قدّم الفلاحون المساهمة الأكثر وضوحاً في توليد الوطنية الفلسطينية، وأدّت هزيمة الفلاحين، في ثورتهم الكبرى ،1936، إلى هزيمة فلسطين. وفي مسار الفلاح الفلسطينيِّ ما يستدعي السؤال النظري الشهير: من أين يأتي الوعي الصحيح؟ والذي نجد إجاباته، بتتبّع سيرة الفلاح، من خلال واقع الممارسة الوطنية النقدية. 

لقراءة الجزء الأول، من هنا

مقدمة

قدّم الفلاحون المساهمة الأكثر وضوحاً في توليد الوطنية الفلسطينية، وأدّت هزيمة الفلاحين، في ثورتهم الكبرى، 1936، إلى هزيمة فلسطين. وفي مسار الفلاح الفلسطينيِّ ما يستدعي السؤال النظري الشهير: من أين يأتي الوعي الصحيح؟ والذي نجد إجاباته، بتتبّع سيرة الفلاح، من خلال واقع الممارسة الوطنية النقدية. 

ولعلّ من المهم التنبّه إلى الفرق بين امتلاك الأرض وبين العمل فيها، وهو ما ينتجُ التمايز بين الحياة في المدينة والقرية الفلسطينية؛ فالكثير من المدينيين املتكوا أراضيَ لم يألفوها ولم يعرفوها إلا من رزقها الذي كان يحطّ بأيديهم ويصلُهم في بيوتهم في المدن. يستدعي ذلك علاقة العمل بالأرض مع شفافيّة الفلاح الفلسطيني وتنبّهه للخطر ومقاومته للاستعمار والغرباء. هذا ما قد يفسّر قوانين الانتداب البريطانيّ التي كان هدفها إرهاق الفلاح الفلسطينيِّ وجعل أرضِه عبئاً عليه، سعياً لانتزاعه منها، هذا بالإضافة إلى تلك التي كانت مقرّرةً، من ذي قبل، بالقوانين العثمانية.

نستكملُ هنا، بقية بحث ” الفلاحون وولادة الوطنية الفلسطينية ” لـ د.فيصل دراج.
الجزء الأول من هنا.

الفلاح والتصور الإيماني للأرض

يقول إريك ولف، في كتابه “الحروب الفلاحية في القرن العشرين”، مشيراً إلى علاقة الفلاح بأرضه: “يؤمن الفلاح بأن أرضه حقٌّ أبديٌّ له، وحتى إن سُلِبت منه، فهي راجعةٌ له لا محالة”. هذا الكلام الذي يحيل على الفلاح الروسي ينطبق، بدوره، على الفلاح الفلسطيني قبل عام 1948 وبعدها، على مبعدةٍ عن “ابن المدينة”، الذي كان يعتقدُ أنّ أرضه الزراعية جزءٌ من ممتلكاتٍ أخرى، وأن ما يُباع يُشترى بثمنه شيءٌ آخرُ [1].

إذا كانت الأرض، في التصوّر التجاري، سلعةً تُباع وتُشترى، وفقاً لمعايير السوق والربح والمصلحة، فإنّ للأرض، في التصوّر الفلاحي، كما في الممارسة الفلاحية، معنىً آخر. فالأرضُ لدى الفلاح مصدرٌ للحياة، يعتاش منها ويعيش معها، سواء كان مالكاً لها أو عاملاً لدى مالكها. فقد كان مُلّاك الأراضي الفلسطينية الكبار يعيشون في المدينة، ولم يكن بعضهم يعرف الفلاحين العاملين في أرضه، بل أنه لم يكن يزورها، لأنه كان على الفلاح أن يأتي له بأرباحها، أو بخيراتها، إلى بيته في المدينة، فمالك الأرض المديني يمتلك الأرض ولا يعيش معها، ولا يستطيع هذه المعايشة، فقد آلت إليه أرضه من عائلته ،التي توارثت أرضاً لا تعرفها، الأمر الذي يقيم فرقاً بين :امتلاك الأرض والعمل في الأرض.

ولعلّ الفرق بين ملكية الأرض والعمل في الأرض هو الذي ميّز بين الحياة في المدينة والقرية الفلسطينيتين، إذ العمل في الأولى موزّعٌ على التجارة والمهن ووظائف الدولة، بينما شكّلت  القرية المستقرة، وحدةً حياتيةً، مكتفيةً بذاتها، فهي تنتج ما تستهلك، ولا تتوجّه إلى السوق، إلا نادراً، بل إن الاستقرار الفلاحي الطويل، الأقرب إلى الركود، أنتج ثقافةً فلاحيةً، تحتفي بالأرض وبالعمل في الأرض وتستبعد السوق والسلعة الزراعية، وتحتفي بالتضامن بين الفلاحين، وتستبعد التدخّل الخارجي. ولهذا كان القبول ببيع الأرض، كما انفتاح الفلاحين على السوق، يحتاج إلى نظامٍ ثقافيٍّ آخر، لم تعرفه القرية الفلسطينية المنغلقة على ذاتها [2].

انطوى وضع القرية على بعدين متناقضين: يأمر الأول منهما الفلاح بالدفاع المستميت عن أرضه ،فحياتُه من أرضه، بالمعنى الاقتصادي، وشرفُه من الدفاع عنها، بالمعنى الأخلاقي، طالما أنّ الدفاع عن الأرض دفاعٌ عن الشرف. يتمثّل البعد الثاني في غربة القرية عن المدينة، وفي ضيق الخبرة الفلاحية الصادرة عن حياةٍ ضيقةٍ، ذلك أن الفلاح، في الشروط غير المُهدّدة لأرضه، لم يكن معنياً بما يدور خارج قريته والقرى المجاورة. ولهذا اكتفى في علاقته بالشأن الوطني العام، بدور المتفرّج السلبيِّ، وحتّى حين كان يقاتل من أجل أرضه، كان يفعل ذلك كفلاحٍ، معنيٍّ بالأرض وبمواجهة الخطر الذي يتهدّد الأرض، دون انتظار مساعدةٍ من أهل المدينة، فقد كان يخشى لقاءهم والحديث معهم، كما لو كانت المدينة عالماً مُغايراً، أعلى مرتبةً وأوسع حياةً وأشرفُ مقاماً.

ولهذا “لاحظ الرحالة الذين زاروا فلسطين في القرن التاسع عشر أنّ الفلاحين كانوا يخافون من زيارة المدن ولا يذهبون إليها إلا جماعاتٍ جماعاتٍ، ومع أنّ الفلاحين كانوا قد اعتادوا بحلول نهاية الانتداب على المُتاجرة مع المدينة، وعلى العمل والعيش فيها فإنّ الحواجز الطبقية ظلّت قائمةً في وعيهم، …، ومن المؤكّد أن تصنيفهم لأنفسهم بأنهم “حمير الأرض” كان يعكس نظرة أهل المدن إليهم…”[3].

قد تكون خشية الفلاحين من الذهاب إلى المدينة، آنذاك، أمراً مألوفاً في العالم العربي كلّه، بسبب غياب الوحدة المجتمعية. غير أنّ الأمر في فلسطين اتّسم ببُعدٍ مأساويٍّ مزدوج: فالإشارة إلى نهاية الانتداب (1947) يعني أن المجتمع الفلسطيني لم يكن موحّداً آنذاك، رغم الخطر النازل عليه، بقدر ما يعني أن “أهل المدن” لم يعترفوا، حتى ذلك التاريخ، بالدور الوطني الكبير الذي لعبه الفلاحون في ثورة (1936 – 1939)، الثورة الأكبر في تاريخ فلسطين الحديث، والتي شكّل الفلاحون أكثر من 90% من المقاتلين الذين شاركوا فيها.

تعلن “خشية الفلاح من المدينة” عن صورة الفلاح في الوعي المدينيِّ، القائمة على الشعور بالفوقية وتأكيد الفرق الكيفيِّ، إذ الفلاح فقيرٌ أمّيٌّ مختلف اللباس والسلوك، بقدر ما تُخبر عن صورة ابن المدينة في الوعي القروي، حيث الأول ذو سلطةٍ أو قريبٌ من السلطة، له مهنةٌ مختلفةٌ وحياةٌ مريحةٌ “عاليةٌ” لا علاقة لها بحياة “حمير الأرض” وبكل ما يشُعِر الفلاح بــ”دونيةٍ طوعيةٍ”. والمأساويّ، في الحالين معاً، أنّ الفرق له شكل البداهة، إذ الشعور بالفوقية، كما الشعور بالدونية، كان أمراً موروثاً مألوفاً، لا يمارى فيه أحدٌ، باستثناء مثقّفين مستنيرين مثل: خليل السكاكيني [4].

جعل هذا الفرق، أو الفصل بين أهل المدن وأهل الريف، من التمرّد الفلاحي الفلسطيني المتواتر “تمرّداً فلاحياً” مُكتفياً بذاته، لا يحاور المدينة ولا تحاوره المدينة إلا في “الحالات الصعبة”، كما لو كان انتصار الفلاحين، كما هزيمتهم، أمراً يخصّ الفلاحين دون غيرهم. وبسبب ذلك، فقد قامت التمرّدات الفلاحية في فلسطين لأسبابٍ محليةٍ تغاير “الأسباب الوطنية”، فالفلاحون كانوا يثورون حين تُهدَّدُ أرضهم، وكانوا المسؤولين الوحيدين، في معظم الحالات، عن الثورة والخسائر الناجمة عنها، في انتظار الثورة الوطنية الكبرى (1936) التي لو نجحت لخلقت أفقاً فلسطينياً جديداً .لا غرابة، والحال هذه، أن يأخذ “المسؤول السياسيُّ” في المدينة، في بعض الحالات، دور الوسيط بين الفلاحين والسلطة، ذلك أن له مهنةً أخرى مغايرةً لعمل الفلاحين، ولأن “تعاطيه مع الشأن الوطني” يختلف عن التعاطي الفلاحي القائم على التمرّد والغضب والهجوم. كان للمسؤول المفترض، “مورده الشهري” الثابت، الذي يأتي من السلطة القائمة، أو من “عمله المديني”، بينما لم يكن للفلاح إلا أرضه.

ولا غرابة أيضاً، وهو أمرٌ أكثرُ مأساويةً، أن يعهد الفلاح بقضاياه “الوطنية” إلى ابن المدينة “السياسي، “بسبب قوة “الصورة الموروثة” وسطوة أسماء “العائلات الحسيبة”، التي كانت تحتكرُ التعليم والعمل في أجهزة السلطة وتلعب، أحياناً، دور “الوسيط” في “الشؤون المحلية والوطنية” معاً. ولعلّ سطوة الصورة الاجتماعية الموروثة، التي تُعيّن الفلاح “تابعاً” وابن المدينة “مسؤولاً”، هي التي أعطت التمرّدات الفلاحية في فلسطين شكلاً عفوياً، تبدأ بالفلاحين وتنتهي بهم، باستثناء الثورة الكبرى (1936 – 1939) التي كانت ثورةً فلاحيةً بامتيازٍ لم يُحسن الفلاحون الاستمرار بها حتّى النهاية؛ بسبب نقصٍ في الخبرة، أولاً، ومحدودية الإمكانيات الموضوعية، ثانياً، وهو موضوعٌ يحتاجُ إلى معالجةٍ أخرى: قدّم الفلاحون المساهمة الأكثر وضوحاً في توليد الوطنية الفلسطينية، وأدّت هزيمة الفلاحين، في ثورتهم الكبرى، إلى هزيمة فلسطين.

 الفلاحون والبطولة المأساوية

تمثلّت مأساة الفلاح الفلسطيني، بعد الانتداب الإنجليزي، بأمرين: خطر فقدان الأرض التي تضمن حياته وتؤمّن مستقبل أولاده، إذ لا مستقبلَ لفلاحٍ فقد أرضه ولا خيار له إلا المقاومة أو الضياع. حين عاين “ممثّل اللجنة التنفيذية العربية”، التي أعقبت اضطرابات 1929، أوضاع العائلات الفلاحية التي فقدت أرضها، قدّم رأياً واضحاً: “بعض هذه العائلات هاجر إلى الولايات المتحدة، وبعضٌ من المطرودين وجد عملاً مؤقّتاً ولكنّ أكثرهم تشتّتوا في كلِّ مكانٍ لأنه “لم يبقَ شيءٌ يعتاشون منه”[5]. يساوي فقدان الأرض فُقدان الوطن والاستقرار، وتشتّت العائلة، التي هي مقوّمٌ أساسي من مقوّمات الكيانية الفلاحية. وهذا ما يقيم فرقاً بين الفلاح الذي يعيش مع أرضه ،ومالك الأرض المديني الذي يعيش من أرضه؛ فالأرض بالنسبة إلى الأول هويةٌ ونمطُ حياةٍ موروثٍ، وهي بالنسبة إلى الآخر مصدرُ رزقٍ، أو مصدرٌ من مصادر الرزق، دون أن يمسّ هذا وطنيته في شيءٍ.

وتمثلّ الأمر الثاني بالشروط الظالمة التي تُقيّد الفلاح المُدافع عن أرضه، خلال الانتداب وقبله، فقد استأنف الاحتلال البريطاني، في ظروفٍ جديدةٍ، أشكال الضرائب العثمانية التي كانت تُرهق الفلاح الفلسطيني: وأولها ضريبة العُشر السنوية، التي كانت تساوي، نظرياً، 12.5 بالمائة من غلال الأرض وتصل، فعلياً، إلى 35 بالمائة، إذا أضيف إليها لوازم استغلال الأرض. والضًريبة الثانية، المقرّرة عثمانياً، هي “الويركو”، التي تقدر على أساس 4 بالألف من ثمن الأرض والثالثة هي ضريبة الحيوانات، وتعادلُ عُشر ما لا يستخدم للحراثة والزرع من الحيوانات التي يملكها الفلاح. ويظهر مدى الإرهاق المعيشيّ للفلاح بالعودة إلى تقرير لجنة جونسون ـ كروسبي البريطانية في العالم 1930، الذي جاء فيه: “إنّ معدّل ما كان يدفعه الفلاح من ضرائب مباشرةٍ بلغ 3 جنيهات و870 ملاً، مما يبقي للعائلة، في نهاية المطاف، 19 جنيها و 500 ملاّ كموردٍ سنويٍّ صافٍ لإعالتها..”، علماً أن اللجنة ذاتها قدّرت أن ما يلزم لإطعام العائلة وكسائها، أي إبقائها عـلى قيد الحيـاة، يعادل 26 جنيهاً في السنة [6].

ومع أنّ في خطاب الاحتلال ما كان يوحي بسعيٍ إلى تحسين أوضاع الفلاح الفلسطيني، فما جاء به أضاف إلى التضييق العثماني على الفلاح ضيقاً جديداً؛ فبعد أن كانت تُجبى الضرائب، في الزمن العثماني، من قبل مُلتزمي الجباية، وفقاً لتقديرٍ عامٍّ لقيمة الغلال، أصبحت، في عهد الانتداب، تجُبى نقداً، وفقاً لإرادة الحاكم العسكري الذي يحدّد القيمة النقدية لعُشر الغلال المطلوب. وحين قام الاحتلال بخفض الضريبة إلى 10%، كان المستوطنون اليهود المستفيد الأول، ذلك أن القانون الصادر عام 1920 أعفى الأرض المزروعة بالكروم، وهو أمرٌ توسّع فيه اليهود، وأعفى لاحقاً الأرض المستعملة للبحث العلمي الزراعيّ، الذي أمدّه البارون روتشيلد بأُسُسه الأولى. والمحصلة أن وضع الفلاح، في زمن الانتداب، زاد سوءاً عمّا كانه في الزمن العثماني، حتى شحّ النقد، في بعض الأماكن، وأصبح الأهالي يبتاعون حاجياتهم عن طريق الاستبدال، وعجزوا عن دفع الضرائب، مُراكِمين الديون وقابلين بشروط المُرابين الفاحشة. قصدت سياسة الانتداب إلى دعم السياسة الصهيونية، التي كانت ترمي إلى التخلُّص من الفلاحين الفلسطينيين وإحلال اليهود مكانهم.

عانى الفلاح الفلسطيني من اضطهادٍ عثمانيٍّ متواترٍ، ومن انتدابٍ بريطانيٍّ بالغ القسوة واللا أخلاقية؛ فبالإضافة إلى قانون الضرائب العثماني، جاء وعد بلفور، الذي “اخترع” خطوط فلسطين وأعطاها حدوداً لم تكن موجودةً خلال السيطرة العثمانية، دافعاً بالعرب، أصحاب الإقطاعات الكبيرة، والذين يعيشون خارج “فلسطين الجديدة”، إلى بيع أراضيهم للمشترين اليهود، والمثال الأشهر هو عائلة سرسق، اللبنانية الغنية المُقيمة في بيروت. فوفقاً لكتاب واصف عبّوشي “فلسطين قبل الضياع”، فإن الصفقة الكبرى التي أتمّتها هذه العائلة شملت بيع 200 ألف دونمٍ من سهل مرج ابن عامر ،الأكثر خصباً بين سهول فلسطين، إضافةً إلى “أربع وعشرين قرية” كان أهلها من الفلاحين يعملون عند عائلة سرسق عن طريق تأجير الأرض أو العمل فيها وفق شروط ضمانٍ مُحدّدةٍ. أما الصفقة الكبرى الثانية فكانت بيع “وادي الحوارث”، بمساحته البالغة 826 ،30 دونماً، والذي كان يعمل فيه 1200 عربيٍّ في الزراعة وتربية المواشي. لم يكن الفلاحون قادرين، على شراء هذه الأراضي ومنافسة “الصندوق القومي اليهودي”، ولم يكن هناك مبادراتٌ محليةٌ كافيةٌ وقادرةٌ على حماية الفلاحين والتصدّي لسطوة المال اليهودي [7].

أجبرت احتجاجات الفلاحين حكومة الأنتداب على سن قوانين لم تعطِ، رغم ظاهرها “الموضوعي”، شيئاً مفيداً. فالشروط التي نص عليها “قانون نقل الملكية”، الذي أصدره الانتداب عام 1921، سَوّغَت بقاء الفلاح خارج أرضه، بدلاً من أن يعود إلى العمل فيها. وهذا ما دفع بمسؤول إنجليزي في “لجنة شو”، التي وصلت إلى فلسطين في الربع الأخير من عام 1929، إلى التعليق على القانون قائلاً: “بأنه لا وجود لحالة واحدة استطاع فيها المستاجرون الاحتفاظ بأرض كافية حين كانت الأرض تباع من وراء ظهورهم”[8]. بقي هذ القانون العديم الفاعلية سارياً ثمانية أعوام، في انتظار قانون عام 1929، الذي كان كسابقه ،يخدم مصالح اليهود ويخنق الفلاحين الفًسطينيين، معتمداً على التلاعب القانوني وقدرة اليهود المالية.

كان الفلاح الفلسطيني، قبل الانتداب البريطاني، قد تأقلم مع واقعٍ عثمانيٍّ يحدّدُ هوية بائع الأرض ومشتريها، حتى لو كان يهودياً، ويترك مساحةً أوسع للرفض والمقاومة، خلافاً لذلك فإن معظم عمليات الشراء، التي أعقبت الانتداب، قام بها يهودٌ أجانبُ وشركاتٌ مموّلةٌ من الخارج، ” تلغي الحدود بين شراء الأملاك وشراء الوطن”. ولعلّ محاولات “شراء الوطن”، التي اتّخذت من شراء أراضي الملاكين الكبار مدخلاً لها، هي التي أيقظت لدى الفلاحين وعياً وطنياً من دون مساعدةٍ خارجيةٍ. ولذلك لاحظت “لجنة شو”، التي كانت مُحايدةً أحياناً، أنّ الفلاح الفلسطينيّ كان على وعيٍ بــ”الآثار السلبية “للهجرة اليهودية، مثلما أكّدت أن الإدعاء القائل “بإنه ليس للفلاح اهتمامٌ ذاتيٌّ بالسياسة” يجافي واقع الفلاحين، بل إنها رأت أنّ “النزعة السياسية للفلاحين والقرويين العرب كانت أقوى بكثيرٍ من النزعة السياسية للكثير من الأوروبيين” [9]. أشارت “اللجنة”، وهي تفسّرُ تسيّس الفلاحين وتُرجعُه إلى صحافةٍ فلسطينيةٍ قويةٍ تمثّلت بوجود 14 صحيفة، يتابع أخبارها الفلاحون الأميّون، بطرقٍ مختلفةٍ.

والتفسير مجزوءُ الصحة؛ ذلك أنّ غريزة الفلاح أوضحُ من الصحف التي كانت تبلّغه أخبارها، منذ أن تعلمّ هذا “الأميُّ الحذِرُ” التطيّر من غرباء يشترون الأرض، ويتعاملون معها بأدواتٍ مُخادعةٍ، ربّما تمثّل عملية “الزراعة المكثّفة”، التي وردت كثيراً في الأدبيات الصهيونية خلال فترة الانتداب، مأساة الفلاح الفلسطيني في مواجهة “الغريب اليهوديِّ”. فهذه الزراعة، في أسلوبها الحديث، قادرةٌ على زيادة الإنتاج الزراعيِّ، لكنّها تتطلب استثمار رأس مالٍ كبيرٍ لا يستطيع تحمّله الفلاح العادي، ولا يستطيعُ تأمين ما هو أقلّ منه بكثيرٍ.

لم تدفع إجراءات الانتداب، كما التفوّق الزراعي اليهودي، والإغراءات المالية، الفلاحّ الفلسطيني إلى التخلي عن أرضه؛ فوفقاً لتقدير المسؤول البريطاني في دائرة الأراضي في حكومة فلسطين، فإنّ مساحة الأرض الزراعية في فلسطين بلغت 11 مليون دونمٍ، في عام 1929، امتلك اليهود منها 8 بالمائة تقريباً، وأنّ ما باعه الفلاحون لا يتجاوز بمُجمله 10%.

دعمت القوة العسكرية لدولةٍ عظمى المستوطن اليهودي، ودعم الفلاح الفلسطيني كفاحه بقواه الداخلية. تكشف المقارنة عن مأساة “الفلاح الشجاع”، التي استكملت بفساد الأعيان والأفندية والملاك الكبار، ونمطٍ من “السياسيين”، فلسطينيين ولبنانيين وسوريين، أقاموا مع سماسرة الأرض اليهود علاقاتٍ مُريحةً.

يشكّل كتاب “مذكرات سمسار أراضٍ صهيوني”، بهذا المعنى، مادةً جديرةً بالقراءة، سجّلت الفرق بين موقف الفلاحين وموقف “الأعيان” العرب، وموقف السمسار الصهيوني من الطرفين. فقد رصد الكتاب، الذي أخذ شكل اليوميات، أمرين متوازيين: تمرّد الفلاحين المتواتر وتواطؤ بعض ملاّك الأراضي الكبار، كما لو كان على الفلاح أن يخوض معركةً ضدّ عدوٍّ يعرفه ومعركةً أخرى، لا تقل خطراً، ضدّ عدوٍّ آخر يشعر بوجوده ولا يعرفه.

وسواءٌ أكان ما جاء في كتاب “سمسار أراض يهودي” دقيقاً، أو فقير الدقة، وهو مُحتملٌ، فإنّ وعي الفلاح الفلسطينيِّ الوطنيِّ صدر عن ممارساته الوطنية العملية، رافضاً المستوطنات، مطارداً السماسرة والمرابين، متمرّداً على الانتداب، ومواجها في ثورة 1936 طبقةً مخذولةً من “المتزعّمين الفلسطينيين”، الذين احترفوا “المفاوضات” ولم يهجسوا بالكفاح العملي إلا صدفةً. لم يفصل الفلاح بين أرضه ومقدساته واعتبر أرضه، وعياً وممارسةً، مقدّساً آخر. 

جاء في كتاب “السمسار الصهيوني” بتاريخ 26 حزيران 1936: “اليوم بالضبط يمرّ 67 يوماً منذ بداية الإضراب العربيّ. لا أحد منا ومن الزعماء العرب أنفسهم آمن بالتأكيد في اليوم السابق للإضراب بإمكانية انفجارٍ كهذا، يُوحِّد في كتلةٍ واحدةٍ جميع فئات الشعب العربي ضدّ اليهود. الرأي القائل بأنه ليس في مقدورات الشعارات السياسية أن تثير العرب ضدّنا، إلا على خلفيةٍ دينيةٍ، أفرغته الثورة بكلّ اتساعها من مضمونه، خاصّةً أنها جاءت في زمن ازدهارٍ اقتصاديٍّ، وبفضل الهجرة اليهودية، التي جلبت السعة للفلاحين، وارتقى وضعهم بلا حدودٍ على وضع الفلاحين في البلدان المجاورة، وبصورةٍ نسبيةٍ على فلاحي دول أوروبا أيضاً…” [10].

إن الذي ارتقى بوعي الفلاح الفلسطيني لم تأتِ به الهجرة اليهودية فقط، بل صدر أيضاً عن وعيه الوطني المُمارس، الذي أعاد تأويل معنى المقدسات، وأذاب دلالة المقدّس الموروث في وعيٍ وطنيٍّ، يقتربُ من المشخص ويستبعدُ الكلام المجرّد، وينأى عن ثقافة الأدعية، ويندرجُ في كفاحٍ عمليٍّ بلا حُسبانٍ.

في مسار الفلاح ما يستدعي السؤال النظري الشهير: من أين يأتي الوعي الصحيح؟ يأتي الوعي من واقع الممارسة الوطنية النقدية، التي تعيد بناء الواقع إذا انتصرت، وتذهب إلى لامكانٍ في حال الخسارة. والواقع الذي وقف فوقه الفلاحون الفلسطينيون طويلاً أغرقه الانتداب والعجز العربي، فأقصى الفلاح، بعد هزيمة ثورته الكبرى، عن أرضه، التي أنجب دفاعه عنها وعياً سياسياً مُتنامياً، صادرته وقائعُ لاحقةٌ، التبست بالكارثة [11].

تبدو أرض الفلاح الفلسطيني المنهوبة، حُلماً ملحمياً، كانت له، ذات مرةٍ، عاداته وتقاليده وأغانيه وأعراسه وأعياده و “الحمائل” التي تدافع عنه، وبدت هذه الأرض لاحقاً لدى “المنتصر الصهيوني” غنيمة حربٍ [12]!

**

المصدر: مجلة أوراق فلسطينية، العدد 4، 2013، الصادر عن مؤسسة ياسر عرفات، من هنا

**

الهوامش
[1] أريك وولف: الحروب الفلاحية في القرن العشرين، دار الحقيقة، بيروت ،1977، ص : 65.
[2] روز ماري صايغ: الفلاحون الفلسطينيون، من الاقتلاع إلى الثورة، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت ،1980، ص : 13 ـ 16.
[3] المرجع السابق، ص : 64.
[4] خليل السكاكيني: كذا أنا يا دنيا، الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، بيروت ،1982.
[5] واصف عبّوشي : فلسطين قبل الضياع، رياض الريسّ، بيروت ،1985، ص 83 .
[6] فيصل حوراني: جذور الرفض الفلسطيني ـ رام الله ـ فلسطين، لا تاريخ، ص : 108 ـ 109.
[7] واصف العبّوشي، مرجع سابق، ص: 82 ـ 83.
[8] المرجع السابق، ص 82.
[9] المرجع السابق، ص : 107.
[10] المرجع السابق، ص : 70.
[11] انظر كتاب د. عبد العزيز عوض: مقدمة في تاريخ فلسطين الحديث 1831 ـ 1914 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت ،1983. ص 70 ـ 78.
[12] عن الدور المهيمن الذي قام به الفلاحون في ثورة 1936 ـ 1939، يمكن الرجوع إلى دراسة غسان كنفاني، التي نشرت أولاً في مجلة شؤون فلسطينية، وظهرت لاحقاً في كتيبّ مستقل، (منشورات الهدف، طبعة ثالثة، حزيران 1988، دمشق)، التي نقرأ فيها أن الفلاحين شكلوا 90% من المقاتلين، وأنهم عمموا لباس “الكوفية والعقال” على مجمل فئات الشعب الفلسطيني.