“ما بين نعمان وصالح كما بين المسافة بين بيتيهما في حارة الطحاينة من سيلتهما الأبيّة. ففي لحظةٍ فارقةٍ، أخذ كلّ واحدٍ منهما اسم الآخر، بل وحكمه. صار نعمان صالحاً، وقد أخذ مع اسمه ثلاثين عاماً”.
ما بين نعمان وصالح كما بين المسافة بين بيتيهما في حارة الطحاينة من سيلتهما الأبيّة. ففي لحظةٍ فارقةٍ، أخذ كلّ واحدٍ منهما اسم الآخر، بل وحكمه. صار نعمان صالحاً، وقد أخذ مع اسمه ثلاثين عاماً، وهي المدة التي قضت بها محاكم الاحتلال ليقضيها خلف القضبان، بعد عدّة عملياتٍ فدائيّةٍ نفّذها ضد جنوده ومستوطنيه.
قرّر المحتل الصهيوني الاحتفاظ بالأسرى الخطرين وفقَ اتفاقية أوسلو سيئة الصيت، والتي جرّد فيها المفاوض الفلسطيني أولئك الأسرى من حقّهم في الحرية. وبينما أفسحتْ الاتفاقيّة المجال لإنشاء سلطةٍ فلسطينيةٍ تدير شؤون حياة السكان الفلسطينيين، أخذت مصلحة السجون الصهيونيّة تعيد ترتيب خريطة سجونها، عبر إغلاق سجونها في غزة والضفة، ونقل الأسرى المتبقين إلى سجون الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948.
كان نعمان وصالح طحاينة من السيلة الحارثيّة يمكثان في غرفةٍ واحدةٍ في سجن جنيد الصهيوني في نابلس، حينما تقرّر نقل صالح إلى سجن “كفار يونا” قرب الخضيرة، مقابل نقل نعمان المحكوم أربع سنواتٍ إلى سجن النقب. قبِلَ نعمان عرض صالح أن يخدعا ضابط السجن ويأخذ كلٌّ منهما اسم الآخر. ولأنّ عمليات النقل كانت واسعةً وسريعةً، فقد يسّر الله الأمر، حيث لم يدقّق ضباط فحص الشخصية الفرقَ بين الأسيرين.
وصل نعمان إلى “كفار يونا” حاملاً اسم صالح وحكمه، فيما كان الأمر أكثر صعوبةً على صالح الذي وصل النقب باسم نعمان وحكمه. اضطر صالح إلى عدم مغادرة خيمة الاعتقال باتجاه الساحة لشهورٍ طويلةٍ خشيةَ أن يتنبّه له بعض الأسرى ممّن يعرف كليهما، وممّن يُشتبه بعمالتهم كذلك، ويعرف أنّ الأحكام العالية لم يكن لها متسعٌ في النقب!
دفع ما سبق صالحاً إلى تنفيذ عملية تبديلٍ جديدةٍ مع الأسير عامر زيود. فحينما حانت لحظة إفراج زيود الرسميّة، خرج صالح من الأسر تحت اسمه، وبقي عامر حتى اطمأن أنّ صالح وصل الخليل حرّاً. أعلمَ زيود إدارة السجن بانتظاره الإفراجَ عنه وتأخّرهم عليه.
كانت الدهشة كوقع الصاعقة على إدارة السجن بإخراجها أسيراً آخرَ عوضاً عن زيود، وهو نعمان الذي لم يتبقَ له سوى بضعة أشهر للإفراج عنه. دارت حينها في خُلد إدارة السجن علاماتُ ذهولٍ كثيرةٌ؛ فلماذا يهرب نعمان من الأسر ولم تتبقَ له مدةٌ طويلةٌ؟ لكن لم يدر بخلدها أنّ الهارب بالحقيقة هو صالح طحاينة المحكوم بالسجن ثلاثين عاماً، وليس نعمان! ( طالعوا سلسلة مقالات تاريخ مختصر للهروب من السجن في فلسطين)
كنتُ وقتها في سجن النقب حيثما تحرّر صالح عوضاً عن نعمان وعامر. لكنّ في قسمٍ آخر بعيدٍ، تهامسَ ممثّل القسم بأنّ نعمان هرب عوضاً عن عامر، وهو ما علمه من ضابط السجن. كتمتُ الضحكة في داخلي حينها، وقلتُ في نفسي عندما تنفرج الحقيقة كاملةً، ستنهار إدارة السجن، بل ومصلحة السجون برمّتها.
مرّ وقتٌ طويلٌ، ربما بضعة شهورٍ، ليكتشف المحتل ما وقع فيه من خدعةٍ محبوكةٍ بعناية الله وتيسيره. اكتشف ذلك عبر المخابرات الصهيونية خارج السجن. تناهى إليها، وهي تتعقّب الهارب نعمان، أنّ هذا الحرّ الهارب هو صالح وليس نعمان. حدث ذلك بعد أن اضطر صالح للتحرّك، وشاهده كثيرٌ من الناس في السيلة الحارثية.
واجهتْ المخابرات بذلك فشلاً أمنيّاً فظيعاً، والأهمّ أنها باتت أمام مطاردٍ ليس لديه خيارٌ سوى الشهادة، نظراً لمحكوميّته العالية، فضلاً عن طبيعة شخصية صالح العنيدة. غلبَ على صالح الصمتُ الذي يبوح بالكثير؛ إذ لم يدّخر ساعةً في حياته إلّا واستثمرها في مقارعة المحتل.
قضى صالح معظم صباه وشبابه بين المطاردة أو الأسر، بل إنّ هروبه في ذات التوقيت في مستهلّ تطبيق اتفاقية أوسلو، عنى مواجهته مخاطرَ أمنيةً أكثر تعقيداً. اعتبره الشاباك الصهيوني المطارد الأول في فلسطين. كان مهندس الاتفاقية ورئيس الحكومة الصهيونية “شمعون بيريس” يبادر كلّ صباحٍ بالاتصال بالسلطة الفلسطينيّة لحثّها على اعتقال صالح وتبادل التنسيق الأمني بشأنه.
دفع ذلك السلطة إلى تشكيل جهازٍ خاصٍّ مؤقتٍ لتعقّب كلّ شاردةٍ وواردةٍ عن صالح، بما ضيّق الخناق عليه، حتى تمكّن المحتل من أسره ثم قتله تحت تعذيبٍ همجيٍّ استمر ثلاثة أيامٍ في شقةٍ في رام الله حتّى استشهاده في الأوّل من تمّوز عام 1996. [1] بالمقابل، سجّل الشهيد صالح نجاحه في تأسيس وتفعيل عدة خلايا عسكريةٍ من الخليل حتى سلفيت، مروراً بجنين، والتي نجحت في تنفيذ عدة عملياتٍ فدائيّةٍ.
بموازاة ذلك، أفرغ المحتل حقده على نعمان؛ إذ قدّمه لمحكمةٍ عسكريةٍ زادت حكمه لسنواتٍ إضافيّةٍ. وحينما خرج من الأسر، كانت القضية الفلسطينيّة تقف برمّتها على أعتاب تحوّلٍ كفاحيٍّ شاملٍ ساهم في تفجير انتفاضة الأقصى. نجح نعمان في ما لم يسعف الوقت صالحاً لتحقيقه؛ إذ تمكّن من جعل وسط وشمال فلسطين ميادينَ وساحاتٍ نشطةً في مقارعة المحتلّ.
ساهم ذلك في انضمام كثيرٍ من الشباب الطامح للشهادة إلى “الجهاد الإسلامي” طوال أعوامٍ أربعةٍ، حتى استشهاد نعمان اغتيالاً برصاص القوات الصهيونيّة الخاصة في مدينة جنين، ظهيرة يوم 13 تموز 2004. عقب استشهاده، تراجعَ حضور الحركة لفترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ نسبياً. تبجّح الصهاينة حينها أنه باغتيال نعمان طحاينة واعتقال رفاقه، نجح في القضاء على أهمّ نواةٍ قياديةٍ في الحركة منذ بداية الانتفاضة.
وسط كلّ هذا، استغرب كثيرون كيف قبلَ نعمان البقاء في الأسر عوضاً عن صالح، فيعيش في الأسر بنفسية المحكوم بهذا القدر العالي من السنوات. كما اندهشوا من انسجام والدته المضحية مع هكذا حالٍ معقّدٍ أمنياً حالَ دون زيارته؛ إذ لاذت بصمتٍ مطبقٍ حيال مجمل وضعه الاعتقالي.
وكان السؤال الأهمّ في مجمل هذه العملية يدور في عقل صالح ونعمان والمجموعة القيادية من الأسرى التي رعت العمليّة بجملتها. كيف كان الاستمرار في تبديل الأسماء ممكناً، مع احتمالٍ قويٍّ لوجود أسرى عملاء داخل السجنَيْن ممّن يعرف شخصيتهما بالاسم والصورة، خاصةً أنهما يمكثان في ذات الغرفة أو الخيمة.
حقّقت الحركة الأسيرة بذلك قهراً للسجان، معلنةً انتصارها الأمنيّ على إجراءاته الأسطورية. فبينما تملك الدولة الصهيونيّة أحدث أجهزة التقانة وأخطرها، فضلاً عن شبكات تجسّسٍ رهيبةٍ على مستوى العالم، إلا أنها فشلت داخل زنازين سجونها في كشف مخطّط صالح ونعمان.
إنّ نجاح نعمان وصالح في عملية التبديل، ثم استمرار كلّ واحدٍ منهما باسم الآخر لشهورٍ طويلةٍ، برفقة أسرى يعرفون الحقيقة، وعددهم ليس بالقليل، يؤكّد مستوى السلامة الأمنية للزنازين التي جرت فيها العملية. يعيدنا ذلك إلى ذاكرةٍ طويلةٍ من عمليات الهروب من الأسر الصهيوني، كتبتْ أجسادَ الأسرى كوسائل نضاليّة في استرداد حريّتهم، واختراق زمن الاعتقال الصهيوني.
فرغم كلّ القيود المحاطة بالأسرى، وتمثيل “الجهاد الإسلامي” الفصيلَ الثالث في الأسر، الأمر الذي لطالما حرمه من امتيازات التمثيل الاعتقالي التي تساعد قيادة الفصيل على سهولة التحرّك داخل الأسر، إلا أنّ ذلك لم يمنع كوادر الحركة من النجاح في الهرب. إذ يشهد التاريخ حفر نفقٍ طويلٍ في سجن “كفار يونا”، وهرب أسيرين آخرين عام 1995، وصولاً إلى عملية الهروب التاريخيّة لغرفةٍ كاملةٍ من أسرى الحركة في سجن غزة المركزي عام 1987، وهي العملية التي تدحرجت عبرها صخرة الانتفاضة الأولى.
أيضاً على باب الواد: “زَي اللي بُنقُر جبل بإبرة”: الهروب من سجن كفار يونا
[1] أُعلن عن استشهاد صالح الطحاينة في الرابع من تمّوز 1996، فيما تبيّن أنّه استشهد قبيل ذلك بثلاثة أيام.