آرماندو: هل تريد الهرب يا محمود؟ محمود: نعم أريد الهرب.. مللت منكم، ألم تملّوا مني؟ آرماندو: وما رأيك بدولة “إسرائيل” وهي تكشفك قبل أن تخلعَ البلاط؟ محمود يقهقه: كشفتونا قبل خلع البلاط؟ هل أنت جاد؟ يبدو أنك لم تر النفق بعد؟ آرماندوا وقد جنّ جنونه، يصرخ: ماذا تقول؟ … لا تمزح معي.
هذا المقال هو الثاني ضمن سلسلة “تاريخ مختصر للهروب من السجن”، للاطلاع على الجزء الأول، والثالث.
الهروب الكبير من سجن غزّة عام 1987
نصف منشارة حديد داخل رغيف خبز “فينو” كانت الهدية غير العادية التي طلبها الأسير مصباح الصّوري من أحد أصدقائه لدى زيارته له (وقد كان حينها يُسمح بزيارة الأصدقاء) في سجن غزّة المركزيّ في الأيام الأولى من شهر أيار لعام 1987، لتبدأ التحضيرات لواحدةٍ من أشهر عمليات الهروب من سجون الاحتلال، وقعت في 17 أيار عام 1987، وعُرفِت في أدبيات السجون باسم “الهروب الكبير من سجن غزّة – السرايا [1]”.
وُلِد الشّهيد والأسير السّابق مصباح الصّوري في مخيم المغازي في قطاع غزّة في العام 1954، وينتمي لعائلةٍ هُجِّرت من مدينة أسدود عشية النكبة. انضم الصّوري لركب المقاومين منذ شبابه، وكان من كوادر “الجهاد الإسلامي”، وشاركَ في تنفيذ عدة عملياتٍ ضدّ جنود الاحتلال، كان أبرزَها الإشرافُ على اغتيال الضّابط الصّهيونيّ “رون طال”، قائد الشّرطة العسكريّة الصّهيونيّة في قطاع غزّة آنذاك.
لم تكن عملية الهروب من سجن غزّة المركزيّ هي التجربة الأولى للشّهيد الصّوري في مجال الهروب من السّجون، فقد سبق أن حاول الهروب من سجن بئر السّبع أكثرَ من مرةٍ، إلا أن سلطات السّجن كَشَفَتهُ، وعاقبتُه حينها بالعزل الانفراديّ لشهرين. أُفرِجَ عن الصّوري فيما بعد في صفقة تبادل الأسرى عام 1985، ولم يمنعهُ ذلك من مواصلة العمل النضاليّ، فأُعيد اعتقالُه مرةً أُخرى، وحُكِمَ بالسّجنِ لمدة 30 عاماً، وهي المرّة التي خاض فيها تجربة الهروب من سجن غزّة؛ موضوع حديثنا في هذا النصّ.
عرض الأسيرُ الصّوريّ حينها على الأسيرين عبد السّلام أبو السرهد وعماد الدين عوض شحادة خطّته التي تقضي بقصّ قضبان نافذة الحمام، ثمّ الهروب من خلالها. كان دورُ الاثنين المساعدةَ في قصّ القضبان، لكنهما لن يشاركا في الهروب، كونهما ليسا من أصحاب الأحكام العالية، وفترة سجنهما شارفت على الانتهاء.
فيما اختار الصّوري المشاركين بالهروب من أصحاب الأحكام العاليّة، الذين لا فرصَةَ لهم بالتحرر من الأسر إلا بصفقات التبادل، أو بالهروب. وهكذا كان أبطالُ عملية الهروب الكبير تلك ستةً، هم بالإضافة إلى الصوري، الأسرى: صالح اشتيوي، وسامي الشيخ خليل، ومحمد الجمل، وعماد الصفطاوي، وخالد صالح.
لم تكن عمليةُ قصّ القضبان سهلةً، ففي الغرفة (7) من قسم (ب)- والتي كان يُسجن فيها الصّوري- هناك 26 أسيراً، جميعهم يستخدمون نفس غرفة الحمام، ما يعني أن الحمام مشغولٌ على مدار السّاعة، أو أنه على الأقل سيضطر الأسرى لاستخدامه خمس مراتٍ يومياً للوضوء، استعداداً للصلاة.
إضافةً إلى ذلك، فقد كان هناك برجٌ عسكريٌّ يبعد عن النافذة ما يقارب 10 أمتار، وكان الجنديّ المسؤول عنه يراقب النوافذ بشكلٍ دوريٍّ ومتواصلٍ، ويسلّط كشاف الضوء كلّ نصف ساعةٍ باتجاهها. ليس هذا فحسب، بل كان هناك برجٌ عسكريٌّ ثانٍ يبعد عن الغرفة 30 متراً، وكان قسم المخابرات التابع للسجن في الطابق الأول، أسفل الغرفة التي تم الهروب منها بالضبط.
قام الأسرى الثلاثة بالعمل المتواصل من أجل قصّ القضبان لمدة 3-7 أيامٍ حسب الروايات المختلفة. وبحسب ما يروي الأسير السّابق أبو السّرهد في لقاءٍ مع “الإعلام الحربي لسرايا القدس”، فقد كانوا يعملون في الحمام لفترةٍ قصيرةٍ بين 10–13 دقيقة في كلِّ مرةٍ، محاولين عدمَ لفت انتباه بقية الأسرى. وقد تمكنوا في ليلة الأحد السابع عشر من أيار لعام 1987، قصّ قضبان النافذة بالكامل. وعندما اكتملت عملية القص، أخبر الشهيد الصّوري زملاءه الأسرى الخمسة الآخرين من أصحاب المحكوميات العالية بنيّته الهروبَ ليشاركوه في ذلك.
في تلك الليلة، كان اليهود يحتفلون بأحد أعيادهم، وكان حراس السّجن منشغلين بالاحتفال والرقص والمشروبات. يروي أبو السرهد بأنه في الساعة الواحدة والنصف من بعد منتصف الليل ساد الهدوء في السجن، وسكتت الأصوات الصاخبة لاحتفالات الحراس، لتبدأ “حفلةٌ” مختلفةٌ لدى الأسرى، فقد اقتربت ساعة الصّفر، وبدأ الأسرى الستة التجهيز لهروبهم “الكبير”.
“وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون”، كانت ألسنة الأسرى تردّد وهم يخرجون من النافذة مستعدين للهروب، وذلك بعد أن وضعوا الوسائد مكانهم على الأبراش (الأسرّة)، موهمين السّجان أنهم نيامٌ. وقد كان صالح اشتيوي أول الفارين، ثم مصباح الصوري، ومن ثمّ سامي الشيخ خليل، تلاه محمد الجمل، فعماد الصفطاوي، ثم خالد صالح.
كانت طبقةٌ من الضباب حلّت في تلك الليلة توفِّر ستاراً للأسرى السّتة الذين صعدوا على سطح المطبخ قبل أن ينتقلوا إلى سجن المخابرات والشرطة العسكريّة، وصولاً إلى المنطقة الشرقية لمبنى السجن، وهناك ساعدتهم أشجار الكينيا على تجاوز جدار السجن، فقد اعتلوها واستعانوا بأغصانها من أجل القفز إلى ما وراء الجدار والأسلاك الشائكة. أما إدارة السّجن فلم تعلم بهروب الأسرى السّتة إلا بعد مرور 4 ساعاتٍ، وعلموا بذلك في السادسة صباحاً، في فترة العدّ الصّباحي للأسرى.
بعد النجاح بالهروب من السّجن، يبرز السؤال الأصعب: ماذا بعد؟ وفي حين كان البعض يشير على الشّهيد الصّوريّ بالخروج من فلسطين ريثما تهدأ الأمور، كانت الأمور محسومةً عنده، فقد قرر البقاءَ في غزّة، مواصلاً نضالَه ضدّ الاحتلال، حتى استشهد في تشرين الأول من نفس العام 1987. بعد الهروب، تمكّن الشهيد الصّوري من الاختفاء لمدة 4 شهور تقريباً، بينما مارست أجهزة الاحتلال الأمنية ضغوطاتها على العائلة من أجل إجباره على تسليم نفسه، وكان الصّوري في ذلك الوقت يحاول بشتى الطرق التسلُّحَ وتنفيذَ عملياتٍ ضدّ الاحتلال، مواصلاً طريقَه النضاليّة.
استطاع الاحتلال الوصول بواسطة عملائه إلى المواقع التي اختفى فيها الصّوري برفقة بعض المجاهدين، حيث دار اشتباكٌ معهم. وبحسب إحدى الروايات، فقد كان الصّوري حينها في طريقه لسيناء في محاولةٍ للحصول على السّلاح. انتهى الاشتباك باستشهاد اثنين، واعتقال الصوري وهو مصابٌ بجروح خطرة، ليُنقلَ بعدها إلى التحقيق، ويستشهد رحمه الله في تشرين الأول 1987.
أما الأسير الهارب صالح اشتيوي، فقد اعتقل بعد سبعةِ أيامٍ من عملية الهروب، لتتمّ إعادة حكمه السابق بالإضافة إلى سنتين بتهمة الهروب من السجن. بينما أفلح الأسيران الهاربان عماد الدين الصفطاوي وخالد صالح في مغادرة قطاع غزّة باتجاه مصر بعد بضعة شهور من اختفائهما بعيداً عن أعين الاحتلال. وبعد شهرين تقريباً، تم إبعادهما إلى العراق، لينضم خالد صالح إلى خليل الوزير حتى استشهاده في العام 1988، وينتقل صالح بعد ذلك إلى تونس، ثم يستقر في الجزائر.
أمّا عماد الصفطاوي فعاد إلى غزّة عقب اتفاقية أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994، ومن ثم أعيد اعتقاله عام 2000، وصدر الحكم عليه بالسّجن الفعليّ 18 عاماً.
معركة الشجاعية
أمّا الأسيران الهاربان محمد الجمل وسامي الشيخ خليل فقد استشهدا بعد أشهرٍ من استشهاد مصباح الصوري خلال اشتباكٍ مسلحٍ مع جنود الاحتلال الذين حاولوا نصبَ كمينٍ لهم، وهي العملية التي عرفت باسم “معركة الشجاعية”، والتي كان لها الدورُ في تفجير الانتفاضة الأولى. فبعد الهروب من السجن، توارى كلٌّ من الجمل والشيخ خليل في حيّ الشّجاعية شرق مدينة غزة. هناك كانت البداية، عندما التقيا لأول مرة بالمناضلَيْن زهدي قريقع وأحمد حلس، وكمن وجد ضالته بعد بحثٍ مُضنٍ، تعاهدوا جميعهم على مواصلة المقاومة وعدم الاكتفاء بالهروب فقط لإيلام العدو.
وقد شكّل لهم استشهادُ رفيق دربهم الصّوري دفعةً قويةً للمضي قدماً، خاصّة بعد رفضه الوشايةَ بهم وتفضيلَه الموتَ على ذلك، فكانت الخطة تقضي بتنفيذ عمليةٍ استشهاديةٍ بعد أشهرٍ من المطاردة، وفعلاً مضوا في طريقهم لتنفيذها، لكنهم تفاجأوا بقوةٍ صهيونيةٍ خاصّةٍ تهاجمهم، أدركوا حينها أن هذه هي معركتهم، فهبوا برصاصهم مشتبكين معهم لعدةِ ساعاتٍ دون استسلامٍ. أسفرت هذه المعركة عن قتل ضابطِ مخابراتٍ صهيونيٍّ يُدعى “فيكتور أرجوان” وإصابة عددٍ من جنوده، لتنتهي باستشهاد الأبطال المقاومين.
لم تكن معركةُ الشجاعية معركةً عابرةً، بل كانت نقطةَ تحوُّلٍ نوعيّةً في المقاومة، إذ شحذت همم الشعب للعودة إلى ميادين الاشتباك بشكلٍ واسعٍ، بعد أن كُسرت هيبة “القبضة الأمنية الصهيونية” التي كان الاحتلال يتفاخر بها ويعظّمها، بدايةً بالهروب من السجن، حتى خوض معركة الشجاعية في 6 / تشرين الأول 1987. لتتوالى أعمال المقاومة بعد ذلك وتتكلّل بانطلاق انتفاضة الحجارة في الثامن من كانون الأول للعام 1987، أي بعد شهرين فقط من معركة الشجاعية.
الهروب من سجن نفحة عام 1987
بعد مرور أشهرٍ قليلةٍ على عملية “الهروب الكبير”، كانت خيوط عملية هروبٍ جديدةٍ تُنسج رويداً رويداً في سجن نفحة الصحراوي، وخاصّةً في رأس الأسير خليل مسعود الراعي (مواليد العام 1954 في حيّ الزيتون في غزة) الذي اعتقل في الرابع من آذار 1974، بعد قتل قائد شرطة مدينة غزّة الصّهيونيّ وإصابة مرافقه في كمينٍ نفذه برفقة عددٍ من الفدائيين، ليُحكَم عليهم في ذلك الوقت بالسّجن مدى الحياة.
بعد عامٍ من اعتقاله، حاول الراعي الهروبَ من البابِ الخارجيِّ القريبِ من أماكن الزيارة في السجن، إلا أن محاولتَه باءت بالفشل، وتمّ تحويله حينها إلى العزل الانفراديّ. لكنّه لم يُخْرِجْ من عَقلِهِ فِكرةَ وضرورةَ الهروب من السّجن. وقد ازدادَ تحمساً وقناعةً بذلك، بعد نجاح عملية الهروب الكبير من سجن غزّة بقيادة الشهيد مصباح الصّوريّ.
بدأ الراعي في العام 1987 بالتخطيط لعملية هروبٍ أكثرَ تعقيداً من سابقتها، مستغلّاً الفوضى المؤقتة في سجن نفحة بسبب أعمال البناء والتوسيع، وقد باح الراعي بخطته للأسيرين المحكومين بالسجن شوقي أبو نصيرة وكمال عبد النبي. وكما في كلّ عمليةِ هروبٍ، فإنّ نقطةَ الارتكازِ الأولى تَكمُنُ في معرفةِ تفاصيلِ السّجنِ، والثَغراتِ التّي يمكنُ الاستفادةُ منها لاختراقِ المنظومةِ الأمنيّةِ.
وبالنسبة لسجن نفحة، فإنّ المبنى الأول فيه (أ) مبنىً قديمٌ، شهدت أقسامُه إضرابَ الأسرى الشّهير عام 1981. أما قسمه الثاني (ب)، فقد تمّ إنشاؤه في الثمانينيات بمواصفاتٍ أمريكيةٍ، وهو مخصصٌ للسجناء الجنائيين من الفلسطينيين والصهاينة. ويلاصق القسم الأول (أ) مطبخُ السّجن، بالإضافة إلى مخزنِ الملابس، وتُجاورهما ساحةُ “الفورة”. أما القسم (ب)، فهو محاذٍ لنهاية الممرّ الذي يستخدمُهُ الأسرى لخدمةِ بعضِهِم البعض؛ أي لتوزيع الطعام وما إلى ذلك، وهو ما يُسمّى “المردوان”، كما يوجد بابٌ من الأسلاك الحديدية الشائكة، وخلفه كلابُ حراسةٍ مدرّبةٌ تتربص لأيّ حركةٍ.
وخلف هذا الباب، يتم تنفيذُ أعمالِ التوسعةِ الجديدةِ للسجن من أجل بناء قسمين جديدين، وهما (ج) و (د)، بالإضافة إلى مرافق أخرى، كالعيادة، و”الكانتين”، وزنازين العزل، وغرفة الزيارة. وبعد ذلك، يأتي حاجزٌ آخرُ يجب على الهاربين تجاوزُه، وهو سورٌ إسمنتيٌّ منيعٌ مُدعَّمٌ بأبراجِ حراسةٍ، يقف فوقها حراسٌ مسلحون بالرشاشات، لمراقبة محيط السّجن وكشف ساحاته الداخليّة.
تمكّن خليل من اكتشاف ثغرةٍ أمنيةٍ أثناء عملية رصده لتحركات السجانين وعمال البناء. كانت إدارةُ السجن تُبعِدُ كلابَ الحراسةِ عن موقع العمل بسبب وجود العمال خلال النهار، وتُعيدُهم مساءً بعد انصرافِهِم، كان ذلك يتم من الصّباح وحتّى السّاعة الرابعة عصراً من كلِّ يومٍ ما عدا السّبت. وكانت عملية جلب الكلاب تستغرق ثلاثينَ دقيقةً ليكونوا في الموقع الساعة الرابعة والنصف، ذلك يعني أن السّاحة تكون خاليةً من العمال والكلاب، وأحياناً الحراس لمدة (30) دقيقة يومياً ما عدا السبت، لتكون هذه هي نقطة الارتكاز في عملية الهروب.
تجهيزاً لعملية الهروب، حصل الأسرى من ذويّهم عبر ثقوب شباك الزيارة على مناشير لقص الحديد. وقد صعنوا مطرقةً من الخشب مكوّنةً من عصي المكانس المتوفرة في الغرف، قاموا تثبيتها بحبلٍ مخفيٍّ يُمسِكُ به أحدُ الأسرى الموجودين في الغرفة، فما إن يدخل السّجان الغرفةَ، حتى يُفلِتَ الأسيرُ الحبلَ، فتسقط المطرقةُ المعلّقةُ خلف باب الحمام، مُوِهمَةً بوجود أسيرٍ في داخله.
وفي إطار التجهيزات كذلك، خاط الأسرى لأنفسهم ملابسَ مدنيّةً شبيهةً بملابس العمال الذين يتواجدون في محيط السجن، لارتدائها والتخفي بها خلال هروبهم، وقد سهّل عملُهم في خدمة الأسرى وما يعرف بـ”المردوان” تحركَهم بين الغرف والزنازين، وحصولهم على الأدوات اللازمة لكل هذه التجهيزات.
ارتكزت الخطّةُ الأساسيةُ على قيامِ الأسرى الثّلاثة، الراعي، وعبد النبي، وأبو نصيرة، بقصّ الباب السّلكيّ الشّائك الذي يفصل بين القسمين (أ ) و (ب) وبين أعمال البناء الجديد، للهروب منه لاحقاً خلال فترة جلب كلاب الحراسة. وكان البابُ عبارةً عن أسلاكٍ حديديةٍ متراصّةٍ بجانب بعضها البعض، وكلّ سلكٍ قُطرُه أربعة عشر مليمتراً، ولهذا كان عليهم قصُّ ثلاثة أسلاكٍ على الأقل حتى يتمكنوا من الخروج، فأثناء استراحتهم كانوا يجلسون بجانب بعضهم بشكلٍ يُخفي عملَهم ويبدؤون بالقص، وإذا ما اقترب أحد السجانين منهم، كان أحدهم يتولى مهمة إلهائه.
وعند الانتهاء من قصّ أيّ قضيبٍ، كان يجبُ عليهم إعادتُه لمكانه دون أن يلحظَ ذلك أحدٌ. ومن أجل ذلك، قاموا بابتكار مادةٍ لاصقةٍ تمتلك مفعولَ الغراء، تتكوّن من لبّ الخبز الممزوج بالماء ومعجون الأسنان، تساعدهم في لصق القضبان الحديدية من جديد. عند السّاعة الرابعة عصراً، قصّ الأسير الراعي قضيب الحديد الأخير. وبعد أن خلتْ ساحةُ البناءِ من العمال والكلاب والحراس، انسلَّ ثلاثتُهم منها، ثم أعادوا القضبان إلى مكانها، وما هي إلا لحظاتٌ قليلةٌ حتى أصبحوا في ساحة البناء الممتلئة بالمعدات وأكوام الرمل ومواد البناء والإسمنت، حيث اختبأ الثلاثةُ حتى حلول المساء.
في صباح اليوم التّالي، جلس الراعي ورفيقاه بملابسهم المدنيّة على قارعة الطريق الرئيسي، وأوقفوا حافلةَ ركابٍ كانت تقلُّ عدداً من الطّلاب العرب، وكلّ ما يدور برؤوسهم الثلاثة أن أمرهم لم يُكشف بعد. في هذه الأثناء وداخل سجن نفحة، بدأ أحد السجانين بالبحث عن الراعي الذي ما عاد موجوداً في ممر السّجن أو ساحته كما اعتاد عليه الأسرى. وبعد البحث بكل مرافق السّجن، توجّه إلى مكتب إدارة السجن للبحث عن اسمه في سجلات المغادرين إلى مشفى الرملة، ليجد أن اسمه غيرُ مذكورٍ، وما هي لحظاتٌ حتى دوّت صفارات الإنذار وأعلن الاحتلال الاستنفار داخل السجن وفي محيطه، بحثاً عن الهاربين الثلاثة.
في حافلةٍ إلى بئر السبع، كان يجلسُ ثلاثتهم في هذه الأثناء قبل أن يغادروها ويستقلوا سيارةَ أجرةٍ أوصلتهم غزّة في تمام العاشرة مساءً، حيث مكثوا ثمانيةَ أيامٍ، قبل أن تقترح عليهم قيادةُ حركة فتح المغادرة إلى مصر، خوفاً من إعادة اعتقالهم. في سيارةِ أجرةٍ صغيرةٍ، تمّ تهريبُ الهاربين الثلاثة إلى معبر رفح جنوب قطاع غزّة، قبل أن تحاصرهم قوات الاحتلال في النقطة الغربيّة لمنطقة الدهينية. في هذه اللحظة، همس السّائقُ لهم: “يبدو أنه قد كُشف أمرنا يا شباب، المكانُ مليءٌ بالجيش”.
لم ينهِ عبارتَه تلك حتى أصبح الجنود يحيطون بهم من كلّ جانب، ليتم اعتقال خليل الراعي ويٌنقل إلى المسكوبية في القدس، فيما نُقِلَ شوقي أبو نصيرة وكمال عبد النبي إلى عزل عسقلان. في زنزانةٍ صغيرةٍ في المسكوبية، احتجز الراعي أربعة شهور،ٍ حاولت خلالها إدارةُ سجون الاحتلال الانتقام منه، بضربه وشبحه وسحب الملابس والبطانيات منه، قبل أن يُنقل إلى العزل في سجن عسقلان، حيث قضى عامين آخرين، ومن ثم عاد إلى سجن نفحة حتى تحرره عام 1999، بعد أن أمضى 25 عاماً في سجون الاحتلال.
الهروب من عسقلان في العام 1996
آرماندو: هل تريد الهرب يا محمود؟
محمود: نعم، أريد الهرب.. مللت منكم، ألم تملّوا مني؟
آرماندو: وما رأيك بدولة “إسرائيل” وهي تكشفك قبل أن تخلعَ البلاط؟
محمود يقهقه: كشفتمونا قبل خلع البلاط؟ هل أنت جادٌ؟ يبدو أنك لم ترَ النفق بعد؟
آرماندو وقد جنّ جنونه، يصرخ: ماذا تقول؟ … لا تمزح معي.
محمود يقهقه: لستَ صديقي لأمزحَ معك… اذهب وانظر بعينيك، وصل طول النفق 17 متراً.
في العام 1996، أُبلِغَ الأسير السّابق بشار الكرمي بنقله من قسم (ج) إلى غرفة رقم (١) في قسم (أ) بشكلٍ مفاجئٍ ودون طَلَبٍ مُسبقٍ منه. أخبروه فيما بعد أن الأمر صادرٌ عن قيادة تنظيمه، فهي من طلبت نقله إلى هناك. اجتمع بشار مع 15 أسيراً داخل الغرفة الجديدة، غالبيتهم من الأسرى المحكومين بالسّجن المؤبد، وعلى رأسهم الأسير من القدس محمود عيسى، والذي شارك في الخلية القسامية التي خطفت الجندي الصهيوني “نسيم توليدانو” في العام 1992.
بدا الأمر عند بشار روتينياً وعادياً. باشر الأسرى المجتمعون في نفس الغرفة بترتيب أغراضهم وتقسيم الأسِرّة بينهم. ما إن حلّ المساء، حتى أُخبِر الأسرى أنّهم جُمِعوا في هذه الغرفة لهدفٍ ما، وأن هناك اجتماعاً سريّاً سيعُقد في تلك الليلة لإخبارهم بذلك الهدف. قبل أن يبدأ الأسير محمود عيسى بالحديث عن الهدف السّريّ، مُرِر المُصحف الشّريف بين كل الأسرى الحاضرين، وطُلِب منهم أن يُقسِموا على “السمع والطاعة” لما يقوله أميرهم، وعلى حفظ الأمانة، وعدم البوح بالسر، إذ لم تكن خطّة الهروب بعلمٍ من القيادة التنظيمية لحماس في السّجن، وإنما كانت مبادرةً من مجموعةٍ من كبار القيادات من الحركة الأسيرة التي تنتمي لحركة “حماس”[2].
كان السّر هو ما أعلنه الأسير محمود عيسى: “جمعناكم هنا لتنفيذ خطّة للهروب من السّجن”. “ولكن كما ترى يا محمود النوافذ أصبحت محصنةً جداً ومعززةً بالإسمنت”. محمود: “لن نخرجَ من النافذة، سنخرجُ من تحت الأرض، سنحفرُ نفقاً حتى الجدار الخارجيّ للسجن، منذ سنواتٍ، والفكرةُ تدور في رؤوسنا، والآن نضجت وحان العملُ عليها، فمن يريد أن يكمل الرحلة معنا، فله ذلك، ومن يريد الانسحاب من الآن، فله مطلق الحرية أيضاً”.
لم يعارض أحدٌ فكرةَ الهروب، ووافقوا جميعاً على المشاركة فيها. كانت محاولةُ الهروب تلك في فترة توقيع اتفاقية أوسلو مع قوات الاحتلال، وكانت حالةٌ من الإحباط تسود الأسرى الفلسطينيين الذين تم استثناؤهم من مبادرات الإفراج، خاصّةً أولئك الذين ينتمون لحركة حماس والجهاد الإسلامي، وأولئك الذين اتُهِموا بتنفيذ عملياتٍ فدائيّةٍ قُتِلَ فيها جنودٌ ومستوطنون.
كانت القناعة إذن أن الحريّة يجب أن تُنتزعَ انتزاعاً، فهي لن تُحقق بصفقات أوسلو، يعلق بشار الكرميّ لـ “باب الواد”، ويكمل: “القاعدة الأصلية أنّ كلَ أسيرٍ يحاولُ الهروب، والاستثناء هو الاستسلام والرضوخ، وبعد اتفاقية أوسلو وما شكّلته من إحباطٍ للأسرى المعتقلين منذ السّبعينيات، بدأت الفكرة تدور في عقول معظمهم”. إضافةً إلى ذلك، فقد أَعلَنَ مديرُ السّجنِ الصّهيونيّ أمام الأسرى تحديّه لهم بتمكُّنهم من الهروب منه، فكان ذلك التحديّ دافعاً إضافياً للأسير محمود عيسى ليضعَ خطّةً للهروب من سجن “عسقلان” المعروف بتعزيزاته وتحصيناته الأمنية الكبيرة.
إذن، 16 أسيراً اجتمعوا في الغرفة رقم (1) هم جنودُ عمليةِ الهروب، التي يقودها الأسرى الخمسة المحكومون بالسّجن المؤبد، محمود عيسى، ومحمود عطون، وموسى عكاري، وعبد الناصر عيسى، وماجد أبو قطيش. وقد وقع الاختيار منهم بطلب النقل إلى الغرفة رقم (1) لأنها تقع في الطابق الأرضي، ولا تبعُدُ عن الشّارع القريب خارج السّجن سوى 20 متراً، فهي الغرفة ذات المواصفات الأسهل لتنفيذ عملية الهروب بواسطة النفق.
خلع البلاطة
في اليوم التالي، بدأت المجموعة بأولى خطوات عملية الهروب، الخطوة الأكثر حساسيةً وتعقيداً، والتي تمثلت بخلع البلاطتين اللتين تقعا تحت باب الحمام مباشرةً، فإصابة إحدى البلاطات بخدشٍ بسيطٍ تعني كشف العملية سريعاً. بدأ الأسرى بتنفيذ ذلك، بالاستعانة بمشرطٍ صغيرٍ جداً تم تهريبه خلال زيارة الأهل، إضافةً إلى ملعقةِ طعامٍ.
“19 يوماً متواصلة ونحن منهمكون بعملية حتّ أطراف البلاطتين بحرصٍ وعنايةٍ للحفاظ عليها دون كسرها أو خدشها، كنا نتقسّم إلى ثلاثِ فرقٍ، ونقوم بالعملية حتى أنجزناها”، يقول بشار. ويضيف بأنّ عملية إخراج البلاطتين بنجاحٍ كانت تعتبر نصفَ نجاحٍ لخطّة الهروب، خاصّةً أن غرفَ الأسرى تخضعُ لتفتيشٍ يوميٍّ ثلاثَ مراتٍ، وتفتيشٍ أسبوعيٍّ، إضافةً لتفتيشٍ شهريٍّ دقيقٍ. ولذلك، كان خلع البلاطتين “أسعدَ يومٍ مرّ علينا في السّجن”، كما يُعبّر بشار عن ذلك.
أما الخطوة الثانية بعد خلع البلاطتين، فكانت حفر النفق. وكانت عمليةُ حفر النفق تبدأ بعدَ صلاةِ العِشاء وتستمرُ حتّى السّاعة السّادسة صباحاً. وجاء اختيار هذا الوقت كونه الوقتَ الذي لا تقوم فيه سلطات السّجن بأي عمليةٍ للعدّ. يُذكر أنه في ذلك الوقت، لم يكن هناك إجراءُ العدّ الأمنيّ، ولم تكن هناك أيةُ مراقبةٍ شديدةٍ على أرضيات الغرف والزنازين.
كان الأسرى الستة عشر يتوزعون إلى فرقٍ، واحدة تعمل داخل الحمام وتقوم بحفر النفق، والثانية تقوم بنشاطاتٍ تهدف إلى التستر على غياب من يحفر داخل الحمام. وكان هذا التستر يتمُّ بطريقتين، الأولى: وضع وسائد في أسرّة الأسرى المنشغلين بالحفر، حتى لا ينتبه الحراس الذين يقومون بعمليات التفتيش الفجائيّة أو الدوريّة. والثانية أن عدداً من الأسرى في الغرفة رقم (1) كانوا مسؤولين عن إحداث الضجة للتغطية على أية أصواتٍ للحفر.
ومن المفارقة أنه كان يُعرف عن غرف حركة “حماس” في السّجون الهدوءُ والانضباط، لكن الغرفة رقم (1) كسرتْ هذه القاعدة. فقد كان الأسرى المخططون للهروب يتعمّدون رفع صوت التلفاز، كما كانوا يلاكمون بعضهم البعض، وصوت صراخهم وضحكهم يعلو ويعلو، ما سبّب انزعاج الأسرى في الغرف الثانية. ويخبرنا الكرميّ بأن الأسرى في الغرف الأخرى كانوا يقولون بأن أسرى حماس في غرفة رقم (1) يستغلون غياب قيادة الحركة عنهم ليفعلوا ما يحلو لهم.
يقول بشار: “كلما كان يحين وقت الطرق، كان الفريق الذي يحفر داخل الحمام يعطي إشارةً للفريق الذي يجلس في الغرفة ليبدأ بالفوضى، حتى لا تسمع إدارة السجن وباقي الأسرى صوت الطرق والحفر”. ويضيف الكرميّ ممازحاً: “تلك الأيام كان الكذب فيها مباحاً بشكل مطلق، فقد كنا أحياناً نتمعذر أمام الأسرى الذين اشتكوا منا أو استغربوا من أصواتنا وضجتنا، فنقول إننا نُجرّب برنامجاً تربويّاً جديداً”.
بداية الحفر
بعد أن نجح الأسرى في خلع البلاطتين بنجاحٍ، بدأت الخطوةُ الثانيةُ؛ وهي حفر النفق. كان على الأسرى حفرُ نفقٍ بطول 17 متراً على الأقل من أجل ضمان الخروج إلى خارج حدود السّجن. في البداية، حفروا نفقاً عمودياً بطول مترٍ واحدٍ، ثمّ بدأوا بالحفر الأفقي.
وفيما يشبه “المعجزة”، وَجَدَ الأسرى أسفل البلاطتين قضيباً حديديّاً، يبدو أن عمّال البناء الذين لم يكن قد مضى على تجديدهم للسجن وقتٌ طويلٌ قد نسوه أسفل البلاط، فساهم هذا القضيب في تسهيل عملية الحفر بنسبة 90%، كما يقدّر الكرميّ. بدأ الأسرى إذن بتحطيم طبقة الباطون أسفل البلاط، وهي عمليةٌ استمرت 4 أيام قبل الوصول إلى طبقة الرمل أسفل الباطون.
أما التخلُّص من الباطون المحطَم، فكانت له قصةٌ أخرى، فعند موعد الفورة كانت توزع الأحجار في جيوب أسرى غرفة رقم (1)، ليلقوا بها على مراحل في حاويات القمامة الموضوعة في ساحة السجن، ويعلق على ذلك الكرميّ: “كان علينا أن نكون حذرين بكل حركةٍ نقوم بها، فنحن معنا الوقت الكافي، وليس علينا الاستعجال بأية خطوةٍ”.
أين نذهب بالرمل؟
أما عن مرحلة نقل الرمل، فيقول الكرميّ: “ظننا في البداية أنها ستكون أسهلَ مرحلةٍ، لنتفاجأ أن التّخلصَ من الرّمل هو المعضلة الأساسية”. في البداية، كانت الإذابة هي الحلّ، فقد كان عددٌ من الأسرى يعكف على إذابة الرمل في المياه، ومن ثم إلقائها في دورة المياه على عدة مراحل. ولكن ذلك يعني إمكانية أن تفيض شبكة الصّرف الصّحيّ، فيُكشف أمرُهم.
استمرّت عملية الإذابة هذه 4 أيام، ومن ثمّ فكَّر الأسرى بطريقةٍ أخرى للتخلص من الرّمل، وهي عن طريق تخزينه في أكياسٍ من القماش. ولأن الأسرى في هذه الغرفة كانوا مسؤولين عن تخزين الملابس الزائدة عن حاجة الأسرى لتوزيعها لاحقاً على من يحتاج، فقد كان من السّهل عليهم الحصولُ على قطع القماش. وقد كان أحد الأسرى في هذه الغرفة، وهو حسن الغفري، مسؤولاً عن مخيطة السّجن، فسهّل ذلك عليهم، إذ كان يقصّ الملابس ويحوّلها إلى أكياس.
وهكذا، أصبح الأسرى يعبئون الرمل داخل الأكياس، وفور انتهائهم من الحفر كان عليهم إعادة هذه الأكياس إلى داخل النفق، إذ لا يمكن أن تبقى الأكياس مصفوفةً داخل الغرفة، فسيلاحظها السّجانون في فترة العدّ.
لم يكن ذلك سهلاً، يقول الكرميّ: “كلما طالت المسافة، كان العمل يزيد تعقيداً، فقد أصبحنا نعمل حتى الساعة الرابعة والنصف فجراً، ثم نبدأ بإغلاق النفق بالأكياس المعبّأة بالرّمل، ثم نعيد البلاطتين ونسدّ الفراغات بينهما وبين بقية البلاط باستخدام معجون الأسنان”.
وقد سبّب العملُ طوال الليل إرهاقاً للأسرى، يعلق الكرميّ: “كان علينا أن نشارك بالفورة صباحَ كلِّ يومٍ، ونخفي تعبنا حتى لا نثير الشكوك، كما أصبحنا نحفر نصفَ ساعةٍ واحدةٍ باليوم فقط، على اعتبار أن إعادة الأكياس تحتاج لوقتٍ طويلٍ، كونَ النفق بات أكبر وأطول”.
عدا عن ذلك، فإن وجود ستةٍ من الأسرى داخل النفق الضيّق منهمكين في الحفر سبب ضيقاً في التنفس لبعضهم، بسبب قلّة الأكسجين. لكن الأسرى لم يعدموا حلّاً، فالتقطوا من ساحات السّجن ما كان يُلقى من الأسلاك هنا وهناك، فاستخدِمت اأخيرة لمدّ المراوح الصغيرة داخل النفق. ورغم الجهود الكبيرة والتعب، لم تغب روح الفكاهة عن الأسرى، فيقول الكرميّ إنهم، في بعض الأحيان، كانوا يسمعون خطوات السجانين فوقهم مباشرةً، فيبدأون بالضحك والغناء والصراخ، دون أن يسمعهم أحدٌ.
بعد 25 يوماً من العمل المتواصل، باتت مشكلة التخلص من الرمل تزداد، كما أن العمل داخل النفق في ظلّ نقص الأوكسجين ما عاد ممكناً. اجتمع الأسرى للبحث في الأمر، فكان عددٌ منهم يرى أنه يكفي ما حُفِرَ حتى تلك اللحظة من مسافةٍ، وأنه يمكن أن تكون فتحة النفق داخل حديقة السّجن، لا خارج السجن وجداره، كما تنصّ الخطة.
كانت حديقة السّجن الخاصرةَ الرخوةَ فيه، فحراسات جنود الاحتلال المتمركزين على أبراج المراقبة تنصبُّ على الشّارع الرئيسي، فيما يتجوّل السجانون داخل حديقة السّجن بلا أسلحةٍ، ما دفع الأسرى للتفكير بالخروج إلى حديقة السجن، متوقعين أن بيدهم عنصرَ المفاجأة وبإمكانهم السيطرة السريعة على الجنود ومواجهتهم، قبل أن يتمكنوا من الهروب، فيما يبقى خيار الاستشهاد حاضراً.
بقي محمود عيسى صامتاً لمدةٍ طويلةٍ حتى أنهى الجميع كلامه، وما أن وُجِّه له السّؤال عن رأيه، حتى جاءَ رَدُّه بالرفض: “هل نسيتم القسم على السّمع والطاعة الذي أديتموه قبل أن نبدأ؟”. وكان الأسير محمود عيسى يرى في فكرة الخروج إلى حديقة السّجن مخاطرةً كبيرةً قد تنهي أرواحهم الستة عشر، وهو كقائدٍ لا يستطيع تحمّل هذه المسؤولية.
مواصلة الحفر وانكشاف الخطّة
واصل الأسرى شقّ نفقهم حتى وصلوا لما يقارب الـ17 متراً، أيّ أنهم كانوا بقرب جدار السّجن تماماً. بعد كل التّعب ونقل أكياس الرمل والقلق الدائم من انكشاف الخطّة، كان الأسرى على بعد أيامٍ قليلةٍ من الوصول إلى خارج السّجن، لكن ذلك لم يكتمل لهم.
يشرح الكرميّ تلك اللحظة: “استيقظنا يوم الجمعة على صراخ العمّال أن الرمال أغلقت شبكة المجاري، وفجأةً أُطلقت صفاراتُ الإنذار واستُدعيَ الشاباك”. كان ذلك يعني في تاريخ السّجون أن ثمّة محاولةً للهرب، وأن الرمال سدّت المصارف. أخرجتْ إدارةُ السّجن كافةَ الأسرى من الغرف، فيما حافظ أسرى غرفة رقم (1) على هدوئهم ورباطة جأشهم، وتفرّقوا بين زملائهم الأسرى، فيما عيونهم ما زالت تلتقي، وكانوا قد ودعّوا بعضهم، مؤكدين على أنهم أنجزوا المستحيل وسط تخاذل المحيط وضعفه.
يروي الكرميّ: “استدُعيت قوات النحشون التي بدأت بتفتيش الغرف واحدةً تلو الأخرى، وما زال الشك في أذهان السّجانين يدور بين غرفة رقم (1) وغرفة رقم (2)، ثم بدأوا بإدخال أسرى كلّ غرفةٍ يتم تفتيشها والانتهاء منها”، مشيراً إلى أن أحد عناصر النحشون خرج وأخبر مدير السجن أنه لا يوجد شيءٌ بالغرفتين، بما فيهما غرفتهم هم.
جُنّ جنون “آرماندو” المتأكد تماماً من أن أحدهم يحاول الهروب، فسحب المطرقة الكبيرة من يد أحد عناصر النحشون، ودخل غاضباً إلى غرفة رقم (1)، وبدأ بتفقّد البلاطات بالمطرقة حتّى وصل إلى البلاطتين “بوابة الحريّة”، فاكتُشفت المحاولة. كانت لحظةً حماسيةً، يصفها الكرميّ: “في تلك اللحظة، بدأ الأسرى في كلّ الأقسام بالتكبير ووصفنا بالأبطال، عانقنا بعضنا وسجدنا سجدةَ شكرٍ لله،. كان الموقف رهيباً جداً، فيما أحاط بنا عناصر النحشون قبل أن يتم تحويلنا للتحقيق”.
لم تتوقف مخططات الأسرى حيث سينتهي النفق، بل شملت أيضاً الحديث عن سؤال “ماذا لو تم كشفنا والتحقيق معنا”، حينها تسابق الأسرى فيما بينهم من سيحمل المسؤولية ويذهب للعزل الانفرادي، وكان السبّاق الأسير محمود عيسى فقال: “أنا بحاجةٍ لحفظ القرآن وأريد أن أنعزل قليلاً”، فتمّ الاتفاق أن من سيتحمل مسؤولية الحفر للنفق هم محمود عيسى وماجد أبو قطيش وموسى العكاري.
حُوِّل الأسرى إلى التحقيق، ونفى معظمهم معرفتهم بوجود النفق. “إذا كنتَ تَعرِفُ بالنفق هل كنت ستخبرنا؟” سأل المحقق، فأجاب الكرميّ متظاهراً بالسّذاجة: “أنتم تعتقلونني فأنا لا أخاف منكم، ولكن أخاف من هؤلاء الذين قتلوا جنودكم وقد يقتلونني إذا كشفت أمرهم”. وأضاف الكرميّ بطريقةٍ استفزت المحقق: “الواحد منهم قتل أربعةً من جنودكم”، فيما بدأ المحقق بالصراخ: يكفي يكفي.
أثناء نقل الأسرى إلى عزل سجن الرملة، رأوا بعيونهم الجرافة، وهي تحفر المكان الذي خشي جنود الاحتلال والسجانون دخوله. رأوا النفق الذي تجاوز أكثر من 17 متراً، “ربما شعرنا بالحزن قليلاً، إلا أننا رأينا مجهودنا الذي بذلناه طيلة الأيام الماضية”.
تابع/ي قراءة الجزء الثالث من هذه السلسة: “زَي اللي بُنقُر جبل بإبرة”: الهروب من سجن كفار يونا (3)
—————————-
الهوامش:
[1] سجن غزّة المركزي، سجنٌ أقيم في ثلاثينيات القرن الماضي على يد الانتداب البريطاني قبل أن ترِثَه الإدارةُ المصريةُ بعد عام 1948 وتحوّله مجمعاً للدوائر الحكومية. وبعد حرب حزيران عام 1967، استولت عليه قوات الاحتلال واستخدمته كسجنٍ ومركزِ تحقيقٍ للفدائيين الفلسطينيين، حتى أُغلق مع عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزّة عام 1994.
[2] نُقلت القصة كما رواها الأسير السابق بشار الكرميّ لفريق “باب الواد”.