يُطلعنا الباحث فائق مرعي على مركزية الخيال في إنتاج واقعٍ مغايرٍ لنظيره المعيش في السياقات الاستعمارية. ينطلق من التجربة البرازيلية “فلاحون بلا أرض”، ثمّ ينقلنا إلى جامعة بيرزيت وبعض مشاريع الطلاب المعمارية تحت عنوان “واقع مغاير”.
ليس الخيال ترفاً فكريّاً، بل هو حاجةٌ ماسّةٌ للإنسانيّة عامةً، ولنا كفلسطينيين خصوصاً. لكن في الوقت الذي تبدو فيه القضية الفلسطينيّة غارقةً في أزماتٍ متتاليةٍ، يصبح التفكير في الحرية مهرباً حيناً وفعلاً مستحيلاً أحياناً. في الحالة الأولى، تغدو الحرية لامكاناً، ربّما يكون مثاليّاً، لكنّ لا طرقَ تؤدّي إليه ولا أدواتٍ لتحقيقه.
وفي الثانية، حينما يكون الفلسطيني مُحاصراً بهاجس واقعه اليوميّ الصعب ومستقبله القلِق، يصبح تصوّر هذه الحرية ضربَ استحالةٍ، فينحصر التفكير بالمقاومة في تصوّرها أداةً لدرء مخاطر آنيّةٍ، والحؤول دون تقديم تنازلاتٍ وتهاوٍ أدنى للواقع السياسي.
قد يكون سقف المقاومة هذا بفعل السياق الذي نحياه اليوم مفهوماً، لكنّه حتماً لا يغيّر من كون حقيقة المقاومة، بجوهرها وغايتها، أكبر من هذا بكثير. المقاومة بالأساس إرساءٌ للرغبة الجمعيّة للشعب، رفضاً للظلم المتمثّل بالمستعمِر، وتصورٌ وتحقيقٌ لواقعٍ أفضل تكون ذروته لحظات التحرير والعودة، لكنّه يمتدّ إلى أبعد من ذلك بكثير.
لِمَ نحلم؟
في مقابلةٍ مع أحد المشاركين في مسيرات العودة على حدود غزة، والتي تجاوزت العامين على ولادتها، سُئل شابٌّ عن هدفه من التظاهر، فكانت إجابته أنّه “سيبقى على الحدود حتى تتحرّر القدس، ويشوي جنحان الدجاج في باحات المسجد الأقصى”. تنضح إجابة الشاب هذه بالتحامٍ بالواقع المعيش بما يفوق الكثير من تصوّراتي عن التحرير، لكنّها على بساطتها وتلقائيّتها في الوقت ذاته تطرح علينا سؤالاً مُلحّاً: ما هي الحرية التي نسعى إليها؟ ما شكل الحياة بعد، وخلال، زوال هذا الاستعمار؟
يقول المفكر الشيوعي “أنطونيو غرامشي”، بانياً على “جورج سوريل”، إنّ أيَّ مشروعٍ سياسيٍّ يحتاجُ “خُرافةً” يحرّك من خلالها الجماهير؛ بمعنى حاجته إلى هدفٍ سامٍ، وإنْ كان صعب المنال. يعكس الحزبُ من خلاله أهدافه البعيدة على الواقع المعيش للناس؛ فيحثّها على المضي قدماً نحو هذا الهدف، باذلةً التضحيات الغالية، لكن الضروريّة بلا شكٍّ من أجل تحقيقه.
رأى “سوريل” في الإضراب العام الذي يشلّ الأنظمة الرأسمالية ويؤسّس هيمنة الطبقة العاملة خرافته تلك، بينما رآها “غرامشي” في الحزب العمالي الذي بمحوه للفروقات الطبقيّة في المجتمع، يزيل الحاجة إلى وجوده (أي الحزب) ذاته. في كلتا الحالتين، كانت الخرافة ذاتية التحقيق إلى حدٍّ بعيدٍ. فإنْ آمن العمّال بقدرة الإضراب على التحقق وتمكّنهم من بسط سيطرتهم على أدوات الإنتاج والمجتمع، فإنّ إيمانهم ذاته سيمكّن الإضراب من التحول إلى حقيقةٍ تشلّ رأس المال وتمكّنهم من أدوات الإنتاج، وكذلك الأمر بالنسبة للحزب.
في الواقع، يمكننا القول إنّ كلّ حركة تغييرٍ ناجحةٍ تبنّتْ فعلاً مشابهاً على خُطى “الخُرافة”، وربما كانت “دولة الخلافة” أحدثها، وإلّا ما الذي جذب آلاف الشباب من حول العالم نحو صحارى العراق وسوريا؟
في هذا المقال، سنذكر مثالاً معاصراً على دور الخيال في التصوّر والفعل السياسي لدى حركة “فلاحون بلا أرض” البرازيلية، مركّزين على الجانب التعليمي. ومن ثم سنعرض أعمالاً لطلاب الهندسة المعمارية في جامعة بيرزيت كمثالٍّ محليٍّ يسلّط الضوء على دور التعليم، وبالتالي إمكانيات الحركة الطلابية، في تصوّر أفق حركة التحرّر الفلسطينية.
“فلاحون بلا أرض”: “الميستكا” والتعليم التحرري
حركة “فلاحون بلا أرض” حركةٌ جماهيريةٌ تسعى إلى تحسين وضع فقراء الفلاحين البرازيليين من خلال الإصلاح الزراعي على المديَيْن القصير والمتوسط، ونحو الاشتراكية على المدى الأبعد. نشأت الحركة في عهد الدكتاتورية في البرازيل في ستينيات القرن الماضي. كانت بدايتها من المجموعات الكنسيّة المقاومة، والتي اتبعت “لاهوت التحرير” الداعي إلى خلاص الإنسان في الدنيا كما في الآخرة. حملت الحركة معها تراث هذه المجموعات، رغم اتباعها نهجاً علمانياً يدعو للاشتراكية ويتبع التحليل الماركسي.
في سياق البرازيل الاستعماري، حيث لا تزال نخبةٌ ضئيلةٌ تملك معظم أراضي الدولة الواسعة، تعمل الحركة على احتلال هذه الأراضي والاستفادة من القوانين البرازيلية لتحويل ملكية الأرض للفلاحين الفقراء. تمرّ عملية احتلال أيّ أرضٍ بثلاث مراحل. في المرحلة الأولى، تحتلّ مجموعةٌ من الفلاحين المنتسبين للحركة أرضاً زراعيةً مهملةً أو ذات صكّ ملكيّة مزوّرٍ.
في المرحلة الثانية، تنصب مخيماً (عادةً في أرضٍ مجاورةٍ ملكيتها عامةٌ) وتدأب على حمايته من الشرطة والعصابات التابعة للملّاك. أخيراً، حينما تنجح الحركة بانتزاع ملكية الأرض في المحاكم بعد أشهرٍ أو سنواتٍ، تنتقل المجموعة من المخيّم إلى قريةٍ تبنيها على الأرض الزراعية وتستقرّ فيها.
في نضالٍ طويل الأمد كهذا، يُنتزع الفلاح والعامل من بيئاتهم المألوفة حيث العبودية الحديثة، حاملين على عاتقهم بناء واقعٍ جديدٍ. تستند الحركة إلى الخيال وتصوّر المستقبل بغية بناء أواصر الثقة والهوية المشتركة بين الفلاحين المنتمين للحركة، وزيادة إيمانهم بعدالة قضيتهم وقدرتهم على الانتصار لها، بجانب ترسيخ القيم والأهداف التي تسعى الحركة إليها.
“الميستكا”
تعرّف حركة “فلاحون بلا أرض” “الميستكا” بوصفها “طرقاً مختلفةً من التحفيز، نطرق بابها لنستحثّ قوانا لإكمال النضال في سبيل قضيةٍ عادلةٍ، ساعين إلى تقريب المستقبل المنشود خطوةً نحو اللحظة الراهنة”. [1] وهي، كما تقول الحركة، ذهنيّةٌ ونهجُ حياةٍ، وليست فعلاً محدوداً بالزمان والمكان. هي المستوى المجرّد من الإيمان بعدالة قضيةٍ ما، والشعور الجمعي بالتآخي في النضال في سبيلها. وهي أيضاً التمثيل الحسّي الفاعل لهذه القيم على شكل طقوسٍ وفنونٍ جماعيةٍ مختلفةٍ، كالغناء والشعر والمسرح. [2] يؤدّي هذه الفنون كلُّ أعضاء الحركة بمختلف مستوياتهم، وفيما عدا الخطوط العريضة، تكون لمصمّمي هذه الطقوس الحريةُ في تمثيل ما يريدون وكيفما يريدون.
تشتمل تلك الطقوس على تمثيلٍ لمعارك خاضتها الحركة وإحياءٍ لذكرى شهدائها، كما تنطوي على محاكاةٍ دراميّةٍ لواقع الحركة الآني وآفاقه المستقبلية، بما فيها المجتمع العادل المنشود. إنّ هذه الممارسة، كتمثيل تَحوّل مجتمع معدمي المدن والريف عبر النضال إلى فلاحين يعيشون حياةً كريمةً، ترسّخ الهدف في ذهن أعضاء الحركة كونهم عاشوه ولو محاكاةً، كما ترسّخ بفخرٍ هويتهم الجديدة كفلاحي حركة “بلا أرض”.
من جهةٍ أخرى، تُعتبر وسيلةً للترفيه، فالمستقبل المنشود هو بحدّ ذاته واقعٌ أكثر متعةً، والاندماج في تصويره يفرّغ طاقةً إبداعيّةً لدى المشاركين. بذلك، تصبح هذه الطقوس وسيلةً لتقريب الخيال من الواقع المعيش ومحاكاته، ووسيلةً تعلّميةً تترجم المفاهيم العامة إلى واقعٍ معيشٍ تنتجه وتتفاعل معه قاعدةُ الحركة وهي أميّةُ لحدٍّ كبيرٍ. وكون هذه الطقوس مقدّماتٍ للفعل، حيث تأتي في بداية كلّ اجتماعٍ أو عملية استعادة أرضٍ، فهي مربوطةٌ بشكلٍ عضويٍّ بالممارسة والتطبيق.
التعليم التحرّري
تستلهم فلسفة التعليم لدى حركة “فلاحون بلا أرض” المعلّم البرازيلي “باولو فريري”، والتي ترى أنّ الاضطهاد قائمٌ على تزييف وعي الناس، عبْر إقناعهم بعجزهم عن تغيير القدر. بذلك، يتلخّص دور التعليم التحرري في تبيان قوة الفرد الداخلية ووعيه لتحقيق واقعٍ أفضل. لذا، فإنّ التعليم هنا لا يسعى إلى إيصال حقائقَ غائبةٍ عن الناس، بل لتشجيعهم على إدراك دقة وعيهم بالاضطهاد الذي يعيشونه، وتحفيزهم للغرف من معارفهم الحية والمحلية وبناء تصوراتهم للمستقبل من أجل تغيير هذا الواقع.
في المدارس التي تديرها الحركة، يتم تطبيق هذه الفلسفة على عدة مستوياتٍ؛ أهمّها إعلاء دور الطلبة في تشكيل تجربتهم التعليمية، فيشاركون في وضع الخطط وتنسيق عمل المدرسة، وينظّمون العديد من أمورهم بنفسهم. كما ويدير الطلاب بأنفسهم حديقة المدرسة وفلاحتها، ويعبّرون عن اعتراضاتهم أو طلباتهم العامة حول التدريس من خلال الاجتماعات الشهرية بين الطلاب ممثلي الصفوف وإدارة المدرسة.
يكون للطلاب كذلك دورٌ حتي في أمر تنظيم رحلةٍ مدرسيةٍ؛ إذ يختارون وجهتها وينظّمون التمويل اللازم لها. لا يقتصر دور ومسؤولية طلاب المدارس على مدارسهم، ففي مؤتمرٍ سنويٍّ لطلاب مدارس الحركة تتمثّل فيه كلُّ منطقةٍ جغرافيةٍ بطالبٍ وطالبةٍ، يناقش الطلاب القضايا التي تهمهم مطوّلاً ويخرجون بورقةٍ تحوي قراءتهم للواقع المحلي والعالمي وتعلن عن أهدافهم للمرحلة المقبلة.
يتمثّل الهدف هنا في بناء كادرٍ طلابيٍّ ذي معرفةٍ وخبرةٍ لا تقتصران على العلوم النظرية، بل وتمتد للأمور العملية، خصوصاً تلك المتعلقة بالتنظيم والنضال. كما تمتدّ الأهداف أيضاً إلى تجذير قيم المساواة والمبادرة والتشارك في اتخاذ القرار وحمل المسؤولية، وكلها قيمٌ تراها الحركة في صلب هدفها لمجتمٍع عادلٍ. وبذلك، تكون الحركة قد استبقت إقامة هذا المجتمع بتطبيق الممكن منه في مدارسها.
“بدون هذه القيم لا يمكن الوصول إلى الهدف المنشود، وإن وصلنا وقد ابتعدنا عن هذه القيم الأساسية، فستكون قد ذهبت تضحياتنا هباءً”. [3]
في هذين المثالين من حركة “فلاحون بلا أرض”، نرى أهمية تصوّر وتطبيق واقعٍ مغايرٍ في اللحظة الراهنة. تشكّل “الميستكا” طريقةً لتقمّص الأهداف المنشودة وتحفيز النفس على العمل باتجاهها، بينما يشكّل التعليم لدى الحركة بناءً لقيم وأدوات تغيير واقع اليوم وبناء واقع الغد. فيما في المثال أدناه من جامعة بيرزيت، سنتتبع محاولةً طلابيةً من دائرة الهندسة المعمارية في إعمال الخيال في تصوّر مستقبل فلسطين حرّةً وكيفية الوصول إليه.
المعمار فلسطينياً
في واقعنا الفلسطيني، تشكّل فكرة التحرّر من الاستعمار الصهيونيّ الرؤية التي حرّكت شعبنا في ثوراتٍ وانتفاضاتٍ متتاليةٍ منذ بدايات الاستعمار حتى اللحظة هذه، وربّما تبلوّرت في أدقّ أشكالها في أوج الإنتاج الفكريّ والثقافيّ للثورة الفلسطينيّة. لكن ما ترجمتُنا لمفهوم التحرير المجرّد هذا؟ لربما كان غباش الرؤية من مجمل ما أدى بنا إلى تقبّل استسلامٍ على هيئة “دولةٍ” في أوسلو. أما اليوم، فهل لدينا كشعبٍ فلسطينيٍّ أيُّ تصورٍ عن شكل المجتمع الذي نسعى إليه؟ عن واقع المرأة فيه، أو شكل التعليم؟ عن علاقات الإنتاج ومكوّنات المجتمع؟
كلّما زاد عدد من يسأل هذه الأسئلة ويجرّب الإجابة عليها، اقترب نضالنا من تحقيق غايته. لكن في ظل ترهّل المؤسسات السياسية اليوم، حيث لا أطرَ أو هيئاتٍ تعبّر عن صوت معظم الشعب الفلسطيني، خصوصاً من هم في الشتات، فإنّ إيجاد مساحاتٍ للعمل الجماعي لمحاولة الإجابة على هذه الأسئلة يصبح ضرورةً، وهنا تمثّل الجامعة مفصلاً مهماً.
في الواقع، إن مجالاً كالعمارة يشكّل مدخلاً مناسباً لتخيّل صورةٍ عن فضائنا المستقبليّ بما يحويه من علاقاتٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ. فمن جهةٍ، تسمح لنا العمارة بالتفكير الشامل في جوانبَ عديدةٍ للحياة. ومن جهةٍ أخرى، تتطلّب العمارة معالجةً وترجمةً ماديتيْن لها؛ أيّ أنّها تحتّم الغوص في الواقع المعيش للأفكار المجرّدة.
لهذا، لطالما عالج المعماريّون على اختلاف توجهاتهم السياسية سؤال تصوّر واقعٍ مغايرٍ، بَنوا من خلاله تصوّراً يرسمُ حياةً مختلفةً عمّا عاشه أبناء عصرهم، أو على الأقل جانباً من هذه الحياة المختلفة، مُعالِجين عبْره قضايا إشكاليّةً، ومُنفتحين بواسطته على رؤىً للمستقبل الإنسانيّ. وكان ممّن شقّ هذه الطريق حديثاً المستقبليون البنائيون السوفيات في بدايات القرن العشرين، كـ”فلاديمير تاتلين”، بجانب المعماريين الحداثيين مثل “ليكوربوسييه”، وغيرهم الكثيرين من مشاربَ فكريّةٍ أخرى على مدار عقودٍ.
في سياقنا الفلسطيني، بل وفي كلّ سياقٍ إنْ التزمنا الجديّة، لا يمكن بناء تصوّراتٍ مغايرةٍ للراهن بالتعويل على دورٍ منفصلٍ للمعماريّ عن فئات مجتمعه الأخرى، بل إنّ تحقيق ذلك يتطلّب من المعمارييّن الانشباكَ مع مُختَلف تلك الفئات التي تسعى إلى بناء مستقبلٍ مُغاير. إذ إنّ واقع ما بعد التحرير، بلا شكٍّ، امتدادٌ لسيرورة التحرير ذاتها.
تجارب من بيرزيت
في جامعة بيرزيت، تمنح دائرة الهندسة المعماريّة طلّابها هامشاً للخيال والبناء النقديّ، فخلقت مساحةً لنقد واقع فلسطين السياسي والاجتماعيّ وتصوّر غيره في إطار مشاريعَ معماريةٍ طموحةٍ. في السنة الدراسيّة 2018/2019 كانت هناك مجموعةٌ من مشاريع التخرّج بعنوان “واقعٌ مغايرٌ”. [4] عالجت هذه المشاريع قضايا متنوعةً من واقع الشعب الفلسطيني، وحاولت تصوّر شكلٍ مختلفٍ للحياة الفلسطينيّة، سواءً حاضراً أو مستقبلاً.
الطنطورة 2050
من بين هذه المشاريع “الطنطورة 2050″، وهو مشروعٌ يبني تصوّراً لقرية الطنطورة بعد التحرير، مُشرِكاً في بنائه أهلَ البلدة من اللاجئين في مخيم نور شمس في طولكرم. استلهمتْ المعماريّتان صاحبتا المشروع تجربتهما التصميميّة من تجربة الثوّار الأصلانيين في جنوب المكسيك (الزاباتيين) وفلسفة “المشي والتعلم”، لتحطَّ أقدامهما في مخيم نور شمس، وتُجريا عدّة ورشات عملٍ مع مهجّري البلدة في المخيم.
أصغت المعماريّتان إلى ذكريات أهالي البلدة التي تعيد إنتاج المكان المفقود، وإلى آمالهم وتطلّعاتهم التي تتجاوز نقطة العودة، لتستنبطا الأشكال المعماريّة والعمرانيّة للبلدة من إرثهم الطويل الذي يحملونه وآفاق غدهم الساعين إليه. بذا، لم يكن هؤلاء اللاجئون مجرّد موضوعٍ للمشروع، إنّما ذاتٌ أساسيّة فاعلةٌ في صياغته وبنائه.
يعالج “الطنطورة 2050” عدّة قضايا عمليّةٍ، كالنمو السكّاني والملكيّات، والكثافة السكانيّة، والمواصلات، وعلاقة الطنطورة بالمدن المجاورة، وغيرها. يعتمد المشروع على مبادئ المساواة، والتشاركيةّ في الملكيّة والعمل والقرار، والتكامل في الإنتاج، ورغد العيش. كما يتصوّر الطنطورة وقد غدت جزءاً من بلاد الشام وعالمٍ عربيٍّ لا تفصله حدودٌ.
اللافت هنا أنّ المشروع لا يتصوّر شكل البلدة بعد العودة فحسب، بل يتصوّر دور أهل البلدة في تطوير أدوات العودة منذ اليوم، فيصّمم بنىً اقتصاديّةً في المخيم تمكّن مهجّري البلدة من التخلي عن التبعيّة للمستعمِر؛ ذلك أنّ معظم شباب المخيم يعملون حاليّاً في الداخل المحتل، ما دفع المشروع أيضاً إلى تصوّر قيام العمال ذاتهم في الداخل المحتل بأعمال بناءٍ خفيّةٍ للبلدة المستقبليّة.
يعبد
أمّا “يعبَد” فهو مشروعٌ يسائل علاقة الإنسان بالإنسان والطبيعة في السياق الفلسطينيّ التحرريّ، فيتصوّر غابات يعبد وقد عادت لتنمو كمرتعٍ للمقاومة الاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها. يدرس المشروع الوضع الجيوسياسي للبلدة من ناحية تقاسم السيطرة الأمنيّة والإداريّة على أراضيها وانتشار المستوطنات وتوسّعها من حولها، مُحلّلاً في خضمّ ذلك وضعَها الاقتصادي والبيئي.
بَنَت مصمِّمة المشروع جوهره على النشاط الإنتاجي الذي تتمتّع به يعبد كمنتجٍ للتبغ ومنتجٍ سابقٍ للفحم، وبنته كذلك على إرث غاباتها المقاوم، بهدف تصوّر مجتمعٍ فلسطينيٍّ منتجٍ، مستقلٍ، تشاركيٍّ، يحترم الأرض التي يسعى لتحريرها ويحترم بيئتها.
يتصوّر المشروع نمو غابات يعبد بشكلٍ تدريجيٍّّ، على النحو الذي يمكّنها من حماية أراضي البلدة من التمدّد الاستيطاني، من جهةٍ، ومن تشكيلها موردًا اقتصاديّاً لأهالي البلدة، من جهةٍ أخرى. يخطّط المشروع نمو هذه الغابات، ويحدّد نباتاتها وأشكال فلاحتها.
وفي مرحلته النهائيّة، يتصوّر الغابات وقد امتدّت لتغطّي أراضي البلدة جميعها، وتطوَّر نمط السكن الفلسطيني مُمتزجاً بشكلٍ عفويٍّ مع الأرض الحرّة، وتطوَّر نمط الإنتاج الزراعي لتشكّل الروبوتات أدواته الأولى، مع كل ما يترتّب على ذلك من تغيّراتٍ تصيب حياة الفلسطيني اليوميّة. في الوقت ذاته، ترى المصمّمة “يعبد” كامتدادٍ لسلسلة مشاريع تحمل أفكاراً مماثلةً، وتنتشر في أرض فلسطين لتسّخر طاقاتها ومواردها بأشكالٍ مختلفةٍ من أجل التحرّر.
إسكان كفر عقب
وفي مشروعٍ آخر، تتصوّر المصمّمة المعماريّة نمطَ إسكانٍ جديداً يستغلّ حالة الفوضى التنظيميّة في كفر عقب (إحدى ضواحي القدس المحتلة المفصولة عنها)، مُتخيّلاً بذلك نمط سكنٍ يخرج عن الأحكام التنظيميّة المحليّة الخانقة، فيعالج حاجات ومشاكل سكان ضاحيةٍ تكاد لا تصلح للسكن. يحاول مشروع “كفر عقب” تصوّر نمط بناءٍ يتجاوز المطوّر العقاري ويموّل ذاته إلى حدٍّ بعيدٍ.
في محاكاةٍ لأحد أنماط البناء في مدينة القدس المحتلة، حيث التضييق الاستعماري يرفع أسعار الأراضي بشكلٍ جنونيٍّ، تتجمّع عدّة عائلاتٍ لتشكيل تعاونية إسكانٍ تملك كلًّ عائلةٍ عدداً من أسهمها. بمعدل مساهمةٍ من كلّ عائلةٍ يوازي أقلّ من ربع كلفة شقّةٍ سكنيّةٍ في كفر عقب، تشتري التعاونية أرضاً وتبني فوقها ثلاثة طوابق تجاريّةٍ تشكّل أرباح بيعها أساسَ تمويل بناء باقي العمارة السكنيّة.
ونتيجةً للخطة التمويليّة هذه، تتمكّن التعاونيّة من تخصيص ثلث مساحات العمارة كحدائق وفضاءاتٍ مشتركةٍ وملاعب لجميع السكان، موفّرةً بدورها خدماتٍ تفتقر إليها كفر عقب بشكلٍ خاصٍّ، ومعظم العمارات السكنيّة في الضفة الغربيّة بشكلٍ عامٍّ.
بهذا، تتمكّن العائلات من السكن في شققٍ سكنيّةٍ تحاكي متطلبات حياتها، بسعرٍ يقارب نصف سعر السوق. من الجدير بالذكر هنا أنّ هذا التصوّر لا يبحر في تخيّل مستقبلٍ مغايرٍ أو حاضرٍ شديد الاختلاف عمّا هو عليه اليوم، إنّما بإطلاق العنان قليلاً للمخيّلة، فهو ينطلق من مشكلةٍ آنيّة لتقديم حلولٍ مدروسةٍ بخصوصها، لربّما جلّ ما يحول دون تنفيذها اليوم يكمُن في المعرفة والإرادة.
وعلى نفس المنوال، يطوّر أحدهم مشروعاً لبنك بذورٍ وإنتاج معرفةٍ زراعّيةٍ محليّةٍ، فيما تبني أُخريان تصوّراً لإعادة استغلال عمائر الفقاعة النيوليبراليّة في رام الله؛ إذ تتصوّرانها يوماً تحت حصارٍ يماثل حصار غزة. كما يتصّور غيرهما مجتمعاً بشريّاً جديداً على سطح المريخ ، بينما تخطّط أُخريان لعودةٍ حتميّةٍ إلى يافا.
خاتمة
إن هذه المشاريع وما يشبهها خطوةٌ باتجاهٍ ضروريٍّ. مثّل توصّل الطلاب إليها مخاضاً عسيراً، ففي البداية كان من المضني تصوّر أيّ واقعٍ مختلفٍ عما نعيشه اليوم؛ إذ كان النفاذ من المفاهيم المجردة كالحرية والمساواة إلى ترجمتها المادية شبه مستحيلٍ، وكانت المهمة أصعب كلّما اقتربت من اللحظة الراهنة. إنّ هذه الصعوبة لهي شاهدةٌ على أهمية هذا التمرين الذهني في تحريرنا من قيود اليوم، فمع المحاولة ومساءلة الذات، نجح الطلاب في تطوير فهمهم وتصوّرهم للمفاهيم ذاتها.
يبقى التحدي الأعظم أمام هذه المشاريع وما شابهها متمثّلاً في كيفيّة معالجة العلاقة ما بين الخيال والواقع. كيف للخيال هنا أن يكون محرّكاً لتغييرٍ حقيقيٍّ، لا هروبَ من واقعٍ بائسٍ؟ كيف لهذه المشاريع أن تنتقل من سطح المكتب إلى أرض الواقع؟
بالأساس، تكمن الإجابة في المحاولة، في العمل نحو التطبيق والالتحام بالواقع وتحدياته. فلدى “جرامشي”، كانت الخرافة وسيلةً بيد الحزب السياسي، بما هو جسمٌ يعبّر عن جماعةٍ وإرادتها ومشروعها. ولدى حركة “فلاحون بلا أرض”، التحمت روحانية التصورات المستقبلية بالواقع الآني، فكانت أول ما كانت محفّزاً للعمل، وجامعاً ما بين الذوات الفردية في الجماعة.
في حالة بيرزيت ومشاريع التخرج هذه، فإن البداية تمثّلت في التعاون والعمل الجماعي بين الطلاب. فرغم أنّ الطالب عادةً ما يُقيّم كفردٍ ويستلم شهادته باسمه، إلا أنه في الواقع جزءٌ من مجتمع الطلاب، وهو دعامة الحركة الطلابية. إذا فهِم الطالب دوره من هذا المنطلق، وفهمت الحركات الطلابية قدرته من هذا المنطلق أيضاً، فبالإمكان العمل على جعل المسيرة التعليمية بشكلٍ عامٍ، ومشاريع الطلاب بشكلٍ خاصٍ، جزءاً من رسم وتنفيذ مخططات الحركة الطلابية، التي لطالما كان دورها أوسع بكثير من حدود الجامعة. لكنّ ما هذه إلّا بداية الإجابة، والأفق مفتوحٌ للإمكانيات… [5]
****
الهوامش:
[1] Movemiento de los Trabajadores Rurales sin Tierra. (2009). Método de trabajo y organización popular (A. J. Pizzeta, A. Musolino, N. Baraldo, R. Ramalho, L. G. Guerreiro, & R. Perez (eds.); 1st ed. El Colectivo – Colectivo Ediciones, 107.
[2] تنبع أصول “الميستكا” من “لاهوت التحرير” الذي حفّز فقراء القارة اللاتينية على تأويل الكتاب المقدّس من عدسة واقعهم المعيش، كما ودعا إلى السعي نحو انتزاع جنة الله على الأرض، لا انتظارها في الآخرة. تجمع “الميستكا” بين تراث كاثوليكيّ وأمريكي أصلاني وأفريقي. للمزيد، يُنظر: Issa, D. (2007). Praxis of Empowerment: Mística and mobilization in Brazil’s Landless Rural Workers’ Movement. Latin American Perspectives 34 (2).
[3] Movemiento de los Trabajadores Rurales sin Tierra. (2009). Método de trabajo y organización popular (A. J. Pizzeta, A. Musolino, N. Baraldo, R. Ramalho, L. G. Guerreiro, & R. Perez (eds.); 1st ed. El Colectivo – Colectivo Ediciones, 109.
[4] تم العمل على هذه المشاريع ضمن محور عملٍ بعنوان “واقع مغاير” خلال العام الدراسي ٢٠١٨/٢٠١٩. شارك بالإشراف على المشاريع المدرسون المعماريون محمد أبو الرب، عامر الشوملي، دانا عباس، شادن قاسم، إبراهيم الهندي، وفائق مرعي – بتنسيق من الأخير.
[5] ننوّه أنّ هذه المقالة نسخةٌ مطوّرةٌ من مقالةٍ نُشرت الفترة الماضية بعنوان “الواقع المغاير: بيرزيت نموذجاً” في مجلة “لفتا” الطلابيّة.
المراجع:
Aguiar, Janecleide Moura de. (2019). Brazil’s Landless Rural Workers Movement (MST) in the Digital Front: Mystique as Performative Practice and Insurgent Form of Political Struggle. Revista Brasileira de Estudos da Presença, 9(4), e91013. Link
Augelli, E., & Murphy, C. N. (2011). Consciousness, myth and collective action: Gramsci, Sorel and the ethical state. Innovation and Transformation in International Studies, 25–38.
Fernandes, S. (2017). Crisis of Praxis: Depoliticization and Leftist Fragmentation in Brazil.
Flynn, A. (2016). Subjectivity and the Obliteration of Meaning: Contemporary Art, Activism, Social Movement Politics. Cadernos de Arte e Antropologia 5 (1): 59–77.
Hammond, J. (2014). Mística, meaning and popular education in the Brazilian Landless Workers Movement1. Interface: A Journal on Social Movements 6 (1): 372–391.
Issa, D. (2007). Praxis of Empowerment: Mística and mobilization in Brazil’s Landless Rural Workers’ Movement. Latin American Perspectives 34 (2): 124–138.
Jack J. Roth, (1967). “The Roots of Italian Fascism: Sorel and Sorelismo,” The Journal of Modern History 39 (1): 30–45.
McCowan, T. (2010). School democratization in prefigurative form: Two brazilian experiences. Education, Citizenship and Social Justice 5 (1): 21–41.
Movemiento de los Trabajadores Rurales sin Tierra. (2009). Método de trabajo y organización popular (A. J. Pizzeta, A. Musolino, N. Baraldo, R. Ramalho, L. G. Guerreiro, & R. Perez (eds.); 1st ed. El Colectivo – Colectivo Ediciones.
Plummer, D. (2008). Leadership Development and Formação in Brazil’s Landless Workers Movement (MST). Link to PDF.
Sand, S. (1998). Legend, myth, and fascism. The European Legacy 3(5): 51–65.
Tinius, J., & Flynn, A. (2015). Anthropology, Theatre, and Development. In Anthropology, Theatre, and Development.