كما يتمّ قمع وإعادة تأهيل بعض المشاعر من أجل الوصول إلى الحالة النفسيّة المثاليّة لدى الجنود، يتمّ تعزيز مشاعر أخرى كالفخر والسعادة، الحنين والشهوة إلى حدّ ما؛ ويبدو أنّ الأمور تذهب بهذا الإتّجاه المرن أكثر فأكثر، وبالرغم من الانتقادات الكبيرة، تقول ساسون ليفي، فإنّه يسمح للجنود الصهاينة اليوم إظهار حدّ معيّن من الحزن والألم، وحتّى البكاء في جنازات الرفاق. إذاً، “يمكنك البكاء، لكن دون أن تشهق.” بهذه العبارة التي قالها أحد جنرالات الجيش الصهيوني لجنوده يمكن اختصار جوهر عسكرة المشاعر.

الجزء الرابع.

صناعة الجنود: خمس آليات ممكنة في عسكرة المشاعر  

بالرجوع إلى التعريف العسكري للجندي، وإلى فكرة الخوف كما هو (التعريف العصبيّ للخوف)، نجد أنفسنا بالضرورة أمام علاقة صراع بين عالمين ينتصر فيه أحدهما على الآخر، إمّا أن يترك الجنديّ الجيش لأنّه لم يستطع التحكم بخوفه، وليس هذا هو الهدف الذي أنشئت الجيوش من أجله، وإمّا أن ينتصر الجندي على خوفه، وهذا هو الحال بكلّ تأكيد.

لكن، كما سبق وقلنا في الفصل الثاني، إنّ أول ما لاحظناه في ميدان هذه الدراسة هو أنّه في عمليّة صناعة الجنود، لا يتمّ التعامل مع الخوف بهذه الصراحة التي نتعامل بها معه الآن، باستثاء بعض الوحدات القتاليّة الخاصّة أو السرّيّة. بكلمات أخرى، لن نجد في أيّ حال من الأحوال، مدرّبًا يقول لجنوده: “هاكم أمثلة على الخوف، وهذه الطرق التي يمكن التصرّف بها!” الخوف كما عمليّة صناعة الجنديّ عملية أكثر تعقيدًا من ذلك.

ولهذا، يؤخذ الجندي الجديد، القادم الجديد، كلّه وحدة واحدة كتهديد يشكّل خطرًا (free-rider)، أو على الأقلّ خطرًا محتملاً (فرصة وتحدّي) على منظومة التعاون في الجيش كشكل من أشكال الجماعة البشرية؛ وما قصدنا قوله من خلال هذا النصّ بعسكرة المشاعر هو عمليًّا عمليّة صناعة الجندي كاملة، والتي تشمل بطبيعة الحال إقامة حالة نفسيّة عسكريّة يرى الجنود فيها أنفسهم؛ ويعتمد الجيش في هذا على خمسة تكتيكات رئيسية:

أولاً: الطبيعة الشخصيّة (البناء الاجتماعيّ للجنديّ):

عندما سألنا الجنود كيف أمكنهم التحكّم بخوفهم في أرض المعركة، كانت الطبيعة الشخصيّة هي أول ما تمّ استحضاره على ألسنتهم بطريقة مباشرة وغير مباشرة، باستخدام تعبيرات مثل “هذا أنا”، “هذا في داخلك”، “كبرت هكذا”، أو “عندما كنت صغيرًا لم أكن أخاف أحدًا”، وتعبيرات أخرى يزخر بها دفتر ملاحظاتنا.

ولمّا حاولنا النبش أكثر وراء هذه الأجوبة، وجدنا أن كلّ مسار بيوغرافي فيه آليّات لا تحصى لصقل شخصية الفرد ومناعته أمام المشاعر السوداء، ويتمّ أحيانا الانتباه فعلاً إلى أنّ من هذه رياضة الجودو مثلاً، أو التزلّج، القراءة، والمخيّمات الجبليّة-الدينيّة (Scoutisme)، فيُشار إليها كآليات بطريقة مباشرة.

وأحيانا أخرى، تكون طبيعة الحياة بحدّ ذاتها، أي بكلّيّتها، آليّة للتصالح مع الخوف على المستوى البعيد، كالنشأة في حيّ شعبيّ لأب عربيّ مفقود وأمّ فرنسيّة وأخوة في السجن، إلخ. وفي هذه الحالات غالبا ما يكون هناك صعوبة في الإشارة بالاصبع إلى آليّة بعينها، فيقول كما سمكة تُسأل عن سبب قدرتها على العيش تحت الماء: “هذا أنا، هكذا أنا…” أمّا وسط هاتين الحالتين، فالأمور أوضح بكثير، كالنشأة مثلاً في كيبوتس يهودي أرثوذوكسيّ في إسرائيل، وعن ذلك، يقول إيتان، وهو أحد الضباط السابقين في الجيش الإسرائيليّ:

“لقد ولدت في كيبوتس أرثوذوكسي، وكبرت هناك حتى فترة خدمتي العسكريّة. كوّنت كثير من العلاقات مع الجنود الذين كانوا يتدرّبون في الجوار. لطالما استضاف الكيبوتس جنودًا يوم السبت، رأيناهم في الحمّامات، كانوا يعبرون من حقولنا في مشيهم الطويل… لهذا، كبرت أنا مع هذه المشاهد من تدريبات الجنود، مجيئهم، مغادرتهم، ولذلك، كنت مستعدًّا لخدمتي العسكريّة. أخبرني أصدقائي الجنود الكثير عن تجاربهم، وهكذا فعل إخوتي، ولم تكن اللياقة البدنيّة عائقاً بالنسبة لي. كانت لديّ خططي الخاصّة، كنت أريد أن أخدم في وحدة مكافحة الدبّابات عند المظليّين، تسمى “tau”. هناك كان أخي من قبلي، وهي وحدة راقية جدًّا يتمّ تدريب أفرادها على التعامل مع صواريخ مضادة للدبابات. مهام الوحدة ممتعة جدًّا، وأفرادها مستواهم عالٍ جدًّا. أن تخدم في فريق صغير جداً مع جنود طيّبين، وتبقون معا طوال الوقت، هذا ما شدّني فعلاً في الحياة العسكريّة. عرفت آنذاك أني سأصبح ضابطًا وسأخدم لأربع سنين وليس فقط مدّة الخدمة الإجبارية. كان هذا عُرفاً في العائلة.”[1]

يمكن جديّاً فهم هذا الجانب بمفهوم الهابيتوس عند عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وما هو إلّا تاريخ حياة كلٌّ منّا الثقافيّ كما البيولوجيّ المسجّل في جسده.

دور الجيش هنا يتمثّل في القدرة على ملاحظة هذه المزايا واستغلالها بما يرضي الطرفين، وهنا تبدأ رحلة انصهار الفرد في مجموعته.

ثانياً: أثر المجموعة، الإلتزام والثقة بالاخرين:

الانصهار في المجموع وانصهار المجموع في الفرد، هو أقوى ما يشير إلى الحياة العسكرية، وهو ما تعتمد عليه عمليّة بناء الجنود أكثر من أيّ عاملٍ آخر. في الجيش، لا يبقى الجنديّ بمفرده لحظة واحدة، فهو في اندماج عالي المستوى ومستمرّ بالمجموعة: الخلود إلى النوم، النهوض من النوم، تمارين الصباح، وجبة الصباح، تمارين ما بعد الفطور، راحة ما بعد التمارين، حصص ما بعد الراحة، راحة ما بعد الحصص، الخروج في مناورة، الخروج في مشي المسافات البعيدة، الذهاب إلى المعركة، إلخ. كل هذا يحدث في جماعة.

وهذا باعتقادنا هو ما دفع يورام، أحد خبراء تفكيك القنابل في الجيش الإسرائيليّ للقول:

“في الجيش، تنهار كافّة حواجز الاتّصال الفيزيائيّ بالآخرين، هناك تلامس دائم، تمشي، تستحمّ، تلمس، تعيش مع الآخرين، كل شيء نقوم به سويًّا. أعتقد بأن أكثر مكان يلمس فيه الأفراد بعضهم البعض هو الجيش. ولا أستطيع حقًّا تفسير ذلك، ربّما لأن الحياة قاسية في الجيش، لدرجة أنه باستطاعتك أن تصفع رفيقّا لك كي تساعده، وهذا يعطي كليكما شعورًا بالراحة.”[2]

انتبهت روز هاير وزميلتها ليلي بانهولزر إلى دور هذا الإنصهار في المجموعة في خلق الإلتزام عند الجنود، في “خلق محاربين ملتزمين”، وهي الدراسة الميدانيّة الي قامتا بها عن مجموعات عسكريّة من جمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة ونشرت عام 2014. حاولت الباحثتان الدفع بهذه الفكرة بين حقيقتين في المجال العسكريّ، من جهة، إنّ أيّ خلل وظيفيّ لمجموعة ما في الجيش لا يؤدّي فقط إلى تمرّد أو عصيان في هذه المجموعة، وإنّما بإمكانه أن يقود أيضًا إلى تفتّت قويّ جدًا، أو إلى انفجار في المجموعة إن صحّ التعبير، وبالتالي سيؤدّي هذا الخلل إلى القضاء على المجموعة بالكامل. من جهة أخرى، هناك أمثلة استطاعت أن تُرينا هذا الأثر بطريقة معاكسة، دورا كوستا وماثيو خان فحصا، على سبيل المثال، لماذا استمرّ جنود الحرب الأهليّة الأمريكيّة بالقتال بالرغم من العديد من القيود: عائد مادي ضعيف جداً، وخطر الفرار من الخدمة، علماً بأنّ الجندي الذي يهتمّ بمصلحته الشخصية لن يفكّر مرتين بقرار الفرار من الجيش، إلّا أنّنا وجدنا، يقول الباحثان، أن 90% من جنود جيش الاتّحاد استمرّوا في الخدمة رغم كلّ شيء، ونصف هذا العدد أعاد تجديد عقده للبقاء في الجيش.[3]

فسّرت هاير وزميلتها بانهولزر هذه الظاهرة الآنثروبولوجيّة بالقول بأنّ الرابط بين الأوامر المعطاة وتنفيذها بوفاء ليس دائماً وثيقًا كما نتخيّله، بل في الحقيقة، يعتمد تنفيذ الأوامر بشكل كبير على مستوى الالتزام (committment) لدى الجنديّ تجاه مجموعته، وأضافتا، الجنود الملتزمين أظهروا في دراستنا تماسكًا أكبر، مما أدى إلى أداء أفضل في القتال.

إذًا، الوجود والبقاء في مجموعة له آثاره على نفس الجنديّ وجسده، وبإمكاننا هنا أن نتخيّل الجنديّ عجلة مسنّنة صغيرة في ماكينة كبيرة، تدور الماكينة كلّها بدورانها فيها وتدور بدوران الماكينة كلّها فيها.

لكن، علينا ألّا نقع في فخّ الطوباوية في نظرتنا للمجتمع العسكريّ فنقفز عن استثناءات خطيرة جداً مثل إمكانيّة إعادة إنتاج البناء الطبقيّ الاجتماعيّ داخل الجيش، خصوصًا في مجتمع كالمجتمع الإسرائيليّ الذي تعتبر المؤسّسة العسكريّة فيه أداة رئيسيّة في هذه العمليّة، وذلك بحكم العلاقة القوية بين مفهوميّ المواطنة والطبقة في إسرائيل من جهة أولى، وهشاشة المساحة بين ما هو مدنيّ وما هو عسكريّ فيها من جهة ثانية؛ أو فشل المؤسّسة العسكريّة الإسرائيليّة في تحديد عناصر تعريف الجنديّ وتطبيقه بشكل عادل، أي فشلها في أن تكون مؤسّسة شاملة بالرجوع إلى تعريف إيرفنج جوفمان لها.[4]

ثالثاً: التدريبات العسكريّة وبرمجة الجنود (Drill):

لو وجّه إليك السؤال: كيف أصنع جيشاً؟ قل بلا تردّد: جماعةٌ ودوران. وانظر بعدها إلى النجوم والكواكب وتأمّل ضالّتك.

“الدريل” عبارة عن أسلوب قديم-جديد لتعليم الجنود الحركات الواجب تعلّمها، ويقوم على مبدأ إعادة الحركة حتى العطش والارتواء، أي حتّى تنفذ كلّ طاقتك في تعلّم الحركة المطلوبة وإتقانها. لكنّ التحدّي أمام الجيش هو في أن تتحوّل الحركة المطلوب إتقانها إلى حركة تلقائيّة واعية لا إلى ردّة فعل طبيعيّة غير واعية، وهذه عمليّة صعبة، بل شرحها أصعب كما رأينا مع جنود المشاة، إلا أنّك في لحظة ما، تدرك أن هناك فرق فعلاً بين أن ترتمي أرضاً وتأخذ وضعيّة هجوم بمجرّد أن وصلتك إشارة ما، وبين أن ترتمي أرضاً بدون أخذ وضعيّة صحيحة مرتبطة بنفس الإشارة السابقة.

وهو تحدٍّ فعلاً له قوّته في برمجة الجنود. أحد الأمثلة الرائعة على نجاح هذا الأسلوب في تطوير تلقائيّة تكيّفيّة، يقول الكولونيل دييف جرسمان، يمكن أن نجدها في كتاب الضابط البريطاني جون ماسترز “الطريق من ماندالاي” (The Road Past Mandalay) الذي سرد لنا فيه قصة عنصرين من فريق أسلحة رشّاشة كانا في ساحة من ساحات القتال أثناء الحرب العالميّة الثانية:

“العنصر رقم (1) كان ابن السبعة عشر عاماً، عرفته جيداً. مساعده العنصر رقم (2) كان مستلقياً على الجانب الأيسر من زميله، ورأسه جهة العدوّ أمامًا. تناول مخزن الرصاص بيده والحديث عن العنصر المساعد، أي رقم (2)، واستعدّ منتظرًا إشارة رقم (1) بالقول: “غيّر”. بدأ رقم (1) بإطلاق النار، ردّ عليهم عنصر ياباني بإطلاق النار وكانت المسافة قريبة جدًا. تلقّى رقم (1) رصاصة في وجهه وأخرى في عنقه قتلتاه، إلا أنه لم يمت في المكان الذي كان مستلقيًا فيه، أي خلف المدفع الرشّاش. لقد تدحرج إلى اليمين بعيداً عن سلاحه، ويده اليسرى “معلّـقة” تعطي إشارة إلى مساعده العنصر رقم (2): تولَّ الأمر (take over)، كأنّه مات ويده لم تمت! لم يكن العنصر رقم (2) بحاجة لأن يدفع بالجثّة جانباً ليتولّى أمر السلاح، لقد كان قد أفسح المجال ذاته بذاته.

كانت الإشارة مبرمجة (drilled) في جسد وعقل الجنديّ الميّت من أجل ضمان أنّ سلاحه لن يسكت أبدًا.”[5]

أمّا عن علاقة هذا الأسلوب بعسكرة الخوف لدى الجنود، فقد قلنا بأنّ الغاية الأسمى التي يتطلّع إليها الجيش هي أن يتمّ الحفاظ، في حالة الخوف عند الجنود، على الدارة العصبيّة الأولى من المهاد إلى القشرة الدماغيّة الجديدة إلى الأميجدالا، لكن بسرعة الدارة العصبيّة الثانية من المهاد إلى الأميجدالا مباشرة، والدريل كما يقول جروسمان يتكفّل بهذه المهمة. وفي وصفه له يقول:

“نحن نقوم بذلك، ببساطة، لأنه يعمل عندما يكون الأفراد خائفين. لا نقول للأطفال في المدارس ماذا يجب عليهم أن يفعلوا عند نشوب حريق في المدرسة، أي على طريقة أ، ب، ت… وإنّما نحضّرهم لتلك اللحظة، فإذا أتت فعلاً، يقومون بالفعل الصحيح تلقائيًّا.”[6]

بقي علينا أن نفرّق بين الدريل وبين مفهومين مشابهين، ولا يجب الخلط بين الأوّل وأيّ الآخرَين. الأول وهو الروتين، القيام بنفس التمارين والحركات يوميًّا في المعسكر ليس ضربًا من الروتين. في الحقيقة، واجهنا صعوبة في بداية هذا البحث في التفريق بين الأمرين، إلا أنّ اللقاءات الميدانية مع الجنود أوضحت لنا أن الروتين في الحقيقة هو أكبر عدوّ يجب أن يخشاه الجنديّ، وكانت الإحالة دائمًا إلى أنّ الروتين (حسب الفهم العسكريّ له) هو أن لا تقوم بشيء عمليًّا، أو أن تكون وحيدًا، في حين أن الحياة العسكرية هي حركة ودوران جماعيّ مستمرّ منذ اللحظة الأولى التي يدخل بها الفرد الجيش إلى آخر لحظة في حياته كلّها (حركة ذات مغزى). ولعلّ جزءًا من هذا يفسّر لماذا أجاب 75% من الجنود الفرنسيّين العائدين من القتال في اقليميّ كابيسا وسوروبي في أفغانستان بـ “نعم” عندما طُرح عليهم هذا السؤال عام 2010: لو امتلتكم القرار، هل ستعودون إلى القتال هناك؟[7]

المفهوم الثاني الذي لا يجب الخلط بينه وبين الدريل هو المحاكاة، وهذا الأخير هو أسلوب ثالث للجيش في بناء الجنود، هندسة المشاعر، عقلنة الخوف… وهو ما سنتطرّق إليه مباشرة.

رابعاً: المحاكاة (bivouac)

أشرنا سابقًا، وإن بطريقة عابرة، إلى أنّ أحد مصادر الخوف عند الجنود هو الفجوة بين المتخيّل والحقيقيّ، والمتخيّل بطبيعة الحال من الخيال، الناعم والمريح؛ أما الحقيقيّ فهو من الواقع والحقيقة العنيفة مهما كانت بساطتها.

في هذه الأداة الرابعة يخرج جنود المشاة إلى الميدان، غالباً ما تكون غابة قريبة، ويتمّ التخييم هناك لمدّة أسبوع على أقلّ تقدير، وذلك من أجل القيام بمحاكاة قتاليّة للاقتراب أكثر ما يمكن من القتال الحقيقيّ، وهذه أمثلة بسيطة: النوم في العراء، تعلم الأكل من عُلَب الجنود في المعركة، التدرّب على المشي التكتيكي، التدرّب على حماية المعسكر، التدرّب على الهجوم على المعسكر، التدرّب على اطلاق النار (رصاص أبيض)، تعلّم كيف تشكّل مجموعة، إلخ.

الهدف إذًا، استدخال المعارف والقيم العسكريّة في الجنود، وتقليص ما أمكن من المساحة بين الهُـنا وأرض القتال الحقيقيّ، أو ما يسمّى بضباب الحرب.

خامساً: التعميد بالنار (Jus in Bello)

في حقيقة الأمر، يبقى كلّ ما ذكرناه في آليّات صناعة الجنود وهندسة المشاعر كلاماً لا قيمة له ما لم يتمّ تعميد الجنود عمليًّا بالقتال. إنّ أوّل معركة يخوضها الجنديّ هي أشبه ما تكون بيوم الحساب الذي يُكرَم فيه الجنديّ أو يُهان. فالحرب كما يقول آلان بيترسون تزوّدنا بفرصة تغذية قدرتنا على تحمّل الألم وحتى التشوّه والتحكّم في المشاعر، لأن أيّ علامة ضعف أو حساسيّة تصدر منّا يمكن أن تفسَّر كإشارة على مثليّة الجنس، أي رجولة فاشلة[8]، أو إشارة على ما تطلق عليه أورنا ساسون ليفي “الجسد الخاطئ”، وهو الجسد الذي يفشل في أن يصبح محاربًا، يقابله “الجسد المختار” أو الجسد المحارب” الذي يثبت رجولته من خلال ضبطه لمشاعره، أي أنّه يتغلّب على التوتّر، الخوف، الفوضى، الارتباك، وكل ما يميّز ساحة المعركة[9].

أمّا حالات الصدمة يقول الكولونيل ميشيل غويا تأتي بغالبيّتها من المفاجأة، من الضغط الذي تولّده الفجوة بين ما تمّ تعلّمه والتدرّب عليه وبين ما نحن فيه الآن، ولذلك، فإن المعارك الأولى التي يخوضها الجنود هي بهذا المعنى “صادمة”، لأن أغلب من يخوضها مبتدئين[10].

أثناء الحرب العالميّة الأولى، قام الطبيب بيير مينارد بقياس ضغط العديد من الجنود المرابطين في الصفوف الأماميّة على مسافة 100 متر تقريبًا من العدوّ، ورأى بأنّ جميع هؤلاء الجنود قد أصابهم الخوف دون استثناء، عنيفًا أحيانًا واحيانًا أخفّ حدّةً، لكن عند الجميع دون استثناء[11].

إنّ الصدمة أو الخوف بهذا المعنى أمر لا يمكن تجنبّه بأي حال من الأحوال، وبذلك، يكون التعميد بالنار هو الآخر أمر لا بدّ منه للعبور إلى عالم العسكر والقتال الحقيقيّ.

في النهاية، نؤكّد مرّة أخرى على أنّ هذه الآليات في عسكرة الخوف لا تهدف عمليًا إلى القضاء تمامًا على وجوده. على الخوف أن يبقى، ولهذا يمكن لمفهوم “عسكرة” أن يوازي بمعناه مفهوم “عقلنة”، حيث على الجندي أن يخاف وألاّ يخاف في نفس الوقت، ولهذا قلنا بأنّه إن كان لا بدّ من معجزة أرضيّة ما أن تحصل هنا، وما هي بيولوجيًا إلا أن يتمّ كيّ دارة الأميجدالا الكبيرة لتصبح بسرعة الدارة القصيرة، وهذا ما تتكفل به الآليات الثلاثة بعد الأولى بصورة أوليّة تحضيريّة، والآليّة الأخيرة بصورة فعليّة حقيقيّة.

ولا يقتصر الحديث هنا على الخوف، أو على المشاعر السوداء فقط، حتى وإن كان تركيزنا عليها. في الحقيقة، إنّ عسكرة المشاعر كمعنى ضمني لصناعة الجنود تعني ضبط النفس والوعي بذلك، أو ما يشير إليه المصطلح العبري كور رواح-Kor ruach (קור רוח)، وهو كما يعرّفه بن آري القدرة على التصرّف بثقة، وإتّزان ورباطة جأش تحت ظروف قاسية، وهي أعلى قيمة في عالم العسكر الصهيوني[12]، وكما يتمّ قمع وإعادة تأهيل بعض المشاعر من أجل الوصول إلى هذه الحالة النفسيّة المثاليّة لدى الجنود، يتمّ تعزيز مشاعر أخرى كالفخر والسعادة، الحنين والشهوة إلى حدّ ما؛ ويبدو أنّ الأمور تذهب بهذا الإتّجاه المرن أكثر فأكثر، وبالرغم من الانتقادات الكبيرة، تقول ساسون ليفي، فإنّه يسمح للجنود الصهاينة اليوم بإظهار حدّ معيّن من الحزن والألم، وحتّى البكاء في جنازات الرفاق[13].

إذاً، “يمكنك البكاء، لكن دون أن تشهق.” بهذه العبارة التي قالها أحد جنرالات الجيش الصهيوني لجنوده يمكن اختصار جوهر عسكرة المشاعر وبها نختم هذا الفصل.

خاتمة: “جنود ما-بعد-الانسان في حروب ما-بعد-الحداثة”

“وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر: أصبح الجنديّ شيئًا ما يُصنع، فمن عجينة ذات غير شكل، ومن جسم غير مهيّأ، تمّ صنع الآلة التي دعت الحاجة إليها، فتمّ نصب وتقويم الأوضاع تدريجيًّا، وببطء تمّ الضغط المحسوب على كلّ جزء من أجزاء الجسم للتحكّم به، ولتطويع المجمل، ولجعله بصورة مستمرة جاهزًا، واستمرّ هذا الضغط، بصمت، في تكريس آلية العادات، وباختصار، لقد تمّ طرد الفلاح وأعطي له مظهر الجنديّ. وتمّ تعويد المجنّدين الجدد على رفع الرأس عالياً ومستقيماً، وعلى الوقوف بانتصاب دون إحناء الظهر، وعلى ابتلاع المعدة ونفخ الصدور، وعلى تقويم الظهر. ومن أجل تعويدهم على هذا، واكتساب هذه الوضعية أوقفوا إلى الجدار بحيث تلامسه أعقاب القدمين، وعضلة الساق والكتفان والقامة وكذلك ظهر اليدين، بعد فتل الذراعين إلى الخارج، دون ابعادهما عن الجسد. ويدرَّبون كذلك على عدم تثبيت نظراتهم بالأرض، بل التطلّع بشجاعة إلى من يمرّون أمامه، وعلى البقاء جامدين بانتظار الأوامر، دون تحريك الرأس ولا اليدين ولا الرجلين. وأخيراً يدرَّبون على السير بخطوات ثابتة، الركبة وباطنها مشدودان، ورأس القدم منخفض وإلى الخارج.”[14]

هذا بالضبط ما يقوله ميشيل فوكو عن بدايات فكرة صناعة الجنود، إلا أنه لم يكن أوّل ولا أدقّ ما لوحظ عن هذه العمليّة، وعلى أيّة حال، ما يتّفق عليه فوكو ومجموعة ممّن أرّخ هذه الفكرة هو أنها نشأت انطلاقاً من القرن السابع عشر، وتبلورت أوّل صيغة ثابتة لها (كما وصف فوكو) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

(De Briquet 1761, Borhan 1789, Tilly 1990, Kümmel 2006, Caforio 2006, Foucault 1975, Vigarello 2001).

عملياً، دون الحاجة إلى النظر في هذه الأدبيّات المتخصّصة (تأريخيّاً) بنشوء عمليّة صناعة الجندي في القرن السابع والثامن عشر، نستطيع التنبّؤ بذلك بطرق أخرى غير مباشرة، وأعتقد أن هذه الطريقة في البحث أفضل من أجل فهم أوسع لما نبحث فيه ولما آلت إليه الأمور الآن. ولكي نفهم بدايةً ما الذي نبحث عنه بالضبط، المقصود بصناعة الجنديّ هو أن يوجد موديل (مجموعة معايير) محدّد تم اعتماده في لحظة تاريخية ما أو بالتدريج من أجل أن يصبحه كافّة الجنود؛ وينطبق هذا أيضاً على مراكز اجتماعيّة أخرى، وينطبق أيضاً على المؤسّسات، كالدولة، أي الدولة الحديثة أو ما يعرف بدولة ويستفاليا، وكالجيش أيضاً، أو ما يعرف الآن بالجيوش الحديثة (mass armies) التي اعتمدت بشكل أساسي في وجودها على الخدمة العسكريّة الإجباريّة وكانت بذلك للدولة كـ”أداة لاحتكار العنف الشرعيّ على بقعة جغرافيّة محددة”[15] كما يعرّفها ماكس فيبر، لأن الخدمة العسكريّة الإجبارية كما يتفق أغلب الدارسين لها[16] هي بمثابة طقوس عبور الأفراد من عالم اللامواطنة إلى عالم المواطنة، أو يمكن القول، هي أداة الدولة لإدخال الأفراد في الطابع الوطني العام. الفكرة الجوهريّة هنا، هي أنّ نشوء صناعة الجنديّ مرتبطة بنشوء الدولة الحديثة، وبالتحديد، نشوء الجيوش الحديثة، ونشوء كل ما ذكر هو عمليًّا نشوء المعيار كمفهوم.

وبتقريب عدسة فيبر أكثر على موضوع حديثنا، فالضابط كما يقول لا يختلف عن أي موظّف آخر إلا في كونه صاحب مسمّى (خانة) وظيفي مختلف في دولة أبرز ما يميزها هو كونها منظمّة بيروقراطيّة لا يُتبَع فيها الفرد الشخوص وإنما القواعد، فالضابط إذًا ينغبي عليه أن يحترم القاعدة الموضوعة رسميًّا، ومن هنا يكتسب شرعيّة سلطته[17]. لم يعد الوفاء بعد الآن لمصالح متفرّقة تنتج إمّا مرتزقة أو جنود لا شكل لهم، وإنّما الوفاء لمؤسّسة تعرف بالضبط كيف تريد مواطنيها وجنودها[18]، وهنا ينتهي فيبر بالقول بأنّ هذا هو ما أعطى ولادة لما أصبح يسمّى آنذاك بإعادة ضبط الجنود[19].

أفضل من تتبّع نشوء وتطوّر صناعة الجنديّ هو المؤرّخ الفرنسيّ جورج فيغاريلو في كتابه “الجسد مصنوعًا”. وفيما يتعلّق بنشوء هذه النظرة الجديدة للجسد، يرجع فيغاريلو إلى دروس في أدب المظهر والحديث كانت تحتكرها الطبقة الأرستقراطيّة في فرنسا لتعليم أولادها، كأصول لعمليّة صناعة الجنود[20]، وللوهلة الأولى، تُوقعنا هذه العودة إلى الأصول في تناقض، إذ كيف تعتمد الجيوش الحديثة التي نشأت أساساً كتحدٍّ للجيوش الأرستقراطية ومنظومة سلطتها نفس النموذج الأرستقراطي؟!

أقول مثلاً في نصّ الأطروحة الذي لم ينشر بعد: “قد يكون هذا الكلام عن نشوء صناعة الجسد (redressement du corps) في محيط طبقات اجتماعيّة متميّزة (société distiguée) ولغايات ارستقراطيّة متعارضًا مع ما توصّلنا إليه فيما سبق، وهو أنّ نظام الجيش الحديث (l’armée de masse) قام بالأساس متحدّيًا نظام الجيش الأرستقراطي، فكيف يتحدّى نظام نظامًا آخر ومن ثمّ يتبنّى نفس أدواته؟ هل كان هناك فعلا تواصل بين النظامين؟ وهل الجيوش الحديثة امتداد للجيوش الأرستقراطية الكلاسيكية… ويمكن أن نطرح هنا ألف سؤال، إلّا أنّ أيًّا من هذه الأسئلة سيعبّر بشكل دقيق عن حقيقة الأمر. علينا إذًا أن نغيّر من طريقة نظرتنا لتطوّر الأمور، ونتذكّر بأنّ الحديث هنا عن موديل، بمعنى، علينا أن نتذكّر كما يقول فيغاريلو بأنّ عمليّة صناعة الجسد لا تقوم بدون نماذج (modèles) وأنّه بمجرّد اعتماد نموذج ما فهو يخلق جذوره ذاتيًّا [21]. يصبح السؤال إذًا، أيّ موديل اعتمدته الجيوش الحديثة آنذاك؟ هل هو نفس الموديل الأرستقراطيّ الذي ثارت ضدّه أم موديلها الخاصّ الجديد؟ ويبدو أنّ الإجابة محسومة مسبقاً بالقطيعة مع النظام القديم. يبقى إذًا أن نتعرّف على ملامح هذا الموديل الجديد وعلى دلائله الآنثروبولوجيّة، والأهم أيضا، إذا ما زال معتمَدًا حتّى يومنا هذا في صناعة الجنود أم لا”.

هذا هو السؤال المهمّ فعلاً، وهو سؤالنا لهذه الخاتمة، هل تعتمد المؤسّسة العسكريّة اليوم (الغربيّة بالدرجة الأولى) نفس نموذج وأدوات صناعة الجنود التي استحدثتها انطلاقًا من القرن السابع عشر؟ وإلى أين تتّجه الأمور؟ علماً بأن هذه المؤسسة واجهت انطلاقًا من القرن الماضي ثورة في الشؤون العسكريّة أدّت إلى ما أطلقنا عليه في نصّ سابق “حرفنة الجيوش”، وهي كما قلنا عمليّة استجابة لتغيّرات عديدة أبرزها فشل المدرسة العسكريّة الكلاسيكيّة في حروب من نوع جديد كحروب الأنصار، مكافحة التمرّد، وغيرها من المسمّيات.

وهي أيضاً، الحاجة إلى جيش عملياتيّ، أكثر أتمتةً وأقل اعتماداً على الإنسان، جيش مرن وخفيف، سريع وأكثر سهولة في انتشاره أو اشتباكه في أكثر من موقع وفي كلّ موقع بأكثر من قوّة، وهذا من خلال التكنولوجيّات العالية، ووحداته وجنوده الأكثر تأهيلاً جسدًا ونفْسًا لهذا الشكل الجديد من الحروب. المعلومة والسرعة هما أسلحته الأولى قبل الحديد والنار.

وهو جيش في عمليّة تبلور مستمرّة، بحيث محطّته النهائيّة المتوقّعة هي الأتمتة الكاملة، أي الحصول والتصرّف في الوقت الحقيقي وبعيدًا ما أمكن عن الانسان[22]. وعلمًا بأنّ الخدمة العسكريّة الإجبارية تم استبعادها في سبيل “استراتيجيّة دفاعية أكثر حداثة وفعاليّة، وأقل تكلفة” كما قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك في خطاب إعلان تعليق سياسة الخدمة العسكريّة في فرنسا[23]، والخدمة العسكريّة كما قلنا هي بداية أداة الدولة الفرنسيّة الحديثة الأولى احتكارها للعنف الشرعيّ، أي في صناعة المواطنين الجنود، وانتهاؤها يعدّ مؤشراً على دخول الدولة الفرنسيّة وجيشها طور عمليّة الحرفنة.

وبالرجوع إلى كتابات زيجمونت باومان في الحداثة والحداثة السائلة، نجد أنّ ما يعنيه بالحروب الجديدة هو الانتقال من الثابت، الصلب، والمنتظم وهي الأهمّ، إلى الغير منتظم والقائم من حيث المبدأ على فوضى وعشوائية الحداثة السائلة. فالحداثة من وجهة نظره بنيت على أفكار تنويريّة لشموليّة منتظمة تفضّل من تلقاء نفسها إزاحة العشوائيّ والمزدوج جانبًا في سبيل ترسيخ شيئيّة العالم؛ أمّا الحداثة السائلة فهي عابرة للإدارة الوطنيّة بالمعنيين النظري والجغرافي، وفي هذا المجال الجديد، يعمل الانسان كمستهلك فرداني أكثر منه كمواطن عضو في جماعة معيّنة.

هذه الظروف الجديدة ولّدت، كما يقول، نوعين من الحروب الجديدة: حروب معولمة تخاض باستخدام أنظمة عسكريّة متقدمة، وحروب تولّدها العولمة وتخاض في الفراغ الذي خلّفه انهيار قواعد الدولة القديمة (الحديثة). وفي هذا المجال الجديد أيضاً، أكثر أشكال القتال شيوعًا هي “المعارك الاستخباراتيّة” التي لا يطلب من الجنود فيها احتلال أرض الخصم والسيطرة عليها، وإنّما، استكشاف عزيمة الخصم ومدى قدرته على الصمود، ومعرفة أمهات قرارات الخصم وسرعته في تنفيذها، ولذلك، فإن أدقّ تسمية يمكن أن نطلقها على جنود هذه الحروب الجديدة هي أنّهم خبراء ومتخصّصين[24].

كريس غراي، المتخصّص في حروب ما بعد الحداثة وصاحب مقال تحمل هذه الخاتمة عنوانه يعتقد فيه بأنّ هذه الحروب الحديثة حملت في طيّاتها تناقضًا كبيرًا. من جهة، قامت هذه الحروب على تصاعد الاعتماد على التكنولوجيات المتطوّرة في خوضها، ومن جهة أخرى، حقيقة أنّ العديد من هذه التكنولوجيات بل أكثرها فعاليّة (بالمعنى الفيزيائي) لا يمكن استخدامها، كأسلحة الدمار الشامل؛ وقد تضاعف هذا التناقض في حروب ما بعد الحداثة كثيرًا، فمثلًا، مشاريع الـ ” Cyborg soldie”[25] زادت من من وزن المقاتل بدل أن تجعل منه أكثر خفّة ورشاقة بما يتواءم وطبيعة الحروب الجديدة. فالتكنولوجيا كما يقول غراي جعلت وتجعل من الجسد “عاريًا أمام العاصفة” (vulnerable) أكثر من أيّ وقت مضى[26].

لكن، ما الذي يعنيه كلّ هذا، هل تختفي المشاعر إذًا من حياة البشر وحياة الجنود كما في فيلم Equilibrium لكورت ويمر؟ وهل تختفي صناعة الجنود كما اختفت الجيوش الأرستقراطيّة؟ دعونا نذكر مرّة أخرى بأن الحديث دائما وأبداً في عمليّة صناعة الجنود هو حديث عن موديل-نموذج ما يتمّ اعتماده، وبذلك، يتحوّل سؤالنا عن النموذج الذي اعتمدته الجيوش الحديثة في صناعة جنودها إلى سؤال عن النموذج الجديد الذي تعتمده الجيوش المحترفة – جيوش ما بعد الحداثة – في صناعة جنودها. كما ويجدر بنا التذكير بأن الحديث هنا وفي أطروحة الماجستير مع وعن جنود المشاة، ثم أنّ عمليّة حرفنة أو أتمتة الجيوش أو الثورة في الشؤون العسكريّة عمليّة تحدث الآن، وأنّه حتى لو وصلت هذه العمليّة ذروتها وهي كما قلنا “أتمتة كاملة للمعركة”، نفترض أنّ هذا لا يعني بالضرورة إلغاء وجود الجنود، وبالتالي إلغاء فكرة صناعة الجنود.

على أيّة حال، هناك سؤال آخر وأخير لهذه الخاتمة، عوضاً عن هذه الكتابات الأكاديميّة عن عصر وحروب ما بعد الحداثة (وهي أكثر من أن تحصى) وهو هل هناك مشاريع رسميّة أو على الأقلّ مصادر أوليّة لعمليّة صناعة جنود اليوم وغداً ودور المشاعر في ذلك؟

للإجابة على هذا السؤال، وجب علينا البحث في أرشيف “مركز منظومات جندي الجيش الأمريكيّ” أو ما يعرف بـU.S. Army Natick Soldier Systems Center (NSSC). عقد هذا المركز في الفترة الواقعة بين كانون أوّل 1989 وتشرين أوّل 1990 خمس جلسات عصف ذهني ضمّت خبراء من مركز ناتك نفسه وجنود وضبّاط فاعلين في الجيش الأمريكيّ ركّزوا فيها على تعريف وصقل مفهوم منظومة الجنديّ (Soldier System)، وقد دعت الحاجة لذلك عدّة أسباب بحسب الورقة النهائيّة التي خرج فيها المركز من هذه الجلسات:

أوّلاً، الحاجة المستمرّة لتحسين كل ما يخصّ الجنديّ لتحسين أدائه في المعركة وبالتالي كسب الحرب، وبالتأكيد تقول الورقة، فإنّ “إعتبار الجنديّ كـ single well-organized system تقدّم بشكل فعّال على اعتباره collection of individual items.

ثانيًا، لفت انتباه المراكز العليا في الجيش لاستغلال تأثيرهم على مصادر التمويل والبرمجة، لأنّ المساواة بين أيّ منظومة رئيسيّة في الجيش كمنظومة الدبّابات ومنظومة الجنديّ كأحد العناصر الحاسمة في تقدّم الجيوش يولّد اهتماماً متجدّداً بها (بالتالي ضمان بقاء الجنود). ثالثًا، تعزيز قدرة الجندي على القتال والبقاء ضمن حدّ تكنولوجي معيّن، لأن ما تمّت ملاحظته من خلال التجهيز التقنيّ الكامل للجنديّ هو عملياً أخذْ مساحة كبيرة من عبء مهنة الجندي الجسدي والقاؤها على الجانب النفسيّ، الهدف إذًا من منظومة الجندي هو ضمان أن يعمل الجندي بكامل إمكاناته واحتمالاته. وانطلاقًا من ذلك، تمّ تعريف منظومة الجندي كالآتي: “نظام عمليّاتي يدفع بالقدرات القتالية كالقتال، الأمر والسطيرة، الحماية، الاكتفاء والحركة إلى أقصاها، وذلك من خلال تحقيق التكامل الكامل بين الجندي الفرد مع العقيدة العسكرية، التدريب، القيادة، التنظيم، والعتاد لمواجهة التهديد/البيئة. ويتمّ قياس الفعّاليّة من خلال أداء الفرد بشكل عامّ ضمن تخصّصه كجندي ومن خلال الأداء العمليّاتي للوحدة ككل.”[27]

هو ذا إذًا، منظومة الجندي هي عمليًّا وضع للانسان في مركز شبكة من العلاقات المعقّدة بين منظومات مختلفة تساهم جميعها في صنعه، ويفترض بهذا تحسين كفاءته في القتال. بصيغة أخرى، تمّ توسيع نموذج صناعة الجنديّ التقليديّ أو دفعه إلى أقصاه ليشمل ليس فقط التدريبات العسكريّة، وإنّما أيضًا، كما كان منهجنا في هذه الدراسة، المسار البيوغرافيّ للجنديّ، وأثر المجموعة والمعركة وغيرها. وبهذا، نخلص إلى إنّ الجسد كان وما زال وسيبقى الميدان الرئيسيّ في صناعة الجنود، أمّا دوره ومكانته العمليّة، أي في الحرب، فيتمّ تحديد ما إذا كانت أساسيّة أو ثانويّة فقط من خلال شبكة العلاقات هذه كما يوضّح الشكل الخامس والأخير في هذه الدراسة.

شكل رقم (5): صناعة الجندي اليوم

%d8%b9%d8%b3%d9%83%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b4%d8%a7%d8%b9%d8%b1-5

*****

الهوامش:

[1] Lieblich, Amia, Transition to Adulthood during Military Service : The Israeli Case, State University of New York Press, Albany, 1989, p. 55. 
[2] Sasson-Levy, Orna, Individual Bodies, Collective State Interests : The Case of Israeli Combat Soldiers, Men and Masculinities, Vol 10, Number 3, April 2008, p. 313.
[3] Costa, Dora L. and Matthew E. Kahn. Cowards and Heroes: Group Loyalty in the American Civil War, Quarterly Journal of Economics 118, 2003, pp : 519–48. Cited in : Haer, Roos ; Banholzer, Lilli, The creation of committed combatants, Small Wars & Insurgencies, 2014, pp. 25-26
[4]  للإستزادة حول موضوع إعادة انتاج النظام الطبقي في إسرائيل ودور الجيش في ذلك، أنظر أيضاً: Orna Sasson-Levy, « Military, Masculinity, and Citizenship: Tensions and Contradictions in the Experience of Blue-Collar Soldiers », Identities : Global Studies in Culture and Power, 10, 2003, pp. 319- 345.
[5] Masters, John, The Road Past Mandalay, Cassell Military Paperbacks, 2002. Cited in : ibid., On killing : The psychological Cost of Learning to Kill in War and Society, 1995, 1996, p : 18. 
[6] Id., p : xviii.
[7] Ibid., Sous le Feu, 2014, p : 54.
[8] Petersen 1998, 53. Cited in : Ibid., Individual Bodies, Collective State Interests : The Case of Israeli Combat Soldiers, Men and Masculinities, Vol 10, Number 3, April 2008, p. 302.
[9] Ben Ari, Eyal, 1998, pp. 42-46. Cited in : id., pp. 302-306.
[10] Ibid., Sous le Feu, 2014, p : 45.
[11] Id., p : 46.
[12] Ben-Ari, 1998, p. 45. Cited in : Ibid., Individual Bodies, Collective State Interests : The Case of Israeli Combat Soldiers, Men and Masculinities, Vol 10, Number 3, April 2008, p. 308.
[13] Id., p. 308. [13] Ben Ari, Eyal, 1998, pp. 42-46. Cited in : id., pp. 302-306.
[14]  فوكو، ميشيل، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990، ص: 157-158.
[15]Weber, Max, Economie et Société, Tom 1 : Les Catégories de la Sociologie, Plon, 1971, pp : 96-97.
[16]  أنظر: Burk 1995, Janowitz 1994,  Pateman 1989, Tilly 1996, Turner 200I.
[17]Id., pp : 96-97.
[18] Voir par exemple : Code militaire ou Compilation des Ordonnances des Rois de France concernant les gens de la guerre qui a été publié à Paris en 1762.
[19] Caforio, Giuseppe, Some Historical Notes, Handbook of the Sociology of the Military, Springer, 2006, pp :12-13.
[20] Vigarelle, Georges, Le corps redressé, Armand Colin, Paris, 2001, p. 15.
[21] Id., pp : 17-18.
[22]  عطيّة، مجدي، الجنديّة كحرفة: عن التحولات في الحرب والثورة في الشؤون العسكرية، باب الواد، 2016.
[23] la documentation française, 2006, « La fin du service militaire obligatoire », Mis à jour le 16/10/2006, URL : http://www.ladocumentationfrancaise.fr/dossiers/service-civil/fin-service-militaire-obligatoire.shtml.
[24] Bauman 2001: 27, 2002a: 88, 2002b: 94–8. Cited in : Maleševic´, Siniša, The Sociology of War and Violence, Cambridge, 2010, pp. 315-317.
[25]  بالرجوع إلى تعريف سكوت بوكاتمان للجسد السايبورجين، أنظر: « The body must become a cyborg to retain its presence in the world, resituated in technological space and refigured in technological terms.  Whether this represents a continuation, a sacrifice, a transcendence, or  a surrender of “the subject” is not certain. Elements of all three pertain, but in works as otherwise diverse as Neuromancer or Max Headroom, Blood Music or Videodrome, the condition of being is presently listed as terminal. ». Bukatman, Scott, Terminal identity : The virtual subject ine the post-modenr science fiction, Duke University Press, Durham and London 1993, p. 147.
[26] Gray, Chris Hables, Posthuman Soldiers in Postmodern War, Body & Society, Vol. 9(4): 215–226, 2003, pp. 215-216.تطبيقات الـ Cyborg soldier كثيرة جداً، وللإحاطة بها، ينصح بالنظر في أرشيف Defense Advanced Research Projects Agency (DRAPA). المثال الأقرب لموضوع الدراسة هو مشروع الـ Augmented Cognition أو كما يعرف باختصار AugCog الذي وصفه المركز كما يلي: « The Augmented Cognition (AugCog) program will extend, by an order-of-magnitude or more, the information management capacity of the ‘human-computer’ combination by developing and demnstration enhancements to human cognitive ability in diverse and stressful operational environments. Specifically, this program will develop the technologies needed to mesure and track a subject’s cognitive state in real-time. Military operators are often placed in complexe human-machine interactive environments that fail when a stressful situation in encounterd. The technologies under devlopment in AugCog have the potential to enhance operational capability, support reducation in the numbers of personimprove human performance in stressful environments. ». DRAPA 2002. Cited in : Moreno, Jonathan D., Mind Wars, Dana Press, NewYork, 2006, p. 51. أنظر أيضاً: DRAPA AugCog : (https://www.youtube.com/watch?v=dR0NdfCNKoI)
[27] Simpson , Jane A. & Symington , Lawrence E., The soldier System – The army’s future vision, U.S. Army Natick Research, Development & Engineering Center, Natick, Massachusetts,  Proceedings of the human factors society 35th Annual meeting-1991.