كيف يصبح الأفراد جنوداً؟ هذا هو السؤال الرئيسي الذي سنحاول في هذا الملفّ البحثيّ أن نجيب عليه، وهو بالأساس مادة تمّ العمل عليها لاجتياز إحدى مساقات الدراسات العليا (الإدراك والعواطف) في جامعة نيس، وتمّ نقلها إلى العربيّة. 

مُفتَتَح تنفيذي

“الجندي لا يولد جنديّاََ، وإنما يصبح كذلك”، (مقولة عسكرية).

“لم أدخل الجيش لكي أصبح أنا نفسي، وإنما كي أصبح شخصٌ آخر”، (الرقيب يوهان دوادي).

“لماذا يشتاق قدامى الجنود للحرب؟ لأنه مقارنة بذلك النوع من العزلة، تبدو الحرب سهلةً نفسياً، هذا ما يجب علينا فهمه، وإصلاحه بطريقة ما في مجتمعنا”، (سيباستيان جانغر: 2014).

“القتال، هو أولاً اقتحام عالم قلّما كانت مساحته أكبر من بضعة مئات الأمتار، وفي لحظات لا تزيد في الغالب عن بضع ساعات. هذا المحيط الجديد هو عملياً اختراق لعالم ادراكاتنا المعتادة، هو مكان ما بين الحقيقة والوهم، تجد نفسك فيه مجبرا وبكل حواسك على تشرّب كل مشاعر حياتك في دقائق معدودة”، (ميشيل غويا: 2014).

“أن تصبحَ محارباً، يعني أن تحمل نفسك طوعاً للغوص في أعماق العنف، يعني أن تقبل ما يبثه ذلك فيك من الخوف من أن تتحطّم أو أن تتشوّة روحك كما جسدك. يعني أن تقبل سلخك عن نفسك كي تنجو وتتقدّم في عالم يَعدُك بالسحق في كل ثانية. الذي يبقى ويقاوم هذا كلهّ في أرض المعركة، هو إذن شخصٌ آخرٌ في آخِر النفق”،(غويا مجدداً).

كيف يصبح الأفراد جنوداً؟

هذا هو السؤال الرئيسي الذي سنحاول في هذا الملفّ البحثيّ أن نجيب عليه، وهو بالأساس مادة تمّ العمل عليها لاجتياز إحدى مساقات الدراسات العليا (الإدراك والعواطف) مع الآنثروبولوجي البلجيكي في جامعة نيس آرنولد هالوي، في حين، تمّ نقلها إلى العربيّة تحت إشراف الأستاذ الباحث في دائرة سليمان الحلبي خالد عودة الله. ولذلك، ما سنعرضه ليست نصوصا متفرقّة تم تجميعها بقدر ما هي مادّة بحثيّة واحدة تمّ تجزئتها على أربعة فصول ليسهل على القارئ والمهتمّ التعامل معها.

في الفصل الأول، سنتناول قضيّة المشاعر، تطورّها، فلسفتها، ومن ثمّ مكانتها ودورها في الحياة اليوميّة وإدارة الواقع الاجتماعي. وقد آثرنا التفصيل في هذا الموضوع قليلاً، نظراً لضعف الدارسات العربية في هذا المجال.

في الفصل الثاني، سنحدّد موقع هذه الدراسة ضمن المشروع الذي يحتويها من خلال محاولة الإجابة على سؤالين رئيسيين: هل يخاف الجنود، وممّ يخاف الجنود؟ أما المقصود بالمشروع الذي تندرج هذه الدراسة في إطاره، فالحديث عن أطروحة الماجستير التي نحن بصدد الاشتغال عليها، والتي تتطرق لدوافع جنود المشاة في الجيش الفرنسيّ في انضمامهم إلى الجيش، وصيرورات الإعلان عنهم كجنود.

وقد خصصنا الفصل الثالث قبل الأخير للتعريف بالخوف، وهو الحالة الدراسية التي اعتمد هذا البحث ملاحظتها والتركيز عليها لفهم آليات صناعة الجنود في الجيوش الحديثة، وهذا هو ما سنتطرق إليه بالتفصيل في الفصل الأخير الذي يحمل عنوان: خمس آليات ممكنة في عسكرة المشاعر.