أتناول فى هذا المقال حياة أبرز الأشخاص الملهمة والمؤثرة في حراك عموم أفريقيا، أو «البان-آفريكانزيم»، في القارة والشتات وهو «ستوكلي كارمايكل»، أو «كوامي توري»، الثوريّ الذي قدّم مساهماتٍ هائلة لنضالات الشعوب الأفريقية في جميع أنحاء العالم. كان منظّمًا لا يكلّ ولا يملّ من أجل التحرير الكامل وتوحيد الأفارقة ضدّ جميع صنوف الاستغلال محليًّا ودوليًّا.

كان «ستوكلي كارمايكل» ملتزمًا بمسارٍ اشتراكيّ للوحدة الأفريقية على المستوى الجماهيري قبل المؤسساتي، وكان واضحًا بشأن حقيقة أنّه من غير الكافي أن تكون هناك وحدة دون صراعٍ طبقيّ، وهو ما وضعه في مسارٍ تصادميّ مع العديد من الحكومات في القارة وفي منطقة البحر الكاريبي، الذين حاولوا في كثيرٍ من الأحيان منع سفره إلى بلدانهم. 

أكّد «كارمايكل» دوماً بأنّه لا يوجد سوى نظاميْن اقتصاديّيْن في العالم: الرأسمالية والاشتراكية. «نحن كأفارقة، يجب ألّا نثق في الرأسمالية لأنّه تمّ تطويرها على أكتاف العبيد السود أثناء المرحلة الميركانتيلية»… عاش معظم الأفارقة في الشتات في ظل الرأسمالية على أسفل السلم الاجتماعي، حيث يعانون من افتقار إلى الصحة والتعليم والمسكن والتوظيف وغيرها من الحقوق. بناءً على ذلك، أكدّ «كارمايكل» على أنّ الرأسمالية لا تعمل لصالح الأفارقة أو غالبية الشعوب على هذا الكوكب. ولن يتمتّع الأفارقة أبدًا بسلطةٍ حقيقيّة حتى تتحرّر إفريقيا من النظام النيوليبرالي.

كان «كارمايكل» ملتزماً في العمل الوحدويّ في جميع أنحاء إفريقيا (بما في ذلك شمال إفريقيا). وكانت إحدى الأسئلة الأكثر شيوعًا التي وُجهت إلى «توري» حول «شعوب» شمال إفريقيا. كان واضحًا جدًا على الدوام في أن الحكومات الاستعمارية الجديدة والقمعية في شمال إفريقيا ليست أفضل أو أسوأ من الحكومات الاستعمارية الجديدة والقمعية في بقية إفريقيا. إن طريق عموم إفريقيا نحو الحرية يتطلّب التحرير «الكامل» لأفريقيا وليس فقط أفريقيا جنوب الصحراء. كما كان واضحًا فيما يتعلّق بالوحدة التاريخية مع دول شمال إفريقيا والثوار والأحزاب الثورية مثل الحزب الذي قاتل من أجله «فرانز فانون» – جبهة التحرير الوطني في الجزائر. [1]

وَثِق الأفارقة وغير الأفارقة في جميع أنحاء العالم في «ستوكلي كارمايكل». وهو الذي عمل وشارك في نضالات معظم وأبرز أحزاب التحرير في القرن العشرين؛ من مثل جبهة التحرير الوطني (الجزائر) ؛ والحزب الديمقراطي (PDG) في غينيا، [2] والحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر (PAIGC) في غينيا بيساو، [3] وحزب (UPC) في الكاميرون، [4] و(FNS) في السنغال؛ وكلّ من (BCM) و(AZAPO) و(PAC/A) و(ANC) في آزانيا/جنوب أفريقيا، [5] فضلاً عن (MPLA) في أنغولا [6] و «فريليمو» في موزامبيق،  [7] و«سوابو» في ناميبيا، [8] و ( ZANU-PF) في زمبابوي، [9] و (EPLF) في إريتريا، [10] و (PDIOS) في غامبيا، [11] وامتدّ نضاله ونشاطه ليشمل المنظمات الأفريقية في الشتات من مثل (NDM) في غرينادا والعديد من المنظمات والقوى الأخرى الأقل شهرة من مختلف أنحاء العالم.

 

وُلد «كوامي توري» باسم «ستوكلي كارمايكل» في 29 يونيو 1941 في بلمونت، بورت أوف سبين – عاصمة جزيرة ترينيداد، التي كانت جزءاً من جزر الهند الغربية وتابعة للإمبراطورية البريطانية. وُلدت والدته «ماي تشارلز» في بنما لأبوين من مونتسيراتيان وأنتيغوا، وكان والده من ترينيداد، عامل بناء وله جذور من بربادوس وتوباغو.

عندما كان «كارمايكل» في الثالثة من عمره، غادرت والدته الجزيرة إلى الولايات المتحدة، وسرعان ما تبعها والده، تاركين «توري» في رعاية عمته «إيلين»، والتي تأثّر بها بحكم عملها كنقابيّة تابعة للقيادي العمالي «توبال أوريا».

عندما بلغ «كارمايكل» 11 عامًا، غادر ترينداد للانضمام إلى أسرته في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 1956، التحق بمدرسة برونكس الثانوية للعلوم في مدينة نيويورك. حيث توسّع وعيه السياسيّ والاجتماعي عندما التقى بمجموعةٍ من الطلاب اليساريين الراديكاليين. وبدأ حينها «كارمايكل» في تطوير نهجٍ تحليليّ ماركسيّ، يستند فيه إلى تفكيك الفقر وعدم المساواة اللذين يعاني منهما أصحاب الأصول الأفريقية في الشتات.

أيضاً، قدّم المتحدثون السود في شارع «ستيبلادر» من شارع 125th الرئيسي في «هارلم» شيئًا مختلفًا تمامًا لـ «توري». هؤلاء كانوا من بقايا الحركة التي بدأها «ماركوس غارفي»، التي كانت تحثّ الجماهير السوداء على التطلّع إلى إفريقيا من أجل خلاصهم. كانوا يتحدثون عن تاريخ أفريقيا وثقافتها وصراعات التحرّر وآفاقها المشرقة فيما مضى قبل الاستعمار. 

في عام 1960، التحق «توري» بجامعة هوارد في واشنطن، وبعد فترةٍ وجيزة انضمّ إلى لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية (SNCC) ، وهي منظمة حقوقٍ مدنيّةٍ كبرى تتكون من طلبة شباب سود. واجهوا بشكلٍ روتينيّ قنابل الغاز المسيل للدموع ونباح الكلاب والتهديد بالاعتقال أثناء محاولتهم كسر الفصل العنصري من خلال ركوب الحافلات المخصّصة للبيض. 

رفض «توري» منحةً دراسيةً إلى جامعة هارفارد لمواصلة عمله مع (SNCC). وبفضل مواهبه الخطابية ومهاراته التنظيمية، سرعان ما ظهر كواحدٍ من أبرز قادة الحقوق المدنية، واحتلّ المرتبة الثانية بعد صديقه ومعلمه الدكتور «مارتن لوثر كينغ». 

مع مرور الوقت، أصبحت (SNCC) أول حركة حقوق مدنية تدين حرب فيتنام، وكانت توزّع منشورات تحت عنوان «لن نذهب للحرب». كان موقف (SNCC) انعكاسًا للتطور الحاصل داخل المنظمة التي سعت إلى ربط العنصرية على الجبهة الداخلية بالإمبريالية في الخارج ؛ الكفاح من أجل الحرية والعدالة في أمريكا مع نضالات التحرّر التي اجتاحت إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية- وما وصفه «مالكولم إكس» بأنّه «موجة مدٍّ وجزر من الألوان». 

في هذه الفترة، كان وعي «كارمايكل» الثوري في مرحلة نمو وقد تأثّر بكتابات «فانون» وبدأ يهاجم الخط الإصلاحي للمنظمات السوداء مثل (NAACP)، التي كانت تخشى أو ترفض قيادتها أي شكل من أشكال التعبئة الجماهيرية.  [12] تكمن أهمية هجوم كارمايكل على (NAACP)، من منصة (SNCC)، بتوافقها مع الفترة التي كانت فيها الجماهير السوداء تتخلّى عن «النوع القانوني القديم من الدعاية والتحريض». كانوا يحشدون من أجل نوع العمل الجماهيري (الذي نفذته حركة الحقوق المدنية في الستينيّات)، والذي كانت القيادة القديمة التي اعتبرتها الجماهير السوداء منحطة، خائفة جدًا من تنفيذها. 

في عام 1941، كانت جماهير الأمريكيين من أصل أفريقي جاهزةً ومستعدًة للزحف إلى واشنطن. لقد وَثِقوا في «راندولف» المنظّم للمسيرة. ولكن تحت ضغط إدارة «روزفلت»، والخوف من قيادة (NAACP)، ألغى القادة المسيرة، وكانوا كلاً من «راندولف» ، «والتر وايت» عن (NAACP) و«فرانك كروسويث» (عضو الحزب الاشتراكي). أثار إلغاء المسيرة شعوراً بالخيانة بين الجماهير الأفرو-أمريكية. 

وعندما هاجم كارمايكل (NAACP)، كان يعكس بموقفه عدم ثقة الجماهير ذي الأصول الأفريقية في قيادة (NAACP) وعجز قيادة الحرس القديم الأسود لقيادة النوع المطلوب من العمل الجماهيري للحصول على حرياتهم المدنية. خلق «كارمايكل» منهجًا ثوريًّا ساهم في تطوير الطليعة الأفرو-أمريكية في الستينيّات.

مع حلول عام 1966، بدأت خيبة الأمل. فَقَد «توري» الإيمان بالديمقراطية الأمريكية والموقف الثابت من اللاعنف لحركة الحقوق المدنية، معلناً «ما سنبدأ بقوله الآن هو القوة السوداء»، وطالب بإلحاح حق السود في تقرير المصير والسلطة السياسية والتنظيم الذي سيكون له عواقب بعيدة المدى، وتردّدت أصداء نداءاته في جميع أنحاء العالم. 

 في السنوات التي تلت ذلك، ظهرت حركات القوة السوداء في أنحاء متفرقة في العالم، بما في ذلك أوروبا ومنطقة البحر الكاريبي وحتّى في أماكن بعيدة مثل نيوزيلندا والهند. ومع ذلك، تعرّض «توري» نفسه لرد فعل عنيف ومذهل في الولايات المتحدة. في كتاب (Stokely: A Life)، يشير «بينيل جوزيف» إلى أنه «حقّق مستوى من الشهرة السياسية ينافس، بل تجاوزه في بعض الأحيان ، لمالكولم إكس».

كان «ستوكلي كارمايكل» هو أوّل من صاغ مصطلح «العنصرية المؤسساتية» وشرحه،  واستخدمه لأوّل مرّةٍ في عام 1967 في كتابه «القوة السوداء: سياسات التحرير». وأوضح في كتابه أنّه بينما من الممكن، في كثيرٍ من الأحيان، تحديد العنصرية الفردية بسبب طبيعتها العلنية، إلا أنّ العنصرية المؤسساتية تكون أقل إدراكًا بسبب طابعها «الأقل علنًا والأكثر دهاءً». تنشأ العنصرية المؤسساتية عن «عمل قوى مؤسسية تحظى بالاحترام في المجتمع، وتلقى نتيجة ذلك إدانةً علنيةً أقلّ بكثير من [العنصرية الفردية]» ومن الأمثلة على ذلك:

«عندما يقصف إرهابيون بيض كنيسة سوداء ويقتلون خمسة أطفال من السود، فإنّ هذا يُعتبر عملاً من أعمال العنصرية الفردية، وهو عمل يتمتّع بإدانة واسعة من معظم شرائح المجتمع. ولكن عندما يموت في نفس المدينة- برمنغهام (ألاباما)- خمسمئة طفلٍ أسود كلّ عام بسبب الافتقار إلى الغذاء الملائم ونقص المأوى والمرافق الطبية، ويتعرّض آلاف آخرون للتدمير والتشويه بدنيًا وعاطفيًا وفكريًا بسبب ظروف الفقر والتمييز في مجتمع السود، فإن ذلك يكون ناجمًا عن العنصرية المؤسساتية. وعندما تنتقل أسرة سوداء إلى منزلٍ في حيٍّ أبيض وتُرشق بالحجارة أو تُحرق أو تُطرد، فإنّها تقع ضحية عملٍ سافرٍ من أعمال العنصرية الفردية التي يدينها معظم الناس. ولكنّ العنصرية المؤسساتية هي التي تُبقي السود عالقين في مساكن الأحياء الفقيرة المتهالكة، معرّضين للنهب اليوميّ من قِبل سادة الأحياء الفقيرة المستغلّين والتجار وأصحاب القروض وسماسرة العقارات التمييزييّن. فالمجتمع إما يتظاهر بأنّه لا يعرف هذا الوضع الأخير، أو أنه في واقع الأمر غير قادرٍ على القيام بأيّ شيءٍ ذي مغزى في التعامل معه».

 

 

بعد مقتل «مالكوم إكس» و«مارتن لوثر كينج»، رفض «كارمايكل» النضال من أجل الاندماج الذي ظلّ ملتزمًا به الجزء الأكبر من (SNCC)، وترك المنظّمة في عام 1967 وأقام روابط مع حزب الفهود السود بزعامة «هيوي بي نيوتن». في هذه الفترة، كان هناك نوعًا من الانتعاش الثوري لحركة تحرير السود، مع التقدّم الملموس مثل مبادرات الدفاع عن النفس أو برامج الغذاء والتعليم التي يديرها المجتمع الأسود، ما جعل حركة الفهود السود هدفًا رئيسيًا لما يُسمّى بالوكالات الأمنية الأمريكية، ولا سيّما (COINTELPRO) التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالي. [13]

حذّر مدير مكتب التحقيقات الفدرالي «جيه إدغار هوفر» من احتمال ظهور «مخلّص» خطير يوحد المنظّمات الأفرو-أمريكية المختلفة»، مشيراً إلى أنّ شخصيةً «ستوكلي كارمايكل» تتمتّع بالكاريزما التي تجعله «يمثّل تهديدًا حقيقيًا». وبالفعل، أخذ قمع حركة الفهود مستوياتٍ عديدة. قُتل «فريد هامبتون» بدمٍ بارد، وتمّ اعتقال «إلدريدج كليفر» و«هيوي نيوتن». كما تعرّض «ستوكلي كارمايكل» للمضايقات والتهديدات المستمّرة، ممّا أجبره على الرحيل من الولايات المتحدة في عام 1969 والاستقرار في غينيا.

كانت أسباب انتقال «كارمايكل» إلى إفريقيا مدفوعةً بذات الشيء الذي يقود أيًا منّا لإجراء تغييراتٍ وقراراتٍ حياتيّة كبيرة. في عمر الـ 25 و 26 عامًا، ساعدته تجاربه مع (SNCC) و(BPP) في الوصول إلى النقطة التي أدرك فيها أنّه لا يمكن تحقيق أيّ تقدمٍ للشعوب الأفريقية حتى نمتلك القوّة لتحديد مصيرنا. وقد ألقى خطاباً في حفلة عيد ميلاد «نيوتن» في عام 1968 ذكر فيه هذه الأفكار بصراحة، متساءلاً: ما هو دور أفريقيا في كفاحنا؟ هل يمكن أن يكون حلّنا رأسماليًا أم اشتراكيًا؟ كانت هذه الأفكار والأسئلة هي التي تدور في رأسه. وفي عام 1967، زار فيتنام والتقى بـ «هو تشي مينه »، وعندما سأل «كارمايكل» الزعيم الفيتنامي عمّا يعتقد أنه يجب فعله، أجابه بالقول: «أنت أفريقي ، لماذا لا تذهب إلى أفريقيا؟»

 

في العام التالي، ذهب «كارمايكل» إلى غينيا كوناكري متأثّرًا بما قاله «هو تشي مينه» على أمل مقابلة «كوامي نكروما» و«سيكو توري». كان «نكروما» يشغل في وقتها منصب رئيسٍ مشارك لغينيا في عام 1968. وبعد إقالته قسريًا من رئاسة غانا في عام 1966، كان دور «نكروما» في غينيا هو الاستمرار في دفع أفكار الوحدة الأفريقية. وبمساعدة «شيرلي جراهام دوبوا»، زوجة الدكتور «وليام دو بويز» مؤسّس مؤتمرات عموم أفريقيا، رحّب «نكروما» بـ«ستوكلي» الشاب، وسأله نفس السؤال الذي طرحه على «مالكولم إكس» قبل ثلاث سنوات، وهو إذا ما كان مستعداً للبقاء في غينيا والعمل كسكرتير له لمساعدته في تنفيذ العمل لبناء برنامج الوحدة الأفريقية على أرض الواقع. 

 قبِل «ستوكلي» هذا العرض بعد قراءته كتاب «نكروما» الذي نشر بعد موته، والذي حمل عنوان «دليل الحرب الثورية» وكان جليّاً في طيّاته تغيّر الكثير من أفكار «نكروما» كدليل على كيفية تنفيذ الثورة الأفريقية. فقد صاغ «نكروما» استراتيجية توحيد الثوار الأفارقة في حزبٍ سياسيّ يشمل عموم إفريقيا يُسمّى الحزب الثوري لعموم الأفارقة (A-APRP). وكانت الوسيلة لتحقيق ذلك هي بإنشاء لجنة عموم أفريقيا للتنسيق السياسي (A-ACPC)، وقيام الجيش الثوري لعموم أفريقيا (A-APRA) الذي سيقود المرحلة المسلّحة للثورة الأفريقية. 

وبعد أن قرأ «ستوكلي» الكتاب بأكمله في ليلةٍ واحدة، طلب منه «نكروما» العمل على بناء هذه العملية داخل الشتات الأفريقي. وكان لدى نكروما مهام أخرى متعلّقة بـ «أميلكار كابرال» الذي كان قدّم له «سيكو توري» قاعدةً تدريبيّةً في غينيا لبناء الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا بيساو (PAIGC)، وهو أحد الأحزاب الأفريقية التي تصوّرها «نكروما» للانضمام إلى (A-ACPC) و (A- APRP). كما شكّل كل من «ستوكلي» و«أميلكار كابرال» و«نكروما» وآخرون أول دائرةٍ للدراسة والعمل وتمّ استدعاؤها لـ (A-APRP). 

بينما كان «كارمايكل» يسافر عبر غينيا، تأثر بتواضع وحسن ضيافة الشعب، فضلاً عن الرقصات التقليدية التي أبهرت حواسّه. دمجت زوجته المطربة الجنوب أفريقية «مريام ماكيبا» في أغانيها ألحان الآلات المحلية، مثل البالافون والكورا. وخلّفت المناظر الطبيعية الخضراء، وما أطلق عليه «توري» بـ «الإنسانية الأفريقية»، انطباعًا قويًا في نفوسهما قادهما لبناء منزلٍ في وادٍ خصب في جبال فوتا جالون.

لكن بعد عامٍ فقط من وجوده في غينيا، حدثت واقعة كبيرة ستترك انطباعًا لن يُمحى بداخل «كارمايكل». في الوقت الذي كان مع زوجته «ماكيبا» يستعدّان للنوم في منزلهما الواقع على شاطئ البحر في كوناكري، سمعا دوي إطلاق نار وحركة نشطة توشي بتحرّكاتٍ على الرمال أثناء نزول رجال من السفن. اشتبها في حدوث انقلاب وانتظرا الأخبار بقلقٍ عبر الراديو. كان ذلك غزواً عسكرياً برتغالياً على البلاد، فغادرا منزلهما في الساعة الرابعة صباحًا متّجهين إلى مقرّ إقامة سفير تنزانيا. 

تصاعدت المعركة بإطلاق النار نحو مقرّ حزب «أميلكار كابرال»، الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر، الذي قاد حركة الاستقلال ضدّ الحكم البرتغالي في غينيا بيساو المجاورة من كوناكري وكان هدفًا من الغزو. تدفّقت النساء والرجال إلى الشوارع للدفاع عن بلادهم من الغزو، وحشد «سيكو توريه» المواطنين لمحاربة الغزاة. طاردت الجماهير الغاضبة المشتبه بهم، بعضهم من المنشقّين الذين كانوا يحاولون الاندماج مرةً أخرى في السكان. وبعد مطاردةٍ استمرّت سبعة أيام، انتصر الشعب الغياني وتمكّن من صدّ العدوان البرتغالي.

كانت هناك العديد من محاولات زعزعة استقرار غينيا واستمرّت لسنوات بعد ذلك. فيما بعد، اعترف «موريس روبرت »، رئيس جهاز المخابرات الفرنسي (Service de Documentation Extérieure et de Contre-Espionnage) المعروف اختصاراً بـ (SDEC)، خلال فترة حكم «سيكو توري» بتدريب المنشقين الغينيين على «خلق مناخٍ مضطرّبٍ في البلاد». وقال «روبرت» في مقابلةٍ أجريت معه عام 2004: «كان علينا زعزعة استقرار نظام «سيكو توري» وجعله ضعيفًا وغير محبوب، وتسهيل استيلاء المعارضة على السلطة».

وبعد أن صارع شخصاً هاجمه بسكين محاولاً طعنه وكاد أن يقضي عليه، عرف «كارمايكل» المصير الذي ينتظر أمثاله من مناهضي الاستعمار. وبالأخص بعد اغتيال «أميلكار كابرال» أمامه في كوناكري. 

متأثّراً بقراءته لـ «فانون»، فسّر «كوامي توري» عمليات التطهير التي كان يقوم بها نظام «سيكو توري» على أنها أشكال مبرّرة من العنف الثوري حتى لو كانت هناك أضرار جانبية. من نواحٍ عديدة، تصبح غينيا تجسيدًا للمعركة الوجودية في قلب سياساته، بين قوى الإمبراطورية والاستعمار الجديد وتفوّق البيض من جهة، وبين «البان افريكانزيم» والقوة السوداء ومعاداة الإمبريالية من جهةٍ أخرى. فيما يتعلق به، كان لديه خياران فقط: إما أن تكون مع الثورة أو ضدّها. وقد اعترف «توري» بنفسه بالصعوبات التي تواجه عائلات ضحايا التطهير وضرورة دعمهم ماديًا في بعض الحالات، حتى لو لم تحدث.

 في عام 1979، قام «ستوكلي كارمايكل»، كما كان يُطلق عليه حتى ذلك الحين، بتغيير اسمه إلى «كوامي توري». وفي عام 1983، كان لزيارته لإنجلترا تأثير عميق على الأفارقة الذين يعيشون في المملكة. تمّ تنظيم جولته من قبل جمعية (Hackney Black People’s Association)، بقيادة «ليستر لويس» الذي توفي للأسف قبل بضع سنوات. وشملت الجولة زياراتٍ إلى ليفربول وولفرهامبتون ومانشستر ومايدستون وديربي ونوتنجهام وليستر وبرمنغهام ولندن. أدّى نجاح هذه الجولة مباشرة ًإلى التزام «كوامي» بالعودة لبناء (AAPRP) في بريطانيا، لكنّ حكومة المحافظين حظرت دخوله إلى بريطانيا مرّةً أخرى .

 

وفي هذه الفترة، نسج «كوامي توري» روابط رائعةً عبر منظّمات التحرير في القارة وفي جميع أنحاء العالم تمكّن من توفير منصاتٍ عالمية للحديث عن صراع المجتمعات الأفريقية المحلية مع الاستعمار والفصل العنصري والديكتاتوريات، وساعد في تدويل نضالاتهم. وعندما تمّ منع «كوامي» من دخول إنجلترا بعد زيارته عام 1983 ، تمكّنت (AAPRP) من توفير منصاتٍ لـ (ANC) و(PAC / A) و(AZAPO) و(PAIGC) و(EPLF) وغيرها، بما في ذلك حركة الهنود الأمريكيين (AIM) ؛ وولف تون (الجمهوريون الأيرلنديون) ؛ ومنظمة التحرير الفلسطينية (الفلسطينيون) ، والحصار المفروض على الشعب الكوبي. 

 في عام 1984، توفّي «سيكو توريه» فجأة. أتبع ذلك انقلاب عسكريّ بقيادة العقيد «لانسانا كونتي» بعد أيام. وتمّ حظر الحزب الحاكم (PDG) واعتقال 90 بالمائة من لجنته المركزية.

 كان «توري»، مع زوجة جديدة وطفل رضيع، في خطرٍ مميت. ومع ذلك، فإنّ قراره بالبقاء في غينيا أظهر أنّه لم يكُن موجودًا فقط من أجل «نكروما» أو «سيكو توري»، بل كان ملتزمًا تجاه الثورة الإفريقية ومستعدًا للقتال دون امتيازاتٍ حكومية من أجل الوحدة الأفريقية. واجه توري صراعًا شاقًا لكنّ قراره بالبقاء جعله محبوبًا لدى الغينيين.

 بدأ «توري» العمل سرّاً لإعادة بناء (PDG)، على الرغم من المخاطر. وكتب في مذكراته: «كان الأمر صعباً، مطاردتنا وقمعنا. لم يكن من قبل العنصريين البيض، ولكن هذه المرّة بواسطة الدمى الرجعية السوداء». أثار اعتقاله وسجنه في أغسطس 1986 حملةً عالميّة، وعمل الحزب الثوري لعموم إفريقيا (A-APRP) على تنشيط شبكاته بسرعة. كما اعتصم المتظاهرون خارج السفارة الغينية في واشنطن وفي منازل العمد السود. وحاولت منظمة التحرير الفلسطينية والكوبيون التدخّل، وضغط نشطاء الحقوق المدنية «جيسي جاكسون» والسفير «أندرو يونغ» بشدة من أجل إطلاق سراحه. وبعد أربعة أيام، أصبح توري رجلاً حرّاً من جديد. 

اتّجهت غينيا إلى الغرب، وجلبت معها استثماراتٍ تمسّ الحاجة إليها، ولكن أيضًا ارتفاعًا حادًّا في الفساد والفقر والبطالة. وفي عام 1990، فرضت فرنسا على البلاد الانفتاح الاقتصادي والتعدّدية الحزبية وإلا سوف تفقد المساعدة الفرنسية. قاد «توري» و«كوندي» عودة ظهور الحزب في عام 1993. وانضمّ «توري» إلى اللجنة المركزية للحزب وعُيّن منسق الاتصال مع السفارة الكوبية. في مذكرات (Sekou Mbacke)، الذي كان يعيش في هذا الوقت في غينيا وشارك في تأسيس جناح الشباب في (PDG)، كان توري يسافر من حيٍّ إلى آخر في بناء دوائر عمل ودراسة و «نشر برنامج PDG للجماهير». في عام 1996، عندما كان في الولايات المتحدة، دخلت (PDG) في تحالفٍ سياسيّ مع نظام الرئيس «لانسانا كونتي». رأى «توري» في هذا خيانةً وابتعادًا عن أهدافه الثورية، قائلاً «الليبرالية الجديدة سوف تغتال أحلام الشعوب الأفريقية» و «الديكتاتوريات العسكرية سوف تكون خير ممثّلٍ لهذه الأيديولوجية في القارة». عزا توري هذا الأمر إلى الآثار المتأخرة لانهيار الاتحاد السوفيتي، الذي كان مجرّد وجوده بمثابة حصنٍ ضدّ الاستعمار الجديد والإمبريالية المتفشّية في العالم الأسود، على الرغم من اعترافه بأنّ السوفييت كانوا «أهون الشرّيْن».

في عام 1998 ، غادر «كوامي توري» عالمنا المادي، بعد مسيرةٍ ثوريّة طويلة أدرك من خلالها أنّ الوحدة الأفريقية هي التعبير الأعلى للعمل الذي كان يقوم به في (SNCC) و(BPP). كان الشيء الوحيد الذي عاشه «كوامي» ومات من أجله هو الحرية. لقد حدّد طريقًا واضحًا لتحقيقه وعمل بلا كللٍ من أجل نهايته. التحرير الكامل وتوحيد أفريقيا في ظل الاشتراكية العلمية. لقد كان اشتراكيًا ملتزمًا وكان واضحًا أنه لا يوجد تناقض بين المبادئ التي تقوم عليها الثقافة الأفريقية والاشتراكية.

من أول دائرة دراسية تم تأسيسها (A-APRP) في كوناكري – غينيا، من عام 1968 إلى 2022 – امتدّ نطاق (A-APRP) إلى جميع أنحاء العالم. اليوم، هناك فصول عديدة من (A-APRP) وجهود تنظيمية تحدث في كلّ مكان. 

 لم يعد ( A-ACPC) مجرّد رؤية، بل باتت اليوم حقيقة واقعة. لقد شهدتُ ذلك بنفسي أثناء حضوري الاحتفال بالذكرى الخمسين في سبتمبر 2018 بتأسيس (A-APRP). حيث حضر وفد من الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر في غينيا بيساو (بما في ذلك مدير اتحاد نساء غينيا بيساو ، أو (UDEMU)، ومديرو منظمة الشباب الأفريقي Amilcar Cabral)، ووفد من معهد (Amilcar Cabral) الأيديولوجي في نيجيريا، ووفد آخر من المؤتمر الأفريقي لآزانيا (جنوب أفريقيا). و اجتمعت منظمة (Azanian People ) للعمل على تعزيز مفهوم (A-ACPC) والعديد من المنظّمات الثورية الأفريقية.

اليوم، يتمّ الاحتفاظ بأرشيف «كوامي توري» في مجمعٍ سكنيّ ليس بعيدًا عن الحيّ الذي عاش فيه السنوات العشر الأخيرة من حياته. في صناديق ممتلئة بقصاصات الصحف والوثائق والخطابات، فضلاً عن المراسلات التي كان يرسلها له البعض. لم يتعالَ «توري» في الرد على كل ّمن كان يكتب له. في المجمع السكني أيضًا، ستعرف بأنّ «توري» كان قارئًا غزير الإنتاج، وتلمح على الرفوف الخشبية كتباً عن الاقتصاد السياسي والتاريخ والفلسفة والأدب الثوري، وأعمال «إدواردو غاليانو» و «والتر رودني» إلى «فرانتز فانون» و«سي إل آر جيمس»…. 

لم يكُن المجتمع الأفرو-أمريكي الذي دخل فيه «كارمايكل» المعركة من أجل الحقوق المدنية في الستينيّات من القرن الماضي مكوّنًا من طبقةٍ اجتماعيّةٍ موحّدة. إنه مجتمع متنوع أنتج تحالفاتٍ اجتماعيّة سياسية مختلفة وأحيانًا متعارضة في الصدامات الأيديولوجية. كان «كارمايكل» أو «كوامي توري» نتاجًا لهاتين المعركتين اللتين ظهر فيهما إلى جانب الوحدة الأفريقيّة والاشتراكيّة.