لطالما بدا مصطلح المقاومة محافظاً ومًنطوياً على نفسه بعض الشيء؛ فهو يُحيل الفعل المقاوم إلى حالة نفي سلبية مضادّة لقوة خارجية، أو إلى قوة تتمظهر كحركة في اتجاه معاكس مقابل قوة أخرى؛ اتجاه معاكس لا ينشأ إلا بوجود تلك القوة الأولية. وكأنّ المقاومة -اصطلاحاً- لا تأتي إلا في موقع التأقلم والتكيف والرد، على قاعدة كونها قوة تضادّ سلبي. لهذا يسهل إغفال أن المقاومة هي قوّةٌ مبادِرةٌ فاعلة تسعى لإعادة صياغة معادلات سياسية وعسكرية اعتاد العقل على رؤيتها جزءاً من الحياة والإيقاع اليومي، أو جزءاً من الضوضاء الكامنة في الخلفية، أي تلك الأصوات التي اعتدنا على وجودها حتى أصبح التفكير أو مجرد التفكير بتغييرها محض قفزة سريالية في مخيلتنا، وخاصة مخيلة المحلل السياسي الفلسطيني “العقلاني” و”الواقعي”.

وهنا بالتحديد أتحدث عن أصوات آليات الجيش وهي تدخل المدن والمخيمات والقرى في الضفة الغربية لتمارس إحدى أهم أركان قوتها المانعة والرادِعة لإمكانية نشأة مقاومة منظمة في الضفة الغربية، أي سلطة الاعتقال (من تعتقل ومن لا تعتقل). وهكذا فإن عملية إعادة التفكير في إمكانيات تغييرها -أو ربما تغيير الكيفية التي يمكن فيها إدخال ضوضاء جديدة تحاول إعادة صياغة بناء الإيقاع كله- تصبح أحياناً عمليةً صعبة في مخيلة المُحلل السياسي الفلسطيني والعربي.

ويمكن القول إن الفصيل الأقرب للمقاومة “بمعناها المبادر” أو حتى بمعناها المُطلَق، هو الجهاد الإسلامي؛ حيث المقاومة المُتحرّرة من علاقات كثيفة على الأصعدة المختلفة -اجتماعية واقتصادية ودعوية وخيرية وعلاقات مع دول مختلفة وغيرها. هذه العلاقات التي تزيد أحياناً -على أهميتها- من ثقل اتخاذ القرار بالفعل المقاوم.

وهذا ليس بالضرورة مديحاً أو ذمّاً لهذا الفصيل، ولا تغليباً له على غيره من الفصائل الفاعلة؛ فلكلّ منها رؤيته وسياساته وموقعه التاريخي، وعدساته التي ينظر من خلالها للماضي والحاضر والمستقبل، ولكل من تلك الفصائل أيضاً مسؤوليات سياسية واجتماعية معقدة تُنتِج موقفه السياسي وعلاقته مع زمنية توظيف الفعل، أي المعطيات الحسية التي تدخل في صياغة صنع القرار.

بتعبير آخر، هذا الاندفاع الدائم للمبادرة عند الجهاد الإسلامي هو نتاج سياق النشأة التاريخي لهذا الفصيل، فضلاً عن الرؤية السياسية والتموضع العسكري والسياسي له في السياق الفلسطيني والعربي. وبهذا الصدد تحديداً لا يمكن فصل نشأة الجهاد الإسلامي عن أزمتين؛ أزمة أيديولوجية حلّت في داخل بعض تيارات منظمة التحرير عقب الثورة الإيرانية، والتي ساهمت بإعادة سؤال الإسلام كمحرك ثوري في مخيلة بعض تلك التيارات إلى الواجهة، وكذلك أزمة انكفاء عن المقاومة والمبادرة في سياق الفضاء السياسي الإسلامي في فلسطين، والتي دفعت ببعض رواد تلك الحركات إلى الخروج عن المظلة التنظيمية الأم -الإخوان المسلمين- وإطلاق حركة الجهاد الإسلامي إلى النور.

ويمكن القول إنه ومنذ لحظة النشأة والولادة لحركة الجهاد الإسلامي، كانت إحدى ركائز ومبررات وجود هذه الحركة هي سباقها الزمني على ضرورة عدم تأخير الفعل المقاوم، بل والاستمرار في المبادرة في الفعل المقاوم حين لا يقوى الآخرون على ذلك؛ إما تقاعُساً، أو تماشياً مع واقع سياسي واجتماعي واقتصادي معقد أو غيرها من الأسباب. وبهذا المعنى فإنّ حركة الجهاد تحثّنا وتقول لنا على الدوام: “عليكم بالفعل”، وعندما يسود التراخي السياسي الأجواء ولا تتضح الأمور: “عليكم مرة أخرى بالفعل”، وعندما تتأزم الأمور: “عليكم أن تستمروا بابتكار وتطوير الفعل، حتى لو كان الفعل بأنيابكم”، أي الفعل دوماً والفعل إجابةً عندما لا نستطيع حتى تشكيل الأسئلة.

بالفعل، فإنّ الجهاد أقرب دوماً “للفصيل الذي يسابق الزمن أو الذي يسبق الزمن”، والذي ما يحاول دوماً الإشارة بأصبعه إلى الممكن. وكأنه يحثّنا مُشيراً: “انظروا هناك، تلفّتوا، لربما يكون هناك ما هو ممكن”. وفي هذا السياق، هناك دوماً سؤال في العمل الثوري، سؤال زمني ذو أهمية قصوى في النقاشات التي تجمع المناضلين والمجاهدين والرفاق، وهو: متى يحين موعد القتال؟ متى يحين موعد الثورة؟ متى يحين موعد الفعل؟ متى يحين موعد توحيد الساحات النضالية؟

وفي هذا المضمار، تكاد تكون إجابة حركة الجهاد دوماً وبشكل متكرّر هي هنا والآن. هذه الإجابة المشكّكة بكل ما يمنع القيام بالفعل، هي إجابة تدفع دوماً نحو الفعل والاستمرار بالفعل، أي الدفع دوماً نحو المزيد، نحو مراكمة المزيد. وهذا لا يعيبها؛ فهي بطريقة ما وأخرى تساهم في الاهتداء إلى ما هو ممكن. وهكذا ساهمت الحركة في صياغة تكتيكات مؤثرة من ثورة السكاكين في أوساط الثمانينات وصولاً إلى معركة “وحدة الساحات” في عام 2022. وثانياً، تساهم محاولات الجهاد المتكررة أيضاً بالإضاءة على ما هو غير ممكن أو ما يحتاج إلى تدخلات أخرى، وهو ما له قيمة كبيرة أيضاً في العمل السياسي النضالي.

ثلاث نظريات حول المواجهة الأخيرة

هناك ثلاث نظريات تسعى إلى فهم المعركة الأخيرة في غزة. تقول الأولى أنها مواجهة مفتعلة مخططة مسبقاً من قبل القيادة الصهيونية العسكرية والأمنية مرادها إضعاف الجهاد في غزة، وهو ما يسمح باستمرار التهدئة في القطاع، والتفرّغ للقضاء على حالة المقاومة الناشئة بالضفة الغربية والتي يدعمها الجهاد الإسلامي بشكلٍ خاص.

في حين تقول النظرية الثانية أنها مواجهة إسرائيلية مُعدّة مسبقاً، تهدف إلى تعزيز حظوظ الثنائي “غانتز” و”لابيد” في الانتخابات القادمة، وأنه لا أهداف حقيقة من وراء هذه الحرب سوى أنها تأتي في إطار سياسي يسبق الانتخابات الاسرائيلية، بمعنى الفلسطيني كدُمْية في صراع الانتخابات.

أمّا النظرية الأخيرة، تقول إن المواجهة في غزة أتت في ظل مبادرة فلسطينية هدفت إلى حماية المساحات الناشئة من العمل التنظيمي في الضفة الغربية خاصّة في نابلس وجنين، وإن هذه المحاولة ارتدّت على حركة الجهاد الإسلامي من خلال ضربات متتالية استطاع فيه الاحتلال اغتيال قيادات عسكرية كبيرة من الحركة. بالفعل تكاد النظرية الأخيرة تكون الأقرب للواقع، لعدة أسباب؛ أولها أن الضربة في غزة أتت ضمن تصعيد من المقاومة الفلسطينية هدف إلى ربط اعتقال الشيخ بسام السعدي بساحة القتال في غزة. بتعبير آخر، رفعت المقاومة المسدس على الاحتلال، والاحتلال بدوره اقتنص فرصة رفع المسدس لإتمام ضربات عملياتية استخباراتية، ومنع إعادة بناء معادلات جديدة في الضفة الغربية. وهذا لا يعني أن جزءاً كبيراً من شكل وطبيعة المعركة خاصة على مستوى العملياتي الاستخباراتي لم يُعَدّ مسبقاً.

وفي سياقٍ آخر، هناك نظريتان تؤطّران دور الفصائل العسكرية الأخرى في قطاع غزة وعزوف حركة حماس عن المواجهة أو الدخول في هذه الجولة. الأولى تقول إن مصالح حماس تلتقي مع الاحتلال في هذه النقطة، وبالتالي لم تدخل الأولى المعركة لهذا السبب؛ أي أن حماس لها مصلحة من إضعاف حركة منافسة إسلامية كالجهاد الإسلامي، وهي مغرقة اليوم في اتفاقات التهدئة. أما الثانية، فتقول أن العلاقة بين التنظيمين قوية، وفي ظل ذلك، أعطت حماس مساحة وفضاء للجهاد للمحاولة في بناء تدخل عسكري-سياسي في الضفة الغربية وتوظيف قوته العسكرية في غزة، وهو ما يخدم المشروع بالضفة، على قاعدة أن حماس “تغمز” للجهاد مع إبقاء مسافة من هذه المحاولة، فإن نجحت؛ فإنها تخدم إعادة تفعيل جبهة الضفة الغربية، وإن لم تنجح؛ تستطيع إبقاء مسافة تخدم عدم إدخالها بشكل مباشر في معركة مع السلطة في الضفة الغربية أو الاحتلال في غزة.

ولكن غالبية هذه التحليلات تعزف عن التعاطي الجاد مع مجال الحرب كمجال منفصل عن السياسة، أي عن كون الحرب نفسها موضوعاً منفصلاً قد يتقاطع على قاعدته كونه امتداداً للسياسة، ولكنه يبقى مجالاً منفصلاً يمتلك لغته الخاصة، ومعطياته، وعوامله. بهذا المعنى تحديداً، ما زالت غالبية التحليلات السياسية في فلسطين تغلب من مفهوم “التنافس” الفصائل كدافع أساسي في كل نمط من أنماط الفعل أو العزوف الفعل. وعلى الرغم مما سبق إلا أن هذا النوع من التفسير يعزي لعامل واحد أكثر من غيره من العوامل. فمثلاً وليس حصراً، نحن بالتأكيد لا نعلم مدى الضرر العسكري الذي لحق بالمقاومة بعد عملية سيف القدس، أو قدرتها على صناعة الصواريخ واستبدال ما فقدته في آخر معركة، وغيرها من الأمور التي تتضمن ما إذا كانت المعلومات التي أدت إلى أول ضربة طالت المقاومة في الجولة الأخيرة “معلومة مسبقاً” أو وليدة الساعات تلك. هذه وغيرها من أمور لا يمكن فصلها عن عملية الحكم السياسي، أي أن ما هو عسكري عليه أن يكون جزءاً لا يتجزأ من معادلة الحكم التحليلي نفسه. أما العنصر الآخر الهام المفقود في العديد من البنى التحليلية هي قدرتها على التقاط فاعلية الفلسطيني علائقية المواجهة، أي التعاطي مع كل مواجهة على أنها ليست فقط نتاج رغبات، وأهواء وإرادة وتخطيط فاعل واحد فقط، او الإيعاز إلى فاعل واحد -الاحتلال” قوة” لا يدعيها حتى هو.

ما هو مهم أن القتال الذي حصل في غزة لا يعبّر فقط على تجاذبات داخل غزة، ولا حتى يرتبط بشكل مباشر مع التطورات الناشئة في ملفات الحصار والانفكاك، بما فيه فتح سوق العمل “الإسرائيلي” للعمال الفلسطينيين من غزة وغيرها من المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجتها معركة سيف القدس، ولكن بالحقيقة هناك قتال حقيقي على الضفة الغربية، قتال على ما هو ممكن داخل الضفة الغربية.

سلطة الاعتقال والبؤرية: الضفة الغربية كجبهة غائبة

عندما نتحدث عن الضفة الغربية عادة ما يسود السياق لَوْمٌ وعتاب على خفوت المقاومة فيها مقابل تطور مُطّرد للفعل المقاوم في غزة، تصل بعض تلك التصورات لإيعاز ذلك إلى مكون جيناتي أو شخصية “تنحة” حاضرة في غزة، ومفقودة بالضفة الغربية. على الرغم من أهمية تلك التأويلات الثقافية حول العقل والشخصية الغزّية، إلا أنه لا يمكن بالحقيقة فهم الحالتين دون إحاطة بالتاريخ والجغرافيا والطوبوغرافيا لكل من المنطقتين.

وفي هذا السياق، تمتد مساحة الضفة الغربية وحجمها لما يقارب نصف حجم لبنان، أي إلى 5000 كم مربع، وتتناثر فيها أعداد قليلة من السكان مقارنة بغزة، أي يعيش حوالي 3 مليون فلسطيني في الضفة الغربية ضمن مساحة 5000 كم مربع، بينما يعيش 2 مليون فلسطيني في غزة ضمن مساحة لا تتجاوز الـ360 كم مربع.

ويمكن القول إن إحدى ركائز العمل العسكري في كلّ من الضفة وغزة في مراحل مهمة سابقة استند على “غابات الاسمنت” والكثافة السكانية في عملية صياغة بؤر متحررة نسبياً من سلطة الاعتقال والاغتيال الصهيوني، أي خلق مساحات وفضاءات يصعب دخول الاحتلال وآلياته العسكرية عليها، وبالتالي يصعب على الاحتلال فيها ممارسة سلطته السيادية بمعناها المطلق: الاعتقال والاغتيال متى أراد.

في أعوام التسعينيات خاصة، وبالتحديد بعد اتفاقيات أوسلو، كان لتلك البؤر دوراً هاماً في خلق بيئة مواتية لنشأة تنظيمات مسلحة عسكرية في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، وفي بداية اختلاق أدوات جديدة للفعل المقاوم؛ القنبلة البشرية والكمائن على الطرق الالتفافية، واقتحام المستوطنات والمواجهات على الحد.

لا أريد بالحقيقة اختزال هذا التاريخ الطويل والمهم وغير المدروس بشكل كافٍ حتى الآن. ولكن قد تكون إحدى أهم نتائج الانتفاضة الثانية هو توسّع البؤرة المقاوِمة في غزة مقابل انحسارها بالضفة الغربية وتمكن الاحتلال من القضاء على التنظيمات العسكرية فيها. ولعل انتصار المقاومة في غزة ارتكز على فعلها المقاوم وعلاقتها مع حدود قريبة ومتداخلة كرفح المصرية، فضلاً عن “كثافة الغابات الإسمنتية” في قطاع غزة والمقترنة بكثافة سكانية، وقلة المساحات الجغرافية الممكنة لعمليات الاستيطان الصهيوني وتوسّعه. وبطبيعة الحال تواصلت عمليات البناء والابتكار والاستيراد والصناعة والتدريب في غزة، بينما توقفت كلياً في الضفة الغربية.

ولا بد من العودة إلى العام الماضي، والتي كانت خلالها الضفة الغربية ككتلة سكانية وجبهة جغرافية كبرى أقل حضوراً في المعركة خاصة في معركة سيف القدس. وللدقة أكثر، فإن “إمكانيات” الضفة الغربية وقوّتها الكامنة تفوق بكثير كل أنماط الفعل التي ظهرت فيها آنذاك بالفعل، ولهذا فهي جبهة غائبة دون العديد من المقدرات المباشرة للمساهمة في معارك مهمة كسيف القدس وغيرها.

تعاني الضفة الغربية من فصل جغرافي مع الاحتلال كقطاع غزة؛ حيث أن نقاط الاحتكاك فيها هي نقاط مُعسكَرة ومُعَدَة مسبقاً وتطلب أثماناً عالية، وتعاني بالوقت ذاته من منظومة السلطة والتي تُعرف بأنها بنية سياسية تتماهى وتتعاون مع الاحتلال داخل المناطق الفلسطينية- بنية سياسية لم تكن تستطيع أخذ زمام الحكم إلا بالقضاء على التنظيمات المقاومة عقب انتفاضة الأقصى كما أنها مستباحة من حيث العمل العسكري الصهيوني بما فيه الاعتقال والاغتيال. وفي ظل هذه العوامل التي تسود الضفة الغربية، لا يمكن لقوة مقاومة منظمة أن تنشأ بشكل سريع ومباشر وواضح على المستوى العسكري، كما لا يمكن توظيف التكتيكات الشعبية بشكل مريح كلياً.

بهذا الصدد، تشكل بعض المخيمات وبعض البؤر السكانية ذات الكثافة المعمارية والسكانية مواقع مواتية لنشأة ظواهر مسلحة، كما هو الحال في مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس. ويبدو أنه ومنذ ثلاثة أعوام تحاول بعض المبادرات الذاتية وحركات المقاومة العمل على خلق حالة تنظيمية مسلحة في الضفة الغربية تقتطع بؤراً محرّرة من أنف الاحتلال والسلطة؛ حالة دفاعية بؤرية تقاتل على إمكانية تشكُّل بيئة مواتية بشكل أكبر للفعل المقاوم المنظم داخل تلك الفضاءات. لهذا ارتكزت غالبية هذه المجموعات على العمل العسكري الدفاعي من إطلاق نار مباشر على الاحتلال خاصة في عمليات الجيش المعتادة لممارسة الاعتقال داخل المناطق الفلسطينية. وقد ساهمت هذه العمليات في بناء أثمان متعاظمة للعمليات العسكرية في الضفة الغربية وأضعفت من قدرة الاحتلال على ممارسة سلطة الاعتقال دون مقاومة، أي وضعت عوائق مهمة أمام ممارسة هذه السلطة.

وبالأشهر القليلة الماضية، حاول الاحتلال -وما يزال- القضاء على هذه الحالة من خلال تدخلات متباينة، وقد وصلت النقاشات على ضرورة إعادة عمليات الاغتيال من الجو في الضفة الغربية بعد مقتل الضابط في وحدة اليمام “نعوم راز”. بمعنى آخر، يستمر الاحتلال في تصميم وبناء عمليات وتدخلات في تلك البؤر الناشئة تتضمن: محاولات إيقاف عمليات التمويل، استهداف قيادات او رموز تلك الحالة، المساومة والتفاوض مع هوامشها، فضلاً عن اغتيال معنوي لبعض رواد تلك التجربة، والضغط من خلال العلاقة الوثيقة والتأثير التي تمتلكه رجالات السلطة في تلك المناطق، وصولا إلى عمليات الاغتيال والقتل المباشر.

مقابل ذلك حاولت المقاومة الفلسطينية حماية هذا الوليد الناشئ من خلال ربط الساحات ببعضها البعض؛ أي تعقيد عمليات التدخل الإسرائيلي في البؤر الفلسطينية الناشئة بالضفة الغربية ورفع ثمن هذا التدخل. وقد أدّت هذه المحاولات إلى رفع سقف المطالب حتى وصلت إلى مستوى المطالبة بإطلاق سراح الشيخ بسام السعدي عقب اعتقاله. ولهذا كان من أهم أهداف العدوان الإسرائيلي على غزة هو الإصرار على عملية انفكاك “بين الساحات”، أو الإبقاء على هذا الانفكاك بين غزة والضفة الغربية، كما هدف إلى إيلام رأس الحربة الأساسي في استراتيجية المقاومة في الضفة الغربية الكامن في حركة الجهاد الإسلامي، وبالتالي إضعاف قدرته على الاستمرار بهذا الاستراتيجية المتنامية المرتكزة على خلق فضاءات آمنة للعمل المنظم في الضفة الغربية.

خاتمة

هناك العديد من القضايا التي طرحت في ظل “الحرب” أو العدوان الأخير على قطاع غزة، وعدة زوايا ومحاولات لتحليل مجريات الأحداث ومواكبتها. ولربّما تكون إحدى تلك الزوايا هي منهجية التحليل السياسي للحدث، أو بتعبير آخر، ما هي المركبات المعرفية الضرورية في اتخاذ موقف أو حكم من مُجريات الأحداث؟ خاصّة وأن كل حدث يتضمن العديد من الفاعلين، والعديد من التناقضات، بل أحياناً اكتظاظاً هائلاً في تفاصيل صغيرة وكبيرة، وإنما كذلك العديد من المداخل الممكنة لتناوله. هناك مثلاً العديد من القضايا هنا التي لم نتناولها من مثل دور الوسطاء، والعلاقة بين حركات المقاومة، فضلاً عن عملية نقد ومراجعة الحسابات التي دخلت في صياغة القرارات، والأمن الشخصي للقيادات العسكرية وصولاً إلى دور القوى الإقليمية الأخرى، وحرب الصواريخ مقابل القصف.

ولكن شهدنا العديد من تلك التحليلات التي هي إما جزءٌ من حرب نفسية مغلفة في تحليل سياسي، أو تحليل سياسي متأثر بالحرب نفسية. كما أنه لا يخلو من التحيزات السياسية الفصائلية التي تكثر في أوساط المحللين السياسيين إذ يُبنى الموقف على قراءة تخيّلية للفصيل الآخر نابعة من التنافس الأيديولوجي والفصائلي.

يمكن القول أن الاحتلال حقق بالجولة الأخيرة نجاحات تكتيكية ضمن معادلة المواجهة مع غزة، وفي محاولته “إفشال” استراتيجية المقاومة التي تسعى إلى ربط الساحات، وتوفير البيئة الملائمة لتطور المقاومة في الضفة الغربية من خلال اختبار إرادة الاحتلال بممارسة سلطة الاعتقال في الضفة الغربية وحماية مولود المقاومة الجديد في الضفة الغربية.

وأظهر شكلين أساسيين من التطور في العمل العسكري: الأول، إمكانية الوصول لقادة عسكريين في غزة حتى بعد الضربة الأولى، والثانية تطورٌ في مضمار “الحرب المعلوماتية” و”النفسية” بما فيه في إحالة مجازره إلى قوى المقاومة وتخفيف وطأة الضغوطات الدولية والعالمية على إيقاف العمليات العسكرية.

وفي هذه المعركة، بقي الاحتلال رهين الحرب الجوية دون دخول عسكري بري، وبقي يراوغ في مساحات آمنة، توفر له قدرة الإيلام، ولكنها لا تستطيع حسم أي معركة بالمعنى الاستراتيجي للانتصار. بالوقت نفسه تعاني المقاومة من قدرات مهمة في الحرب النفسية والمعلوماتية، بل أيضاً في قدرتها على التواصل المباشر مع جمهورها. تركت المقاومة فراغات هائلة في تفسير أفعالها ومواقفها دون العديد من التدخلات على مستوى التواصل الاستراتيجي مع جميع الفاعلين بما فيه المجتمع الفلسطيني الأوسع. وقد أظهرت أيضاً ضعفاً في قدرتها على إدارة المعركة وحماية قادتها، وبالتالي حماية مكونات القرار في داخل هيئاتها.

باختصار، لا يمكن لنا مثلاً فهم الأحداث الأخيرة إلا من خلال فهمها على قاعدة محاولات المقاومة بناء استراتيجيات تدخّل ومبادرة في العديد من الملفات من غاز المتوسط وملف الحدود البرية مع لبنان، وصولاً إلى إعادة المقاومة المنظمة إلى الضفة الغربية، وهذا بحد ذاته لا يمكننا القفز عنه في عملية التحليل؛ فهناك مقاومات في المنطقة تحاول أن تغير المعادلات، تدفع باتجاهات جديدة، بل تسعى إلى إعادة صياغة الواقع، واستدخال إيقاعات وضوضاء جديدة على الحياة اليومية في الضفة الغربية لم نشهد مثلها منذ عقدين.