بعد عشرة أيام من الهجوم على قافلة الشّهيد الحنيطي، أي في السابع والعشرين من آذار عام 1948، عادت المقاومة وضربت عُمق المستعمرات واستهدفت قافلة صهيونية كانت في طريقها لكسر الحصار عن مستعمرة “يحيعام” بالقرب من قرية الكابري، قضاء عكا.
يٌذكر أنه مع تصاعد معارك عام 1948 وجد الصهاينة صعوبةً في إمداد مستعمراتهم بالأكل والشراب بسبب كمائن المقاومة وتفوّق المناضلين في استحكاماتهم وتحصيناتهم كونهم على درايةٍ ومعرفةٍ بجغرافيا البلد. وفي بداية شهر 1/1948 تمّ الهجومُ على قافلةٍ صهيونيةٍ تنقل مؤنًا ومأكلًا ومشربًا إلى مستعمرة “يحيعام” وقتل خلالها 6 نواطير صهاينة.
وكانت مستعمرة “كيبوتس يحيعام” الواقعة على أراضي قريتي ترشيحا والكابري جنوب وادي جعتون في الجليل، بالقرب من قلعة جدّين، قد بُنيت في العام 1947 وسكنها 60 صهيونيًا من شبيبة “هاشومير هاتسعير”، وهي حركةٌ كشفيةٌ صهيونيةٌ عالميةٌ، ومعنى اسمها “الحارس الشّاب”، وقد أُقيمت بهدف تنشئة الشّبيبة اليهودية على حبّ “أرض إسرائيل” والتطلع إلى الهجرة إليها[1].
في تاريخ 22/1/1948 هاجم أديب الشيشكلي – قائد فوج اليرموك الثاني في الجيش العربيّ السوريّ – قائد منطقة صفد مستعمرة “يحيعام” بهدف احتلالها، لكنّه فشل في ذلك، وارتقى في هذه المعركة 18 شهيدًا. لكن الهدف الرئيس والمركزيّ للهجوم على المستعمرة هو التمويه؛ حيثُ كان هدف الهجوم التغطية على عملية دخول المناضل محمد صفا من غور الأردن لإمداد القدس بالسلاح.
وفي ذلك الهجوم قُتل 4 صهاينة وجرح 21، وانتهت المعركة عندما قصف “عيزر وايزمان” المقاتلين العرب من خلال طيارةٍ عسكرية. وقد كان “وايزمان” في حرب 1948 قائد سلاح الطيران في الجنوب من عصابة “الهجاناه”، وقد تدرّب وتعلّم من خلال العسكرية البريطانية، وكانت مهمّته إيصال المؤن والإمدادات للمناطق المُحاصرة في النقب ومستعمرة “غوش عتصيون”.
الهجوم على قافلة “يحيعام” في آذار 1948
وصلت الصهاينة معلوماتٌ تفيد بأنّ هناك هجومًا محتملًا على القافلة المتوجهة إلى مستعمرة “يحيعام” لإمدادها بالمعونات وسط الحصار العربيّ الشديد في المنطقة، وكانت المعلومات تفيد بأن الهجوم يضمّ ألف مقاتلٍ عربيّ بقيادة أديب الشيشكلي. لكن “بن عامي” قائد لواء الشمال، قرر أن يُخرِجَ القافلة لخطورة الوضع في “يحيعام”.
خرجت القافلة من مستعمرة “كريات حاييم” في 26 آذار وصولًا إلى نهاريا، ومن هناك أكملت طريقها عند الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم الثاني نحو مستعمرة “يحيعام”. وكانت مكونةً من: سبع سياراتٍ مصفّحةٍ وشاحناتٍ و87 مقاتلًا صهيونيًا. كانت السيارة الأولى مصفّحةً ومصمّمةً على فتح الطريق وكسر الحواجز، وفيها 14 مقاتلًا بما فيهم قائد القافلة الضابط “إيتان زيتس”، وخلفه جيبٌ عسكريٌ مصفّح فيه ست مقاتلين من بينهم قائد لواء الشمال – لواء “كرميلي” الجنرال “بن عامي فاختر”.
أما باقي الشاحنات كان فيها سائق ومقاتل، وكانت الشاحنة الخامسة مصفّحةً وفيها 24 مقاتلًا بالإضافة إلى مستعمرين من سكان مستعمرة “يحيعام”، وكان في السيارة السادسة مؤنٌ وسائقٌ ومقاتل، وكانت السابعة مصفّحةً وفيها مقاتلٌ، وكان بحوزتهم أجهزة اتصالات. وكان عدد المقاتلين الصهاينة الإجماليّ في هذه القافلة بحسب الرواية الصهيونية 87 مقاتلًا.
بدأ الهجوم عند الساعة 14:25، عند وصول القافلة إلى التواء الطريق بالقرب من مخبز قرية الكباري (اليوم هي قرية مُهجّرة) الواقع إلى جنوب القرية بالقرب من المقبرة. نجحت المصفّحة الأولى باختراق الحواجز والوصول إلى “يحيعام”، ولكن كان من فيها إما مقتولًا أو مُصابًا. وقد قُتل قائد القافلة “زيتس” برصاصةٍ أصابته في فمه وأصيب آخرون معه. انقلبت السيارة الثانية وبدأت تشتعل ممّا عطّل حركة بقية السيارات في القافلة. وقد نجح المناضلون في تعطيل جهاز الاتصالات في المُصفّحة الأولى، وقتلوا منسّقة الاتصالات، المجنّدة الوحيدة التي كانت في القافلة، فانقطع الاتصال مع القافلة ولم تصلها الإمدادات.
أحد الصهاينة الذي نجا من نيران المقاومة يروي الحادثة: “وصلنا إلى الكابري وشاهدنا مقاتلًا عربيًا يحمل بندقية، تنبّهنا للكمين القادم، وقام زيتس بتحضير قنابل يدويةٍ لبدء الهجوم، بعد تقدُّمنا شاهدنا المئات من العرب يأخذون المقبرة كنقطة تحصين، رمى القائد القنبلة وبعدها أغدقونا بالرصاص وأحرقوا المركبات وشوّهوا بعض الجثث التي بقيت هناك في أرض المعركة”.[2]
استمرّ الاشتباك لأكثر من تسع ساعات، لم تطلب القافلة الصهيونية الدعم كون جهاز اتّصالاتها معطلًا ولم يستطع إلا القليل من النواطير بعد سماعهم أصوات الاشتباك أن ياتوا ويساعدوا القافلة. انتهى الاشتباك باستشهاد 6 من المقاومين وجرح العديد وفي المقاتلين الصهاينة. وبحسب الرواية الصهيونية، فقد قُتِلَ في هذه المعركة 47 صهيونيًا من المقاتلين الذي كانوا في القافلة.
ومن بين القتلى كان الضابط “إيتان زيتس” قائد القافلة، وقائد لواء الشمال – لواء “كرميلي” “بن عامي فختر”. وبهذا فشلت القافلة في الوصول إلى مستعمرة “يحيعام”، وبقيت مقطوعةً عنها الطريقُ ومحاصرةً إلى فترةِ طويلةِ حتى بدأت عملية “بن عامي 2” التي احتُلّ فيها الجليل وسُمّيت على اسم قائد لواء الشمال “بن عامي”. وقد أسمى الصهاينة هذه القافلة “قافلة المصيبة الكبرى”.
في ذلك الأسبوع الذي يصفه الصهانية بأسبوع الخسارات، أول الربيع، نجحت المقاومة في تنفيذ كمائن مُحكمةٍ لثلاث قوافل صهيونيةٍ أخرى كانت تمُدّ المستعمرات بالسلاح والمؤن والدواء. فقد تمّ الهجوم على قافلة “النبي دانييل” والتي خرجت في تاريخ 27/3 من المستعمرات الصهيونية باتجاه مستعمرة “جوش عتصيون – قُتل فيها 15 صهيونيًا وجرح قرابة أربعين آخرين. كما تم استهداف قافلة “خلدا”، والتي خرجت في تاريخ 31/3 من خلدا إلى القدس لإمداد المستعمرات الصهيونية في فترة حصارها وقتل فيها 23 صهيونيًا.
وكانت قافلة “يحيعام” القشة التي قسمت ظهر منظمات العصابة الصهيونية، والتي جعلتها تُعيد تقييم استراتيجياتها العسكرية في السيطرة والإخضاع، وتوصي بالنهاية بأنّ القوافل خطأٌ وفشلٌ ذريعٌ. بعد ذلك انتقل العملُ العسكريُّ الصهيونيُّ إلى احتلال المحاور الرئيسية والطرق الرئيسية، وبعدها بأسبوعٍ لجأت إلى القتل المتعمّد وهدم البيوت وإبادة المجتمع. ونجحت العصابات الصهيونية بكسر الحصار المفروض على القدس وشقّ طريق يافا-القدس من خلال وحدة “هرئيل”، وذلك بعد استشهاد عبد القادر الحسيني وسقوط القسطل والقدس بعمليةٍ اسمُها “نحشون”، وبعدها وصلت ثلاثُ قوافل إلى القدس للمستعمرات اليهودية في المدينة.
هذا جزءٌ بسيطٌ من دَيْننا للمقاومة وللشهداء من تدوينٍ وبحثٍ وتأريخٍ لإرث المعركة وتاريخها ولأنّ تاريخنا وحقيقتنا لم تكن فقط هدمًا وقتلًا وتشريدًا وذبحًا ومجازرَ ولجوءًا واستيلاءً على الأرض واغتصابًا وبقرَ بُطون؛ بل كانت هناك مقاومةٌ فعالةٌ وحيّةٌ دافعت عن فلسطين بكلّ ما تملك حتّى الطلقة الأخيرة. هذا الحدثُ الكبير المسمّى – النكبة، علينا دراسته بتفاصيله الأكثر دقّةً وفهمه فإن هذه المعرفة هي وفاءٌ للحقيقة التاريخية وللشهداء وللمهجّرين ولأنفسنا أولًا.
كما أنّ البطولة والمقاومة وإرثها هي ركنٌ أساسيٌّ في هويّتنا وذواتنا كفلسطينيين ساعين للتحرّر، لأنّنا نعتبر النكبة وثورة 36 أحداثًا معقدةً وطويلةً ومركزيةً ورئيسيةً في تعريفنا لذواتنا وفي فهمنا لتاريخنا القصير، لذلك مطلوبٌ منّا أن نفي هذا الباب حقّه في الجدية والمسؤولية في التعامل معه وبحثه حتى الرمق الأخير.
———————-
الهوامش:
[1] وكانت هذه المنظمة تأسّست في غاليتسيا في بولندا بين عامي 1913- 1914، وضمّت في صفوفها حركاتٍ كشفيةً من “هشومير– أي الحارس” وشبيبة صهيون. وجرى اتحادٌ بين الحركتين تحت اسمٍ واحد – هشومير هتسعير”. ومن أهداف هذه المنظمة القيام بتربيةٍ طلائعيةٍ على حبّ “الوطن- أرض اسرائيل” والهجرة إليها والعيش فيها بواسطة إقامة استيطانٍ يهوديٍّ في كلّ موقعٍ منها، والعمل الجماعي المشترك– كيبوتس”.
[2]-مقابلة مع ريؤوفين فيتسريف، والذي كان سائقًا للمصفحة الأولى في قافلة “يحيعام”، على موقع “معاريف”، نشرت بتاريخ 19 نيسان 2010.
===========
المصادر:
– مقالة: أ.د. سعد أبو دية، من مآثر الأردنيين في الخارج. – الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين: مذكرات رشيد الحاج إبراهيم 1890 – 1953 ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2005. -عن الهجوم على قافلة “يحيعام” في موقع عصابات “البلماح”. – חטיבת כרמלי במלחמת הקוממיות, הוצאת מערכות, 1973. – “لواء كرميلي في حرب الإستقلال، إصدار مجلة “معارك”، 1973.
– Black, Ian (1992). Israel’s Secret Wars: A History of Israel’s Intelligence Services. Grove Press. – Khatib, Muhammad Nimr al (1967). The Events of the Disaster or the Palestinian Disaster. Beirut: Al Khay at Publishers.
– Kimche, Jon and David (1960) A Clash of Destinies. The Arab-Jewish War and the Founding of the State of Israel. Frederick A. Praeger. Library of Congress number 60-6996. Page 119.Spelling Mohammed el-Hamd el-Haniti