“أسستْ مجموعةٌ من رأسمالييّ الشّتات “شركة المشروبات الوطنية الفلسطينية” في العام 1995، وهي الشّركة التّي تمتلكُ حقّ الامتياز لتصنيع وتسويق منتجات “كوكاكولا” في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولعلّ إضافة شركةٍ جديدةٍ إلى الشّركات القائمة على قاعدةّ حقّ الامتياز، وبالتّالي التّشجيع على الإدمان الاستهلاكي لمشروب ضارّ وغير صحيٍ، هو أمرٌ معادٍ للتنمية بامتياز! يرأسُ هذه الشّركة زاهي خوري وهو المدير التنفيذي لها. وهو أيضاً من رأسماليي الشّتات الذين عادوا من الولايات المتحدة الأميركية إلى فلسطين بعد توقيع اتفاقيات أوسلو بهدف إقامة مشاريع تجاريّة” (بتصرف من كتاب “فلسطين:وطن للبيع”، خليل نخلة، ص 105).
في هذا المقال لن تتم مناقشة المؤسسات الاقتصادية الوطنيّة في ضوء الاتفاقيات وأصحاب رؤوس الأموال وأدوارهم وتصريحاتهم ومواقفهم، ولن يتم تفكيك المؤسسات الرأسمالية أكاديمياً، إنما سنعرض بعض الملاحظات حول ممارسات حيّة مُعاشة داخل إحدى كبريات الشّركات “الوطنيّة” بحقّ العمّال، وهي شركة المشروبات الوطنيّة “كوكا كولا”. تعكسُ هذه الملاحظات الواقعَ المريرَ الذي يعيشهُ العاملُ الفلسطينيُّ يومياً، مما يدفع به دفعاً إلى العمل في الأراضي المحتلة عام 1948، أو الهجرة خارج فلسطين، ويبقى السؤال لصالح من هذا؟!
تسهيل الإجراءات
لا يخفى على أحدٍ أن مصانعَ بحجم مصانع شركة المشروبات الوطنيّة -كوكاكولا تحتاج إلى كمٍّ هائلٍ من الإجراءات القانونية والتّراخيص، خاصّة أنها ذات علاقة بموضوعٍ حساسٍ في فلسطين هو المياه وآبار المياه، ناهيك عن حجم المعدات والمواد الخامّ التي تحتاجها مثل هذه المصانع، والتي تعتمد بمعظمها على الخبرات الأوروبيّة، وكذلك على السوق “الإسرائيلي” كمزوّدٍ رئيسٍ للمواد الخامّ.
في حالة شركة المشروبات الوطنيّة تكاد العراقيل التي يضعها الاحتلال تكون معدومة إلا تلك الإجراءات الروتينية التي لا تحمل في طبيعتها أيّة عرقلة، وإنما هي مجرد إجراءاتٍ طبيعيّةٍ. لنأخذ الماء على سبيل المثال، ففي إحدى المناطق في الضّفة الغربية، اعتادت قوات الاحتلال بين الحين والآخر وبشكل دوريّ (كل سنة تقريباً) على فحص أحد آبار المياه الذي تستفيد منه مجموعة من القرى الفلسطينية، وتقوم بالتدخل وتحديد كميات المياه المسموح استخدامها. فيما بعد افتتح مصنع تابع لشركة المشروبات الوطنية في تلك المنطقة، وأصبح المصنع يعتمد على البئر ذاته، ويلاحظ أهالي المنطقة والمستفيدون من البئر أن الرقابة “الإسرائيلية” عن البئر أصبحت شبه غائبة.
في سياقٍ متصلٍ بتسهيل الإجراءات، وفي وقتٍ تستمر فيه سياسة الحصار المطبّق على قطاع غزة بعد العام 2007، تم إنشاء مصنعٍ من الصفر لصالح شركة المشروبات الوطنيّة في قطاع غزة ليبدأ العمل في 2016، وما يستتبع ذلك من تسهيلات في توريد المواد الخامّ وأبرزها السكر (أحد المكوّنات الرئيسية للمشروبات الغازيّة)، في الوقت الذي يتم فيه التضييق وتحديد الكميات على نفس السلعة للسوق الغزيّ.
العقود والأجور
في الوقت الذي يتقاضى فيه العامل الفلسطيني 25 شيكلاً كحدٍّ أدنى عن ساعة العمل الواحدة في المصانع “الإسرائيلية”، نرى في شركة المشروبات الوطنية التفنن المقيت في تطبيق قانون العمل فيما يتعلق بالحدّ الأدنى للأجور. فحسب القانون الفلسطيني للحدّ الأدنى للأجور من المفروض أن يتقاضى العامل المثبّت أو الموسمي 1450 شيكلاً، أو 65 شيكل باليومية، أو 8.5 شيكل لساعة العمل الواحدة. ولكن ما تقوم به الشّركة هو أن تحاول بشتى الطرق تقليل التكاليف وبخاصّة الأجور، ومنها مثلاً أنه في معظم الأحيان لا يتم تثبيت العامل إلا بعد عامين من انضمامه للشركة، وبالتالي يتم توقيع عقد شهريّ مع العامل كعاملٍ موسميّ.
لماذا العقد الموسميّ؟ لأنه بهذه الطريقة يتم تقليل أجر العامل إلى الحدّ الأدنى الممكن، فعندما يتم توظيف العامل كعامل موسميّ يتلقى أجراً ثابتاً – لا حسب الساعات-، وعندما يتم بنفس الوقت استهلاك قدرة العامل إلى أقصى حدّ عن طريق إجباره على العمل لساعات إضافيّة، فإن ذلك يضمن أقل تكاليف ممكنة في خانة الأجور.
ما يحصل فعليّاً هو أن غالبية العمّال يضطرون للعمل لساعات إضافية طويلة تصل إلى 12 ساعة معظم أيام السّنة، مما يعني أن تشغيل هؤلاء العمال وفقاً لمعاش ثابت أفضل من تشغيلهم حسب تسعيرة الساعة الواحدة. حسب هذا المنطق، بدلاً من أن تدفع الشركة للموظفين 8.5 شيكل على السّاعة، فإنها تدفع 6.35 شيكل. ويبدو واضحاً أن المصنع يتخفف بهذه الطريقة من تبعات العامل المثبّت ومستحقاته وإجازاته السنوية والمرضية، كما أنه بهذه الطريقة لا يحتسب أيّ يوم (غير الجمعة) يتغيبه العامل الموسميّ غير المثبّت (حتى بسبب المرض). كذلك تملك الشركة حسب هذه الطريقة إمكانية تسريح العامل بسهولة دون أيّة تبعات قانونية خاصةً في فصل الشتاء عند انخفاض الانتاج.
أما من الناحية النفسيّة التّي قد لا يُدرِكها إلا من يخالط الحالة، فإنّ المصنع بهذه الطريقة يُحكِمُ قبضتَه وتحكمَه بالعمّال، فإنّ كلّ عاملٍ موسميٍّ يتمنى أن يتم تثبيته يوماً ما فيجد نفسَهُ مضطراً للموافقة على شروط العمل القاهرة وساعات العمل الطويلة وسوء المعاملة أحياناً، رغبة منه في الحصول على وظيفة دائمة، مهما كانت الظروف.
وتستمر المعادلة الاقتصادية إلى ما بعد تثبيت العامل، فإن ساعة العمل تحتسب بنفس الطريقة السابقة قبل التثبيت. وأما الزيادة السنوية فحدث ولا حرج، فلا يعرف الموظفون كيف تأتي ولا على أي أساس، فمن 50 إلى 150 شيكلاً للعمال العاديين (بمسمى عامل)، وإلى 250 شيكلاً لمن لهم مسميات وظيفية مرموقة كمشرف الانتاج أو ما شابه. أما المكافآت السنوية فتأتي أيضاً دون سلمٍ واضحٍ لتصل في أقصاها إلى ما يقارب 1500 شيكل لمن يحمل مسمى وظيفياً مرموقاً.
ساعات العمل
في حين أن قانون العمل الفلسطيني أقرّ أنّ ساعات العمل الأسبوعية هي 45 ساعة، وقد تصل إلى 12 ساعة يومياً بالتراضي بين الطرفين، يكاد يكون هذا الأمر معدوماً في شركة كوكاكولا، فالدوام مُحددٌ حسب المطلوب من كميات الانتاج والتي هي مهولة بطبيعة الحال. وبالتّالي لا يقلّ الدّوام عن 10 ساعات يومياً، ويكون دوام 12 ساعة أمراً طبيعياً من شهر آذار وحتى كانون الأول أي معظم أيام السنة. ولم تكتفِ الشركة بهذا الحدّ، ففي كثير من أيام الجمعة يكون هناك دوامٌ إجباريّ لعمال التنظيف والصيانة.
أما في حال رفض العامل هذا الدوام المجحف، يتم التغافل عن موقفه الرافض، فيجد نفسه وحيداً في اعتراضه، خاصّة أن معظم العمّال لا يدركون حقوقهم، ويخشون أن يُلقى بهم خارجاً ويصبحوا عاطلين عن العمل، وخاصّة الموسميين منهم. ومن يقف بكلّ جديّة في وجه هذه السياسة يتم التّضييق عليه في التقييم السنويّ والزيادات والترقيات، حتى أن أحد هؤلاء العمّال ذَكَر أن معاملة مسؤوله معه قد ساءت وتم تحديد ساعات دوامه، ليغدو هذا الاعتراض الجديّ لعنةً عليه.
كل العمل الإضافي الذي تحدثنا عنه هو مدفوع الأجر حسب القانون، ولكن ليس حسب سياسة الشركة. فما يجري في شركة المشروبات الوطنيّة هو سياسة متشابكة تُشعِر العامل أنه في بيت العنكبوت يصعب عليه الفكاك منه. فالأجر غير كافٍ، الأمر الذي يضطر العامل إلى إضافة ساعات إلى عمله الأصلي، أي أنه يبادر إلى ساعات عملٍ إضافيّةٍ، وقبوله بعملٍ إضافيٍّ لمدة معينة تجعله يصمت عندما يصبح العمل الإضافيٍ “مُلْزِمَاً”، وهو في ذات الوقت عاملٌ غيرُ مُثبّتٍ ولا توجد أمامه فرصُ عمل كافية، خاصة أن معظم العمّال هناك هم من أولئك الذين لا يستطيعون الحصول على تصاريح عمل في الأراضي المحتلة عام 1948. هذا الأمر يضع العامل في حالة من الضغط والمتاهة، فهو لا يجد بديلاً ولا يستطيع أن يكتفي بقدر قليل من ساعات العمل.
إحكام السيطرة
لا شيء مما أدرجناه أعلاه إلا ويمكن أن يتم تفسيره وبسهولة في ضوء الشّركات الرأسمالية ومصالحها، ولكن تعظيم الفردانية وروح الربح في بلد مستعمر يضعنا أمام تحدٍّ صارخ وعلامات فارقة لا بدّ من مجابهتها، ولا بدّ من السؤال لصالح من وكيف تتم الأمور؟! أن تحصل برجوازية في بلد مستعمر على وكالةٍ أجنبيةٍ لسلعة استهلاكية تكميلية لهو أمرٌ مثيرٌ للشفقة.
كما إن إحكام السيطرة في شركة كوكاكولا يأتي أيضاً من طرف العمال ومسؤوليهم اتجاه بعضهم البعض، لينسوا مجبرين الآلة التي تغسل أدمغتهم وتأكل أجسادهم، فيصبح الزميل أو المسؤول في العمل هو العدوّ أو مصدر هذا الاضطهاد الذي يشعر به العامل داخل المصنع. تبدأ هذه السياسة من الأعلى متجهةً للأسفل، ففي الوقت الذي يُمنَح المدراءُ راتباً ثابتاً منخفضاً نسبياً مقارنة بالمسمى الوظيفي الذي يشغلونه، فإنهم يُمنحون نسبةً مئويةً على كلّ صندوقٍ يتم إنتاجه ولك أن تتخيل معنى ذلك. هذا يعني أن المسؤول أو المدير لن يتوانى عن الضغط على العمال من أجل رفع الانتاج. وهذا يعني سوقاً نهمة لا تكفّ عن الطلب، وشركة تحاول قدر الإمكان تخفيف تكاليفها ومسؤولياتها تجاه العمال، مقابل حصول كبار المدراء والمستفيدين فيها على أكبر قدر من الانتاج والربح الشخصي لكل واحدٍ منهم، ابتداء من مندوب المبيعات، وليس انتهاء بمدير المصنع.
هذه العملية تعني أن الضغط يتم تفعيله من أعلى لأسفل ليصل إلى العمّال الذين لا يجدون فرصة عمل بديلة، فيشعرون بالضغط النفسيّ والانهاك الجسديّ، وهم في معظمهم من أولئك الذين خرجوا من المدارس ولا تتجاوز أعمارهم 22 عاماً، ولشدة الضغط فإنه من الطبيعيّ أن تسمع منهم عبارات مثل “الشغل عند اليهود أرحم”، أو مثلاً “الابتهال إلى الله بإبقاء دولة الكيان وسوق العمل فيها”.
ذلك الضغط يخلق عداوات شخصية في كثير من الأحيان ويخلق إنساناً فاقداً لشعور الانتماء لأي شيء، لأنه عند الحاجة إليه في عمل ما في ظروف صعبة ترى مسؤوله يتودد إليه، وعندما تقع الواقعة بمشكلة معينة أو في ظروف مغايرة لا يتورع مسؤوله من التضحية به أو إساءة معاملته. وأحياناً يتم استخدام سياسة ما نسميه التخجيل، أو سياسة العونة بما تحمله من قيمةٍ أخلاقيةٍ مغروسة ٍفينا عند الحاجة.
وعند الحاجة أيضاً يتملص هذا المسؤول ليصبح الواجهة القانونية التي لا تعرف قيماً، ليدخل هذا الشاب في ريعان شبابه صدمة المصلحة والأخلاق فيصبح مقتنعاً بلا هوادة أن شعار (مصلحتي أولاً) هو أساس هذه الحياة. بناء الإنسان الفرداني الأناني هنا يبدأ بطريقة ما، ولا ينتبه العامل للسياسات ليصبح العمل ساحة حربه وتبقى إدارة الشركة في معزل عن كل هذه المشاكل، يطحن الناس بعضهم بعضاً لتستمر الماكنة.
لطالما ضربت الجملة التالية كل النقاش المحتدم ليصطدم بصمت مطبق مقنع: “لو أن الحد الأدنى للأجور كان كذا وكذا لاستجابت الشركات”، فالخلل حسب هذه الجملة هو في القانون نفسه، على الرغم من أن الأمر ليس بهذه البساطة والسهولة التي يتوقعها العمال، إلا أن وعيهم أوصلهم إلى الفساد الذي يضرب في كل ما يتعلق بمؤسسة أوسلو وملحقاتها بما في ذلك القانونية والاقتصادية، التي من الواضح أنها تسير بتناغم يصل حد التماهي أحياناً وتسهيلات واضحة للعيان من قبل القوة الاستعمارية ومؤسساتها.
*كتبت هذه المادة بناء على شهادة أحد العاملين السّابقين في شركة المشروبات الوطنية.