للمدينة طريقتُها في خلق حالةٍ من النقضان او الاغتراب عنها، لا ننتمي إليها بجميع تفاصيلها ومكوناتها، ولكننا ننتمي، نتصارع حولها وفي داخلها وعليها، ولكننا نشعر ببعدنا عنها. في هذه الحالة السائلة… مجالٌ واسعٌ من العلاقات الاجتماعية المتشظية التي تضحي قوةً ميكانيكيةً في تأجيج الصراعات الهوياتية والثقافية حول وداخل فضاء المدينة، تُفضي بالنهاية لدموية الانتقال إليها”. (البياري ٢٠١٨)
إنّ ما يعتري الرحيل إلى المدينة ليس فقط عملية الانتقال من حيزٍ مكانيٍّ (القرية) إلى آخر (المدينة)، بل ما تصنعه عملية الانتقال هذه من اختلافٍ بنيويٍّ في طبيعة العلاقات الاجتماعية وبنيتها، وما تخلّفه تلك الاختلالات من حالاتٍ قد نطلق عليها مشاعرَ الاغتراب، إذ إن فردانية المدينة لا تتسق مثلاً مع حميمية الريف، كما أنّ سيولة العلاقات الاجتماعية في المدن لا تتسق بالضرورة مع معياريتها في الريف، فالانتقال إلى المدينة هو انتقالٌ يصبُّ في جوهر الحياة اليومية وطبيعة العلاقات الاجتماعية التي تحكم اليومي.
وكما هي الإعلانات السياحية التي عادةً ما تُظهِر جمال المدن وتخفي ظلماتها، فما يعتري المدينة هو واقعها الأليم الذي يقضُّ ويزعزع هوية مَنْ يأتونها بحثاً عن قوتٍ لعوائلهم، منسلخين عن تراب القرية وحميميتها. في هذا الصدد، يقدّم لنا “جورج زيمل” مقاربةً مفادُها أنّ العلاقات الاجتماعية التي تتميز بها الفضاءات الحضرية هي تلك التي تُعلي من الفرد، فالمدنيّة ليست فقط المعمار والبنى التحتية وشبكات الاتصال، بل هي أيضاً مجموع وطبيعة التفاعلات بين الأفراد في داخل الحيز الحضري ومدى القرب والبعد الذي تجسده تلك التفاعلات.
كلما ازداد أعداد السكان في المدينة وارتفعت معدلات النمو الطبيعي والخارجي للمدينة، كلما عَظُمَت تباينات سكان المدينة وعدم تجانسهم. فكما يقول زيمل، “بدلاً من فرض الالتزام بحياةٍ مشتركةٍ في ما بينهم، فإن المشاركين في الفضاء الحضري يفرضون مسافةً بين بعضهم البعض، ما يسمح لهم بإدارة شؤونهم العابرة، والحفاظ على انتمائهم الفريد/الفرداني.” (زيمل ١٩٠٥)
إننا، بذلك، أمام مفارقةٍ غريبةٍ بعض الشيء، إذ يفترض بكثافة المدن التهيئة لقربٍ جغرافيٍّ يسمح بصعود تكتلاتٍ سياسيةٍ فاعلةٍ، غير أن هذا القرب يخفي مسافاتٍ عاطفيةً واجتماعيةً ترتبط باختلاف شكل العلاقة ونمط الحياة اليومي ما بين الريف والمدينة. من ناحيةٍ، تعتبر المدينة ملتقىً. ومن ناحيةٍ أخرى، تشكّل المدينة حالةً من عدم الثقة، والبعد الداخلي بين الجارِ والجار.
وفي سعي الذات أو الفرد لمكاسبَ ماليةٍ في سياق المدينة، يستحيل الفرد أحاديَ التفكير والوجهة، ليتجاهل الفرد الأنشطة الخارجية التي تربط الأفراد ببعضهم البعض، خصوصاً في الجوانب الثقافية والاجتماعية. لذلك، يمكن لنا فهم طبيعة الاحتجاجات التي اندلعت في العام ٢٠١٠، والتي نبعت من حاجةٍ ملحةٍ لإحداث التغيير في الأنظمة السياسية والاقتصادية لقصورها، ولكنها أيضاً بقيت احتجاجاتٍ سائلةً تفتقر إلى ما يُمركزها ويُحركها أو يوحّد جهودها في بنى سياسية وتنظيمية واجتماعية على شاكلة الأحزاب والنقابات.
في السياق عينه، يقارب “عبد الرحمن الرشيق” تلك المسألة، في بحثه الذي يعالج السياسة العمرانية والعلاقات الاجتماعية في المغرب، على اعتبار أن طبيعة الحركات السياسية في المغرب تفتقر إلى امتدادٍ مكانيٍّ، إذ يقول: “المشاركون فـي هـذه الـحـركـات الاجتماعية الـتـي تهيمن على الساحة الاعلامية وتحتل باستمرار الـمـجـال الـعـمـومـي عـبـر وقـفـات ومـسـيـرات وتـظـاهـرات، والـتـي مـن شـأنـهـا خـلـق العـلاقات الاجـتـمـاعـيـة وتـوطـيـدهـا، لـيـسـوا فـاعـلـيـن ديناميكيين داخــل الأحياء؛ فـالـفـاعـلـون الاجتماعيون والـسـيـاسـيـون الـذيـن يقودون الحركات الاجتماعية يشتغلون غالباً خــارج الـفـضـاء الـحـمـيـمـي الــذي تـمـثـلـه الأحياء، أيّ أن هـذه الـحـركـات لـيـست لـهـا امـتـداداتٌ مـجـالـيـةٌ واجـتـمـاعـيـةٌ فـي الأحياء”. (الرشيق ٢٠١٦، ص.١٤)
يشكّل هذا البُعد عن تشكل روابط للأحياء عقبةً حقيقيةً في قدرة الاحتجاجات التي اندلعت في العالم العربي على الانتشار والحفاظ على وتيرتها، فكما تتشكل المدينة في ظل التأكيد على فردانية سُكانها، تُضحي الاحتجاجات أيضاً محضَ كرٍّ وفرٍّ لا تتوفّر فيها عوامل الديمومة، في ظل غياب أفقٍ لربط المكاني مع الاحتجاجي، أو توحيد الجهود في أطرٍ تنظيميةٍ ترتكز على الأحياء والعشوائيات وهوامش المدن، وتنطلق منها صوب مركز المدن المكتظة والمضطربة.
يجدر لفت الانتباه، هنا، إلى أنّ الريف لم ينتقل إلى المدينة فحسب، فالمدينة توسعت لتلتصق في الريف، إذ إنّها لا تُشكل فقط وجهةً للفلاح؛ أي الأرض الموعودة، بل إن توسعها المعماري قد أدى إلى ارتباط المدن مع الأرياف، بحيث أصبحت المسافات المُتخيلة والواقعية متلاصقةً. إن المدينة بتوسعها تصل حدودَ القرية، وتنقلها من حالةٍ إلى أخرى، فتصبح الأرض الريفية- مثلاً- مجالاً للتوسع الحضري من أحياء مترفة وجديدة، مثل مدينة “روابي” التي بُنيت على قربٍ من رام الله، وفي ريفها الشمالي.
نحن، في هذه الحالة، أمام “ترييفٍ للمدينة وتمدينٍ للريف”، وما يصاحب تلك العملية من عملية انتقالٍ قيميةٍ معياريةٍ في طبيعة العلاقات الاجتماعية وتفاعلاتها. ففي الوقت الذي توفر المدينة فيه بيئةً خصبةً للمجهولية، وما يصاحب المجهولية من ضغوطٍ أقل، خاصةً في مجال الخيارات اليومية، تُؤدّي أيضاً عملية تمدين الريف وانتقال الريف إلى المدينة إلى تفتّت أوصال العلاقات الاجتماعية الحميمية، والتي تستند إلى بنية العائلات الكبيرة في خلق إمكانيات النجاة المادية.
في السياق ذاته، يشير “عبد الرحمن الرشيق” إلى الاختلاف الذي أصاب علاقات الجيرة في المغرب، تحديداً في الرباط، إذ أضحت سطحيةً وتفتقر لعمق الروابط التي اتسمت بها في السابق. يحاجج الرشيق بالقول: “إن المجتمع الحضري مجتمعُ أفرادٍ، تحكمه أساساً علاقاتٌ أسريةٌ ونفعيةٌ ووظيفيةٌ؛ إذ تؤكد الأبحاث… أن علاقات الـجـوار تـُخـتـزل فـي غـالـب الأحيان إلـى تـبـادل الـتـحـيـة بـكـلـمـة صـبـاح الخير والـسلام عليكم.”
ولربما النقطة الأهم، هنا، أنّه في ظل هشاشة المجال الاجتماعي في ظلال المدن، تستثمر الأنظمة الاستبدادية والحاكمة والاستعمارية أيضاً في الإبقاء على تلك المجالات هشةً، فالتخطيط الحضري يُوظَّف في العديد من الأحيان في عملية خلق آليات ضبطٍ وتحكّمٍ تساهم في عملية تشظي التظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية، بل يتم من خلال التخطيط تبني أنظمةٍ عمرانيةٍ معينةٍ للتأكيد على فصل العوائل عن بعضها البعض، وفصل إمكانيات توطيد العلاقات الاجتماعية من خلال شح الاستثمار في الأماكن العامة الترفيهية والثقافية، بل في تحويل التخطيط أداةً في محاولةٍ للتعزيز من التفاوتات الطبقية بين شرائح اجتماعية واسعة.
يتقاطع هذا التحليل مع المقاربة التي قدّمها “جميل هلال” حول مدينتي رام الله والبيرة، إذ يؤكّد أن الفاعلين الأساسيين في تحديد هويتيهما العمرانية وتخطيطهما الحضري مُشكّلون من ثلاثة عناصر؛ وهي: الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وما يمثل وجوده من خنقٍ للحيز المكاني على شاكلة معازل مُجزّأة، والسلطة الفلسطينية وما تجسده من علاقاتٍ طبقيةٍ ظاهرةٍ تعيد إنتاجها في سياق العمارة الفلسطينية، خاصةً في مدينة رام الله، ورأس المال المحلي والذي يساهم في عملية تسليع الأرض وتحويل المجال المكاني إلى ربحٍ يعلي من شأن القطاعات الخدمية على حساب القطاعات الانتاجية. (هلال ٢٠١٥، ص. ١٢)
ما يُفضي إليه هذا التحليل أن التخطيط الحضري لا يمكن فصله عن المكونات الطبقية والاجتماعية، بل لا يمكن فصله عن إمكانيات خلق فضاءات مشتركة تعمل على خلق روابط وأوصال اجتماعية تقودنا بالنهاية إلى اللُحمة الاجتماعية. بتعبيرٍ آخر، إننا أمام غُربة الانتقال من القرية إلى المدينة، وغربة تمدين القرية من خلال توسع المدينة، والغُربة المكانية التي تتجسد في أنماط العمارة والتخطيط لها على صعيد الهيئات المحلية والبلديات، وما يصاحب ذلك من إخلالٍ في بنية العلاقات الاجتماعية، مُساهماً في تفتتها وتشظيها.
خاتمة
إنّ المجتمعات الحضرية العربية تشوبها اختلالاتٌ رئيسيةٌ، وهي ثمرةُ عقودٍ من الإهمال السياسي والتنظيمي، إذ أصبحت القضايا المرتبطة بالتمدن والتخطيط الحضري وعملية الانتقال إلى المدينة جزءاً من الإشكالية الكُبرى التي تواجه المجتمعات العربية، على نحوٍ متزايدٍ، على اعتبار أن سؤالَ المدينة، هنا، سؤالٌ جوهريٌّ وذو أبعادٍ متعددةٍ لا يمكن إنكارُها أو تجاهلُها، فالاحتجاجات الشعبية التي انتشرت في العالم العربي، والتي سرعان ما انطفأت، أعادت الاعتبار للمدينة الموضوع.
تشكل حالةُ الانتقال إلى المدينة- ما يُسمّى في مصطلحات الدراسات الحضرية “التمدّن”- إحدى الركائز الأساسية في نشأة صراعاتٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ أدت إلى اختلالاتٍ استعصى حلُّها، فكان الصراعُ الدمويٌّ على فضاء المدينة. يمكن قراءة الانتفاضات العربية من هذا المنظور، ويمكن لنا تفسير أسباب تلك الانتفاضات بناءً على عملية الانتقال إلى المدينة؛ أي ترييف المدينة، وما خلقه هذا الترييف من تلاقي شرائح اجتماعية متباينة في رحمها، أفضى بنهاية المطاف إلى اختلالاتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ عسيرةٍ لتكون جزءاً من أسباب الانتفاضات وسيرورتها.
كما يمكننا، أيضاً، قراءة شكل الصراع الذي دار في بلداتٍ متباعدةٍ ومدنٍ بسياقاتٍ مختلفةٍ- القاهرة ودرعا مثلاً- على أنه صراعٌ داخل المدينة وحولها؛ صراعٌ ما بين من يُقدّم نظامَ حكمٍ معياريّاً قابلاً للاستمرار ومن لا يتمكّن من ذلك في ظل تشظي الأنظمة على إثر الانتفاضات. تُعتبر المدينةٌ، هنا، مسرحاً للصراع ومؤججةً له. كما أنّ طابعها المتشظي يساهم في تركيز السكان في مناطقَ متلاصقةٍ. وفي الوقت ذاته، يخلق عواملَ اجتماعيةً وثقافيةً تساهم في تشكّل حراكاتٍ اجتماعيةٍ متشظيةٍ تلتقي حول أهدافٍ معينةٍ، لكنها سرعان ما تذوب في غياهب شح وسطحية العلاقات الاجتماعية.
ما هو مركزي هنا أننا لا نستطيع البدء بتفكيك عوامل نشأة الاحتجاجات العربية دون الحديث عن المدينة والمدنيّة، وفضاءاتها من الغربة، والعلاقة ما بين هوامشها ومركزها، والتمدن والانتقال إلى المدنية دون المدينية، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي لم توائِم نفسها مع تسارع الانتقال إلى كنف المدينة في العقدين المنصرفين. بكلماتٍ أخرى، إن الانتقال إلى المدينة أجَّج دموية الصراعات في أقطارٍ عربيةٍ مختلفةٍ، إذ يبقى عاملاً أساسياً في صناعة هذه الصراعات الدموية التي لا يمكن قراءتها بمعزل عنه.
…………..
المراجع
• الأعرج، باسل. (٢٠١٨). وجدت أجوبتي: هكذا تكلم الشهيد باسل الأعرج. دار رئبال، القدس- فلسطين.
• البياري، عبد الله. (٢٤ ابريل، ٢٠١٨). تأملات في المدينة: النقصان. صحيفة العربي الجديد، رابط: هنا.
• دراج، فيصل. (٢٠٠٤). عبد الرحمن منيف ومسألة التاريخ. دورية نزوى، فصلية ثقافية، العدد ٣٨.
• الغانمي، سعيد. (٢٠٠٠). ملحمة الحدود القصوى: المخيال الصحراوي في آدب إبراهيم الكوني. المركز الثقافي العربي، الرباط: المغرب.
• رشيق، عبد الرحمن. (٢٠١٦ خريف). السياسة العمرانية والعلاقات الاجتماعية في المغرب. مجلة عمران، العدد ٥، ١٨.
• مقبول، ادريس. (٢٠١٦). المدينة العربية الحديثة: قراءة سوسيو-لسانية في أعرض مرض التمدن. مجلة عمران، العدد ٤، ١٦.
• مصليحي، فتحي محمد. (٢٠١٧). المدينة العربية وتحديات التمدين في مجتمعات متحولة: القاهرة الكبرى مثالاً. مجلة عمران، العدد ٥، ٢٠.
• Abu Lughod, Janet L. (1980). Rabat: Urban Apartheid in Morocco. Princeton University Press.
• Harvey, David. (2012). Rebel Cities: From the Right to the City to the Urban Revolution. Verso, London.
• Hilal, Jamil (2015): Rethinking Palestine: settler-colonialism, neoliberalism and individualism in the West Bank and Gaza Strip. Contemporary Arab Affairs.
• Ibrahim, Saad E.M. (1975). Over-Urbanization and Under-Urbanism: The Case of the Arab World. International Journal of Middle East Studies, Vol. 6, No.1. pp-29-45.
• Khalaf, Samir. (May/June 1983). Some Salient Features of Urbanization in the Arab World. Journal of Urbanization and Social Change in the Arab World, Vol. 50, No. 300.
• Kilcullen, David. (2014). Out of the Mountains: The Coming Age of the Urban Guerilla. C. Hurst and Publishing, London.
• UN Habitat. (2013). Urbanization and Urban Risks in the Arab Region. 1st Arab Regional Conference for Disaster Risk Reduction, Aqaba.
• Simmel, Georg. (1905). The Metropolis and Mental Life. Blackwell publishing.
• Tarrow and Tilly. (2007). Contentious Politics and Social Movements. In C. Boix & S. C. Stokes (Eds.), The Oxford Handbook of Comparative Politics. New York: Oxford University Press, USA.