القيودُ التي فَرَضَها الحكمُ العسكريُّ على حركةِ الرعي والرعيان شَجَّعَتْ الطََرَّاشين على التّسلل والمبيت ليلاً، ما عُرِفَ وقتئذ بـ”التبييت”، لأن الوعور باتت فضاءً مراقباً ومحظوراً على من تبقى من أهلها. فضلاً عن الضّرائب التّي فرضَتْها السّلطاتُ على قَنْيّ الأبقار، مما دَفَعَ الطَّرَّاشين إلى تَبييتِهِ خارجَ أحواشِ البيوت تَحايُلاً على ضريبة العدّ الذي كان يجري ليلاً في كثيرٍ من الأحيان.
يترّحمُ الناسُ على أمينٍ وروحِهِ وعلى عصاه المردودة إلى كتفه التي لازمتْهُ منذ أيام الحكم العسكريّ[1]. عرفه الناسُ من يوم أن شبّ على سفح الجبل “قطروزاً” يَرْجُدُ[2] لحساب أهل المال والرزق. و”القَطْرُوزُ” صفةٌ اجتماعيةٌ اطْلَقَها الفلاحون على كلِّ صبيٍّ وُلِدَ لعائلةٍ لا رزقَ لها ولا أرضَ، مما يضطرُه إلى العمل عندَ أصحابِ الحلالِ والرّزقِ في الرّعي والرّجد مقابلَ أكلِهِ وشُربِهِ أو أجرٍ غير معلوم.
ولمّا دَخَلَ المشطُ في لحيةِ أمين، صَارَ صاحبَ العَجَّالِ الذي يلّم بقرَ القريةِ وعجولَها، يسوقها من مهاجعها إلى حيث اعتادَ المبيتَ بها ليلاً في تل القِرْز[3]، متوسداً بلاط الصّوان على بعد “فشختين” من عَلْول[4] البقر احتماءً به من الضباع والضواري التي تُحَاذِرُ العَلول.
كلُّ من له بقرة يقتنيها من طَرّاشي[5] القرية كان يرسل بها إلى حكورة البيدر، حيث ينتظرُ أمينٌ، وحين يجتمعُ القطيعُ كلُّه الذي دَرَجَتْ تَسميتُهُ بـ”العَجَّال” ينهرُ عليه صاحبنُا مغادراً به القرية ليلاً إلى أن يعود صبيحة اليوم التالي.
لم يبقَ في ذاكرة أمين من عقود الرعي الأربعة غيرَ رائحةِ زفرِ البقر، وجأرِة العَلول، والمبيتِ ليلاً، وعصا من البلوط الأحمر مركونة إلى خلف باب مخدعه تَرَكَتْ فيه ولعاً بالخشبِ إلى يومِ موتِهِ، “هاي أحسن من زلمي عاطل” كان يقول أمين بضحكةٍ صفراء مثل أسنانه وهو يتحسس شقوقَ العصا.
لا يعرفُ أمينُ الذيب تاريخَ مولِدِهِ، ولا حتّى السّنة، وكلّ الذي يعرفُه أنّه يجايلُ فلاناً وفلانةً من البلد، لأُخُوّته معهم في الرضاعة. لاحقاً، ومع الإحصاء السّكانيّ ما بعد الهَجاج، أيّ “النكبة”، سَيُسجِلُ في بطاقتِهِ أنّه من مواليد الـ34، لكنه يظنّ أنّه أكبرُ من ذلك. “أمين الذيب” اسمٌ مركبٌ أطلقتْه عليه جدّتُه “الحكروشية”، فـ”أمين” تسمّياً بجدّه، والذيب هو حِرْزُ اسمه، حيث اعتادَ النّاسُ تحرُزَاً من موت أطفالهم رضعاً تسمّيَتَهم بأسماء الحيوانات والطيور الجارحة، كتعويذةٍ تُعينُهم على النجاة والفرار من الموت.
يَذْكُرُ صاحبنُا جيداً كيف دارتْ الدّنيا على إيقاع حياةِ الناسِ بعد الهَجاج عام 48، والتحوّل الذي مرّ على الرعي والرعيان، وخصوصاً رعي البقر من الطَرْش، الذي يمكنه البقاء سارحاً يطشّ التلال والوديان على داير أيام السنة. ويذكر كذلك كيف حَرَّشَ المستوطنون حقولَ القرى المنكوبة وسيّجوا وعورها الممتدّة وخصّوها مراعيَ لمزارع المستعمرات، بعد أن كانت مصبوغةً بِسَمَارِ لون قطعان الفلاحين.
حين ينظرُ أمينٌ إلى ربوعِ تل القِرْز، يُمكِنُه أن يدّلنا على شجرة المَلّ الأصيلة من المستعارة فيه، ففضلاً عن اختلاف خضرة لون الورق، وشكل تَجَذُّعِ المَلَّة، فإنّ النّارَ هي الفيصلُ بالنسبة إليه لتمييز بلوط تلِّهِ الأحمر عن بلوط الاستيطان الأبيض المُهجّن، فالنّارُ عليها أن تبقى الحَكَمَ بين الأصلِ والدخيلِ يقولُ أمينٌ، وكثيراً ما أربَكَتْ مثلُ عبارتِه هذه النّاسَ أيامَ الحُكمِ العسكريّ.
القيودُ التي فَرَضَها الحكمُ العسكريُّ على حركةِ الرعي والرعيان شَجَّعَتْ الطََرَّاشين على التّسلل والمبيت ليلاً، ما عُرِفَ وقتئذ بـ”التبييت”، لأن الوعور باتت فضاءً مراقباً ومحظوراً على من تبقى من أهلها. فضلاً عن الضّرائب التّي فرضَتْها السّلطاتُ على قَنْيّ الأبقار، مما دَفَعَ الطَّرَّاشين إلى تَبييتِهِ خارجَ أحواشِ البيوت تَحايُلاً على ضريبة العدّ الذي كان يجري ليلاً في كثيرٍ من الأحيان.
وهكذا ينشُّ أمينٌ عَجّاَلهُ بعدَ صلاة العشاء ويبيتُ به إلى حين قبل جهجة الضو راجعاً إلى القرية، باستثناء الأيام اللازبة[6] من شتاء كوانين، حيث يَحْجِبُ خُطَاطُ الضّبابِ السّابحِ من فوقِ جبالِ النّاصرةِ الرؤيةَ عن أمنِ المُستَعمَرَة، ليلوذَ أمينٌ بعجَّالِه طوال النّهار خلف شجر السريس والبلوط.
من لا يذكر أمينٌ الذي ينهرُ على مؤخرة العَجّال مرةً، ويصيحُ مرةً أخرى بصوتٍ يخرجُ من قُحْفِ رأسِهِ حين تمدّ بقرةٌ برأسِها إلى زَرْعِ حواكير النّاس تفادياً للتلاسن والاشتباك؟ دَبيكُ مرورِ العجّال ونهرةُ أمين المفخّمة، وتلويحةُ عصاه المُجدَّعَة مشهدٌ لا يروح من بال أحد، وملامحُ أمين كذلك، بِسَالِفِهِ الأسود المنحدر على خدِّهِ مثل طعجةِ الشِبرية، وشاربِهِ الذي يُمْكِنُ لدِيك السُمَّنِ[7] الوقوف عليه، وحزامِ خاصرتِه المشكول بفراخ الحَجَل المذبوح الذي يلوحُ مُطّلاً من فروته المُصَجَّرَة – والمُصجَّر لونٌ من ألوان الفلاحين الشّعبيّة ويُقصدُ به البنيّ المحروق نسبةً إلى الصجرة، إذ جرت العادة أن تُلفظُ مفردةُ الشّجرة “صجرة” بقلبِ الشين إلى صاد.
يندفعُ العَجَّالُ أمام أمين الذيب ليلاً مُنحدِرَاً من سفح جَبَلِ سِيخ نحو واد المشتى “مصب ماء المطر” وخلايله المعقودة بالسِّدِرِ والسّريس المحاذية لجبل الرويس، ومن ثم إلى واد المَدِّي موجّهاً العَجّال من مسارب الزرد[8] والعليق فيه، قاطعاً الطريق شرقاً لتلِ القِرْز. يمتدُ التّلُ جنوباً مكسواً بالسِدر والجُميز حتّى جبل الطور، وإلى شمال التّل تمتد مرحانُه عند حدود قرية الشجرة، ومن الغرب منه يطلّ عليه جبل الرويس.
وفي بطن تل القِرْز تمتدُ وسعةٌ يكسوها المَلُّ الأحمر تنداح شرقاً مروراً بدور عرب الصْبيح المهجرة التي ابتلعت بعضاً منها مستعمرةُ “بيت كيشت”، لتفصل التّل عن منفسه الشرقي وامتداده التاريخي حيث قرية كفر كما الشركسية. وفي التل بئرٌ تُعرف بـ”بير الشَّرَّار” خَلَفتهُ عشائرُ عرب الصبيح عامراً إلى يومنا، وكذلك رانِ الشرب[9] بقربه، الذي يَرِدُه العَجَّال في كلّ يومٍ بعد طلوع الفجر دِغْشَةً.
يعرفُ أمينُ الذيب دُورَ العرب في تل القِرْز منذ أن كانت مأهولةً بأهلها البدو قبل هَجاجهم، يوم أن كان قطروزاً يُعهدُ إليه بنقل حطب الفحم الذي يبتاعه الفلاحون من بدو عرب الصبيح، ونقله على الدّابة إلى المفاحم المطمورة على أطراف البلد. وكذلك صمغ شجر البُطم الذي كان يَخلِطُهُ البدو بشمعِ عسلِ السِّدر، يحمله أمينٌ فوق حِمْلِهِ إلى رهبان أديرة الناصرة لصناعة شموع القُدَّاس.
هذا ما ترك لدى صاحبنا ولعاً في الخشب إلى أن صار راعي العَجَّال فاحترفَ قطعَ العصا، فليس من بين رعيان الجبل من هو أشطر من أمين الذيب في تحويل جذع البلوط المعوّج إلى عصا بِقنوتها التي تُشبِهُ رأس الثعبان، وذلك عبر صلي الجذع بالنّار وحَمصِهِ على جمرها، وبالتالي رميّه في برميل الماء المغليّ مدةً لا تتجاوز شربَ سيجارة، ومن ثم البدء في تصويب اعوجاج الجذع وحتِّ قشرتِهِ المتفحمة إلى أن يأخذَ شكل العصا وسط انبعاث مائها المتبخر الذي ينبعثُ في صدر صاحبنا بخوراً، “إياها ريحة صجر بلادنا” كان يقول.
يُحدِدُ أمينٌ طولَ العصا بما يزيد عن ارتفاع خاصرتِهِ مقدارَ شبرٍ أو أكثر، وهذا يزيد قليلاً عن الطول المتعارف عليه للعصا عند الرعيان، وغرضُهُ صيد فراخ الحَجَل، فقد عُرِفَ عن أمين كيف كان يرصدُ رَفَّ الحَجَل المُندّسِ بين البِلّان. حيث يرمي بحصى، وما إن تَهِمُ فراخُ الرف للطيران عندها يُلوّحُ أمينٌ بعصاه على مدّ ذراعِهِ ويرمي بها صوب وجهةِ فرار الرف، لتوقعَ بطيرٍ منه أو اثنين. ويعرفُ صاحبُ العَجَّالِ متى وأين تضع فراخُ الحَجَل بيضَها، فالحَجَل من الطيور التي تبني أعشاشها على الأرض، قليل الطيران وسريع في مشيته، “لولا البارود والدِّيّ[10] – لَسَابِق الخيّال ع رِجلَيّ ” تقول الحجلة، كان يردد أمين مستظرفاً.
اللوف الذي يفترش ظلال شجر المَلّ بورقه الذي يشبه أذن الفيل، وكذلك الزعتر الفارسي الذي ينبز عوده من بين شقوق بلاط الصخر، كانت تُدْمِلُ جوارحَ صاحب العَجَّال المخدوشة، غير أن شتلة “الفيجن”[11] بعروقها المطلّة من بين أحجار بيوت البدو المبعثرة وحدها من كانت تُلهِبُ ذاكرة أمين وتشدّه إلى ما قبل عام 48، ليستحضر مشهدَ الدُورِ عامرةً بأهلها. فتلك من على كتف التّل بيوتُ الشنِيفَات، وفي بطن التّل بيوتُ الظَهْرَات تجارُ الخيل يَذكُرُهم، ومع خطّ النّار إلى كعب التّل دارُ علي النمر قائدُ الكمائن، ومُدبِّرُ أكبر مذبحة بِحُرَاس ثكنةِ “سديه ايلان” في مطلع كانون ثانٍ من عام 48.
يتحسسُ أمينٌ حجارَ البيوت الآيلة وسط سكون ليل التّل الساكت، وهبوب رِيحهِ التي تؤرجح شلوح المَلّ فتقفزُ في ذاكرته تفاصيلُ وقعة الصبيح، أشرس معركة يذكرها دارت رحاها على أعتاب بيوت البدو عام 48، ففي حزيران وبعد كمين علي النمر تسللت كتيبة من مسلحي الهاجاناه فجراً متنكرة بلباس عربي يعتمر أفرادها “الحطة والعقال”، وباغتت دور العرب فَدَارَ اشتباكٌ استمر إلى آخر النهار انتهى بالشباري والسكاكين من بيت إلى بيت ومن رجم إلى آخر.
هُجِّرَت عشائرُ الصبيح، ومن بقي منهم اشتُرِطَ بقاؤهم بتغيير نَسَبِهم من الصبيح إلى الشِبلي بطن من بطون القبيلة، وبتغيير نسبهم لم يعدّ لهم “حقٌ” في أراضيهم بتل القِرز واعتُبرت “أملاك غائبين” لأن ملكيتها تعود لعرب الصبيح، فدُفِعَ بهم إلى كعب جبل الطور، وأقاموا قريتَهم عرب الشبلي الحالية.
هناك في بطن التل وبعد عشر سنين، يقف صاحب العَحَّال عند سلاسل دور العرب التي ابتلعها هُشران[12] العشب المتيبس، ويقطر على وجه أحد حجارتها بماء دم الزغلول[13] “هون دار علي النمر”. وفيما السماء تنفّ رذاذ مطر كانون، تنبعث جعرة العلول بنفخة تقطع نسل الجرو ليدوّي صداها في الوديان، فيردّ عليها جواح بنات آوى من غابة حجر الغول. يقترب أمين من علول البقر، ويتوسد مجدداً صخر بلاط الصوان متلفعاً بفروه المُصجّر.
قضى صاحبنا من لياليه في تل القِرْزِ أكثرَ مما في العين قضى، فكما العين مسقط رأسه، فإن التل مسقط قلبه. أواخر التسعينيات سيحملُ أبناءُ الفلاحين نعشَ أمين الذيب مُكفّناً بِفَروِهِ المُصجّر كما أوصى، ليلتحفَ به ومعه رائحة مَل التَل وزعتره في وداعه الأخير.
———————-
الهوامش
[1] المقصود الحكم العسكري الذي فُرض على الفلسطينيين الذين صمدوا داخل حدود عام 1948 بعد حرب النكبة، وقد فرض الاحتلال الحكم العسكري منذ 1948 وحتى 1966، واتبع خلال تلك الفترة سياسات قمع وضبط صارمة ضدّ الفلسطينيين، منها مثلاً منع تحركهم خارج قراهم إلا بتصريح، وتقييدات واسعة على أعمالهم وزراعتهم.
[2] من الرجد: ويعني تحميل الغلال ونقلها على الدواب.
[3] تل القرز: إلى الشرق من عين ماهل قضاء الناصرة، وتعني “تل الأرز”، ولكنها ملفوظة بلهجة أهالي المنطقة، وهي تسمية محلية دارجة بين أهالي القرى المجاورة مثل الشبلي ودبورية وعين ماهل.
[4] العَلول: الثور وهو فحل قطيع البقر، للمفردة جذور آرامية قديمة فالعلول من آلول من إيل، يعني إله الخصوبة والتكاثر، وجرى قلب الهمزة إلى عين، وكذلك في مفردات أخرى مثل جأرة العلول وتعني “جعرة العلول”.
[5] الطًرّاش: من يقتني ويملك الطَرْش أي البقر.
[6] الأيام اللازبة أي كثيرة المطر.
[7] ديك السُمّن: طير من الطيور أكبر من العصفور بقليل، اعتاد الناس صيدَه وانقرض في كثير من مناطق فلسطين.
[8] الزرد: الأشجار الوبرية المتشابكة.
[9] ران الشرب: جابية مصنوعة من الطوب يوضع فيها الماء لسقي المواشي.
[10] الدّي: صوت البارود.
[11] الفيجن: عشبة بريّة لها رائحة حادّة ومُثيرة زرعها الناس قديماً إلى جانب القبور والكهوف لتطرد رائحتُها الزواحفَ والأفاعي، تستخدم لتخليل الزيتون الأسود.
[12] الهشران: الأعشاب أو الشوك المرتفع.
[13] دم الزغلول: ماء أحمر اللون يستخرج من الشوك البري.