هذا النص رسالة متخيلة، إلى مقاتلٍ بقلبٍ حُر يقف على التخوم فجر السابع من تشرين الأول 2023، منافحاً عن كرامتنا في وجه عالمٍ أمعن في سفح الدم باسم «الحضارة الإنسانية»، يكتبها إنسان يُجايِلُ المقاتل، يتلقّى فعله في ذهول ساعياً إلى تتبع سرّ القلب الجسور التماساً للطريق نحو حرية القلب في زمنٍ أكثرُ قواه يشغلها سَلْبُ القلب حريته وإشغاله إهلاكاً بوهم الرفاهية عن معركته الأولى في التحرر من غطرسة المحتل.
وهي تأملٌ في ذاتية القلب الواحد ضمن نسيج القلوب المتآزرة معه تستنبت الأمل والثبات في تطويع الموضوعي وإطلاق ممكنه؛ الذي هو في منتهاه أقصى ما يبلغ القلب في رحلته هذه، يتوطّن على الإيمان أولاً ودأب السعي في كل تمثلاته ثانياً.
وهي أخيراً رسالة تُحاكي تفاصيل زمنين يقعان في الآن، زمن المقاتل وزمن مجايله المُتَلَقي للفعل بالتساؤل الحي.
(1)
السلام على المقاتل، سَلاماً مُسْبَغَاً من ربِّ القوة والثبات والبأس الشديد ..
أدري أنك تستقبل الزمن الذي تتوق إليه نصراً وشهادةً وتُدبر عمّا سواه من فانيات الدنيا ومنها هذه السطور، في قتالٍ باسلٍ يُغني عن كل الكلمات، وما حيلة الذي لا بندقية بيده سوى الاستئناس بأثر البندقية تُثْخِنُ في العدا، أَشْرَعَها قبل اليدين قلبٌ صادقُ العزم نبيل المقصد سماويُّ البصيرة. قلبٌ استبطن آيَ الكتاب ثم أطلقها في الوجود ناراً وثورةً انتصاراً للحق قابضاً ببأسه الشديد على زمنه الآني والآتي، يُخَلِّقُه مع كل فجرٍ في صمت حازمٍ مؤمنٍ لا يلوي على شيء.
إني آتيكَ في هذه السطور أستظلّ بك تَعُلُّمَاً وتأسّياً، وأدري أنكَ في مَشْغَلَةٍ أسمى وأجلُّ تتخفف بها من أثقال غايات الدنيا، باذلاً رجاءاتكَ في الإثخان والجنان.
آتيكَ وقد رَفعْتَ لغتنا من المحكي العادي اليومي إلى السماوي الذي تتوق إليه، وقد أودعتَ في قلوبنا إقبالكَ علينا بالحُب والفداء إذ تُدير ظهرك للمال والولد، وتستقبل الميدان إحقاقاً لِشِرْعَة السماء في انتزاع الحق. يا نبل قلبكَ نتلمسهُ في انسياب دموعنا فرحاً، وفي التئامنا حول الصوت والصورة مذهولين من حقيقة صنعتها بيديك فاقت كل ما تخيلناه يوماً، وفي استبشارنا بقرب الموعد مع نسيم البحر وباب المسجد ونقاء الصحراء!
يا نبل قلبك يهبنا هذا، ذاهباً للفداء يتبع خُطى الأنبياء، حُرَّاً من تشبّثٍ يُقْعِد عن الإقدام، مُراغماً يخوض الحياةَ من امتدادٍ لامتدادٍ دون أن ينغمس فيها فتشْغَلَه عن توقه الأعلى ودون أن يُعرِض عنها فيُرمى قتاله بفرية اليأس والقنوط.
إنَّ في اللغة ربكَةً لا تستقيم إلا ببلوغ منزلة الصمت التي أنت فيها، وإنَّ في الجرأة على الرسالة تقصيراً لا يُجْبَر إلا باقتفاء الأثر وبذل ما يتمم السعي، والوفاء لجسارة الخُطى وصدق الغاية وما كانت عليه جِبِّلَة القلب حتى بلغ المنزلة. منزلة الجسارة وخوض الوجود وتطويعه ليقف مشدوهاً أمام قلبٍ لم ينل منه اليأس؛ لا يأس الضنك ولا يأس البذخ.
أما بعد:
كان ظلُّكَ شمسنا في السابع الأغر من تشرين الأول، تيمّم وجهكَ شرقاً والظل يمتد غرباً دِثاراً ورايةً ونوراً هادياً لنا، نحن الذين كنا نياماً عاديين يرسمون خُطى اليوم العادي، يؤرّقهم ألّا أفق!
لكنك وما تركت فينا ما يدل عليك إلا ظلك يدلل على وجهتك وفعل يديك يدلل على غايتك، فإنك مع أول الخُطى على الرمل كنت تقبض حركة التاريخ بين يديك، وتدفعها لذهولٍ لم ينته بعد. تفلق ظلمة الانسداد بعصا المآرب الكبرى أن هاكم الأفق.
تقلب دورة الزمن، وتعيد رسم الوجود كله بخطوك على الرمل؛ الخطوُ الذي مرَّغ الغطرسة في الوحل، وأعاد لنا عياناً تجسيد أن «هذا الوحش وهمٌ من غبار». خطوتَ يا أخي فرفعت فينا ما كان أمنيةً في الحشا، تتسيد الفعل بإرادة تكسر دائرة الضحية والجلاد، وترسم موجاً حراً يصير طوفاناً، وطوفان صاحب الحق يُنتزع لا يستجدي.
خطوتَ فحسب يا أخي، لكن المعنى والمبنى في الخطوِ هنا ليسا ما اعتاد عليه اللاهثون سرعةً خلف خطوات تستعبدهم. خطوت فأَسْقَطتَ من وعي الحرّ عياناً شر القهر والاستعباد، صغّرتَه وأعليت قيمة المؤمن العنيد البسيط، يخطو فيربك التاريخ!
كُثُر قالوا لنا عن الأمل والممكن والحرية والبلاد، لكن كل هذا كان إيماناً ثاوياً بعيداً أقرب إلى حلم نتأرجح في الظنون حوله، مرة ها هو قريب ومرة نراه تحت وطأة الشرور كانفلات ذرات الرمل في ريح الصحاري. لكن خطوتك في أوّلها جعلته إيماناً يُرَى ويُلْمَس باليدين، وفي آخرها جعلت قلوبنا تلتفت من غفلة المادي الملموس إلى يقظة الروحي المبصر، يعرف آخر الطريق بنور الحق وهو لا يزال يشقه في وعورة الزمان المستحيل.
خطوتك في منتهاها لم تكن فحسب إلى أين ستصير مآلات الجغرافيا بها، بل كانت تلد سؤال البصيرة: ماذا كان رِيُّ قلبكَ في زمن كل ما فيه مُرْجِف؟ كيف اهتديت يا أخي لهذا الإيمان الذي ثبت في وجه كل الرياح والزلازل ولم ينزل عن الجبل؟ كيف أسكنتَ في قلبك النبيَّ حتى رأيت البُشرى زمناً قبل أن تستلها من غسق الليل؟
بأي قلب انسلخت عن هذا الزمان الذي نُقاتَلُ فيه لئلا نتيقظ، وكلما أتت موجة من يقظة جاء معها طغيان يسعى ليُبدّدها، بأي قلب رأيت مجهرياً كل هذا ولم تلتفت إليه وغصت تحت التراب تؤلف المجد؟
يا أخي، يا أيها المقاتل العالي، حُرَّاً من شهوة الاسم والمنصب والسبق، ما أكرمك!
أحييت فينا بقوة الإعداد وفصل الخطاب ممكنَ البصيرة المؤمنة التي لا ترتجف، ووضعت بين أيدينا الأفق أن آمنوا تأتي بين يديكم موضوعات الوجود طائعة.
أخذتنا من أيدينا لنرى لا فعلك على الأرض فحسب، بل فعلك في ميدان القلب من قبل.
لم يكن سهلاً أن يكون هذا لولا ما أتيت إعداداً في صمت السنين الطوال قبل أن يأتي يوم كان ظلك فيه شمسنا لا ليضيء لحظتنا بل ليضيء ما طُويت عليه فضاءات قلوبنا!
يا أخي المقاتل، يا ابن بيتٍ من بيوتنا، فيه إبريق شاي وكؤوس شفافة، وصورة الجد الراحل وتذكار التفوق في المدرسة وكرة تتقاسمها أرجل اللاهين في الحي، وفيه قميص مكوي على أهبة الفرح، وطفل يحمل اسم العم الشهيد، وصالون تدور فيه حكايات البلاد، وهاتف يرن فيحمل اجتماع الشمل المشتّت في أصقاع الأرض على موجة صوت، ودمىً وحلوى وخيوط الأمهات وورداً في الفناء وهمسات الالتفات للابن الذي صار بسرعة زين الشباب!
تعلو في الحب حتى الفداء، يا أخي، يا ابن بيت يشبه بيوتنا، فتذهب عالِماً أن قد لا تعود، وقد لا يُسجَى الجسد في تراب يعرفه المشتاقون فيصلون قربه، وقد يظل القميص مكوياً للأبد على أهبة الفرح.. تذهب وأنت الذي خبرت نار الحرب وألمها ولا يُقْعِدُكَ هذا عن ثأرك، فيما يقعدنا السؤال والذهول أن: كيف بلغت ما بلغت؟ لا أسطرةً؛ إنما أي أفق في نفسك وصلت وأي مرتقىً ارتقيت؟ حتى صار كل شيء عزيزاً على القلب لكنه لا يعلق به ولا يُعلّقه.
أهذا مذهب القلب حين يريد أن يكسر قمقم الزمن القاهر ويطلع إلى زمن حر حي نقي لا يكدره هدر حيوات وكرامات الناس؟ زمنٌ نقي من تخمة الأحلام المريضة الخانعة، أقصى أفق لها لا يعلو فوق الجدار الأصم والسياج الجارح.
تخلق زمانكَ وتعيد الوجود إلى نصابه مرغماً، بعينين مفتوحتين ويد عليا؛ لا هوان ولا رجفة شك!
يا أخي، يا ابن بيت من بيوتنا، واقفاً على أرضنا تستقبل الشمس، تعيد للزمن معناه بلغتك وتحطم ذاكرة التأرجح وتبني ذاكرة الثقة والجسارة، وتطهّر بالعنف المقدس وعينا من خرافة المسافة بيننا وبين الحلم، وتؤسّس به سرعةً لنا نحن المقهورون، تحرّكنا فتنفض عنّا غبار الشك وتؤرّخ أمامنا أن دائرة النكبات تشظّت إلى الأبد. وفي سرعتنا تلك التي أسّستها تدفع بنا للعبور خلفك مُنعتقين في دواخلنا نحيا رؤية الحديد يذوب بين يديك، وأنّ الدم المتغطرس يُسفك انتصاراً في وجه القاتل الأبيض الساخط من شموخ العبور واليد الطولى.
يا أخي المقاتل، يا ابن بيت من بيوتنا، أراك تمدُّ يداً من حنو ومواساة تهون ما أثقل الكاهل دماً ودماراً، وتكمل العبور الجسور يعض على الجرح ولا تندى منه أنَّة لنكمل خلفك العبور. تُدَكُّ الأرض ولا يتزلزل العبور بل يزداد بأساً. وأنتَ أنتَ يا أخي، يا ابن بيتٍ من بيوتنا، كنت تستقبل الصباحات بالصلاة وأهلها ومجلس الفطور والزينة أمام المرآة قبل يوم الكد، وصرت تدري أن كل شيء سُوِّيَ بالأرض لكنك ما زلت تنهض بنا، وتعلِّمنا كيف نعض على الجراح فلا ننكث غزلنا، ونواصل.
وإذ أنت واقف تستقبل الشمس، الزمن بين يديك والتاريخ مُولٍّ وجهه إليك والشرّ ذاهل أمام الشجاعة المتعالية تذري في الريح كل ترسانة القهر الأبيض الجاثم على صدر الإنسان منذ دهر، تفتتح طريقاً يحرر لنا مستقبل الأيام من علائق الماضي الذبيح، أنْ هذا الطريق فامضوا.
يا أخي المقاتل، يا وجه الفدائي الذي لم يَذُب ولم يغِب، سلام عليك قد التأمت تشظيات نفوسنا، وقد أيقظتنا من نومنا العادي على أفقٍ مفتوح، خطير لكن لا يستحيل عبوره، وقد أنزلتَ الوجود منازله فيعرف بك المرء على أي شيء يكون الأسف.
يا أخي المقاتل، من يديك العاديتين في نهارات الكدح، انبلج نور صادق جَلَى كل ما أوهمنا أنه نور، ونسف في وعينا كل البُنَى التي ما كان همّها إلا أن تصرفنا عن وجهة الأرض والشمس والدم.
إلى أن نلقاك على ما فارقتنا من أجله، أوفياء، سلامٌ عليك في العالمين!