الصورة من تصميم: محمد أبو الخيران
في السادس من حزيران عام 1967، وحين تناهت إلى المسامع أخبار احتلال ما تبقّى من فلسطين، سارع فايز إلى الانضمام للدفاع المدني، لم يكن قد مرّ على قدومه البلادَ أكثر من أربعة أيام، في مصرَ، كان يدرس الطب البيطري، واحتفاءً بقدومه، أعدّت له والدته الجدّة أم محمود مقلوبة بالزهر -الكل بحلف بزكاوتها- قلبوا المقلوبة على السفرة الأرضية، تحلّقوا حولَها، ولم يعلموا أنّ الوقتَ أضيقُ من لقمةٍ مختلسةٍ.
فجأةً، اشتدّت الأمور، وتناهت إلى المسامع أخبار اقتراب الصهاينة، قام الجدّ أبو محمود من مكانه وأمر الأهلَ بأخذ الضروريّ من حاجيّاتهم، وقبلَ أن يهمّوا بمغادرة دارِهم وسطَ البلد، في منطقة الزاهد بالبلدة القديمة في الخليل إلى أيّ مكانٍ تأخذهم إليه الريح، عرضَ جارُه أن يذهبوا جميعًا إلى كرمه في بيت عينون على أطراف الخليل الشرقية، وحدّثوا أنفسهم بأنّ مزرعة الدجاج الموجودة في الكرم تكفي احتياجاتهم، فلا يموتون جوعًا مهما استمرّت الأحداث وطال بهمّ المحطّ هناك.
ذهبوا جميعًا، وظلّ الراديو مفتوحًا على الأخبار، تتراءى إلى أنظارهم طائراتُ الاحتلال وهي تحطّ على ارتفاعات منخفضة في المنطقة، توجّسوا، لكنهم ظلّوا في مكانهم مستترينَ في خضرةِ الكرم وأشجاره.
تناهتْ إلى مسامعنا أصوات المكبّرات تحثّ الناس على المضيّ من هنا، “إذا عندك ابن أو بنت بتخاف عليهم اطلع من هون”، فيما طائرات الاحتلال تحوم في المنطقة، كانت تلك النداءات ممّا يبثّه الاحتلال إلى الأهالي يقذفُ الرعبَ في أنفسِهم، ثمّ بدأتْ أصوات الانفجاراتِ تتابعُ إلى الأسماع، كان الجدُّ أبو محمود صلبًا، ينسلُّ إليه اللين بين فَينةٍ وأخرى، يعبثُ به أدنى خاطر، فتعجبُ من تراوحِ الأضداد فيه!
جاءه ابنُه محمود محمولًا، عام 1963، وعلى قولِ مَن قالوا، فإنّه مات غرقًا في بركة سباحةٍ تتبعُ الجيش الأردنيّ في الزرقاء؛ أثناء خدمته هناك كقائد سرية، وصلَ الخبرُ مع وصول الجنازة العسكريّة أطرافَ البلدة القديمة. بعد وفاتِه، أخذ الجدُّ أبو محمود حفيداتِه عبلةَ ومريمَ لتعيشا في كنفه جنبًاً إلى جنب مع ابنته فايزة.
* مشاهد من الجنازة العسكرية للراحل محمود النتشة عام 1963 – أرشيف العائلة.
بعد هذه الحادثة، لم يعد قلبا الجدّ أبو محمود والجدّة أم محمود يقويان على خسارة أخرى، غلي القلبُ على العائلة: الامتداد: فايز وحمدي، وماجد وفايزة الذين كانوا أطفالًا ما يزالون، فضلًا عن بنات ابنِه محمود، قال بصوتٍ ناشفٍ: “كلّها كم يوم وإن شاء الله بنرجع”.
ركبت عائلة الجد أبو محمود وجاره في “بيك اب” زرقاء، رغم أنّ حزيران كان قد شمّرَ عن ساقه، إلّا أنّ “سقعتها كانت بتقصّ المسمار” وألبست الجدّة كلَّ أطفالها ثلاث إلى أربع طبقاتٍ، خوفًا من برد البرّيّة، ولِيَسْهُل الحمل إلى الأردن، وُضع الأطفال جميعًا في خلفية السيارة، يبكون شدّة البرد والخوف معًا، وحين وصلوا نواحي سعير، مرّت مجموعة سيارات “بيك اب” تابعة للجيش الأردنيّ، أبطأتْ إحداها قريبةً من “بيك اب” العائلتين، وقال أحد الجنود “لا تخافون يا عمّو، إحنا رايحين نقاتلهم” بلهجةٍ أردنيّة واضحة، ثمّ أسرعت الـ “بيك اب” مرّةً أخرى وابتعدت قرابة 500 متر، لم تمهلها قذيفة حطّت عليها، فقضى جميع الجنود شهداء.
بعد هذا المشهد، أسرعت العائلتان في طريقهما عبر حقول القمح المحترقة والجثث المتناثرة نحو جسر الأردن، لم يكن قطع النهر تُجاه الأردن صعبًا، فالجسر لم يزل قائمًا، بعدما مرّت الكثير من العائلات، قصفت طائرات الاحتلال جسر الأردن خلال أحداث حرب الأيام الستة، وبعد أن حطّت أقدامهم في الأردن، جفل قلب الجدّ من أنْ يكون هذا آخر عهدهم بالبلاد.
مكثت عائلة الجدّ أبو محمود اثنين وخمسين يومًا في دار شقيقته بالأردن، وحين علموا أنّ عائلاتٍ كثيرةً رجعتْ تهريبًا، -وهل يتسلّلُ الإنسان إلى وطنه!- شبّ الحنين في صدر الجدّ أبو محمود، قرّر أنّ العودة حانت، انطلقت العائلة فجأةً تجاه الأغوار، طريق العودة إلى البلاد كانت أكثر صعوبةً منها وقت اللجوء إلى الأردن؛ اضطرّوا إلى المشي مسافاتٍ طويلةً قبل وصول النهر، هدير النهر يعلو، كان عرضُه كبيرًا؛ ما سيضطرّهم لقطعه كلّه بعد أنْ فُجِّرَ الجسر، مشَوا جانبَ النهر بحثًا عن عمقٍ أضيق، حتى وصلوا المكان المطلوب، كان ينتظرهم، على الضّفّة المقابلة، ابن عمّهم المهرّب أبو شاكر. ولما همّوا بقطع النهر، سمعوا خطواتٍ قادمةً قريبةً لم يتبينوا مصدرها من طول الأعشاب، ثم لاح صوت يصرخ “يا نازل الميّ تعال جاي، يا نازل الميّ تعال جاي”، جفلت الجدّة أمّ محمود، وقالت “آخ يا قلبي، راح كلّ اللّي راح وهي الموت هون جايينا جايينا”.
ولمّا اقترب الصوت، فإذ جنديّان أردنيّان: “وين رايحين؟”
– “والله رايحين على البلد”
– “مين إنتو؟ ومن وين؟”
– “أنا محمّد أمين النتشة وهاي عيلتي، وإحنا من الخليل.”
– “النتشة؟! عبد المغني النتشة شو بكونلك؟”
– “إذا قصدك أبو جواد فهو من العيلة من أولاد العم، وإذا قصدك أبو عليّ فهو أخوي ابن أمي وأبوي”
– “وصلت وصلت يا عمّي، بحكي عن أبو علي”.
وجرّ حديثٌ حديثًا آخرَ، فعرفوا أنّه والد زميلهم محمود، رحمه الله، هدأ قلب الجدّة حجازيّة قليلًا، ساعدهم الجنود مع المهرّبين في قطع النهر، وصلوا البِلاد بسلام، ثمّ عادوا أدراجهم إلى الخليل، ولمّا وصلوها وشمّوا هواءها تنفّسوا الصعداء، وعادوا إلى دارهم في الزاهد، في حارة السواكنة في البلدة القديمة في الخليل، وكان صدر المقلوبة كما تركوه، لم تؤكَل منه لقمة، والغبار يغطّيه ويحيطه، جلسوا جميعًا، وارتاح قلب الجدّ أبو محمود، لم يكن يتخيّل أن العودة ممكنةً بعد أن حطّت أقدامه أرض الأردن؛ لكنّ هوا البلاد غلّاب.
مشهد من مشاهد عبور النهر عام 1967