يخاف الجنود إذن، من خذلان الآخرين، من القتل قاتلاً أو مقتولاً، ومن الاتصال الأول بالنار، من الفجوة بين المتوقع والحقيقي، من العزلة، ومن الذكريات (الخوف الذاتي الاسترجاع)، من خوف الآخرين معي، الخ. لكن، ما هو الخوف عملياً؟ 

الجزء الثالث.

ما هو الخوف؟

يخاف الجنود إذن، من خذلان الآخرين، من القتل قاتلاً أو مقتولاً، ومن الاتصال الأول بالنار، من الفجوة بين المتوقع والحقيقي، من العزلة، ومن الذكريات (الخوف الذاتي الاسترجاعي[1])، من خوف الآخرين معي، الخ. لكن، ما هو الخوف عملياً؟ 

في علم الأعصاب، إن ما نطلق عليه نحن الخوف، ما هو إلا اللحظات التي تبعث فيها الأميجدالا برسائل عاجلة إلى معظم أجزاء المخ، التي تثير إفرازات في الجسم – هرمونات، وتجنّد مراكز الحركة -أضرب أو أهرب- وتنشّط الجهاز الدوري (cardiovascular system)، والعضلات، والقناة الهضمية.

كما تبعث دوائر كهربائية (دارات عصبيّة) أخرى من الأميجدالا إشارة عاجلة إلى هرمون النوريباينفرين (norepinephrine) لوضع مناطق المخ الرئيسية في حال استعداد، بما فيها تلك المناطق التي تجعل الأحاسيس أكثر يقظة، مما يؤثر في المخ ويدفعه إلى حافّة الانفعال.

وتبعث الأميجدالا أيضاً بإشارات إضافية إلى جذع المخ، فيستقر على الوجه تعبير الفزع، وتتجمد الحركات غير المتصلة بالعضلات، وتتسارع ضربات القلب، ويرتفع ضغط الدم، ويبطؤ التنفس. وهناك إشارات أخرى تلفت الانتباه الشديد إلى مصدر الخوف، وتجهّز العضلات لرد الفعل وفقاً لما يقتضيه الموقف. وبالتزامن مع ذلك، تتحول أجهزة الذاكرة القشرية (cortical memory system) لاستدعاء أي معرفة متصلة بالحالة الطارئة الراهنة، ليكون لها الأسبقية قبل استجماع خيوط التفكير[2][3].

ما الأميجدالا؟ أو بالأحرى، لماذا يحصل كل هذا عندما نخاف؟

مصطلح الأميجدالا (amygdale  أو  amygdala) قادم من اللغة اليونانية ويُعنى به حبة اللوز. في العربية، يستخدم مصطلح النتوءات اللوزية لقول الشيء ذاته. ولدى كلّ منّا اميجدالتان توازي كل منهما الأخرى في أقصى جذع المخ بالقرب من قاعدة الدائرة الحوفية، في الطبقات تحت القشرية من الدماغ الأمامي.

تقليدياً، عرفت الأميجدالا بدورها في عمليتي الشبق والإباضة، وكان هذا هو كل ما نعرف عن هاتين اللوزتين[4]. إلا أنه كان علينا الانتظار حتى ثمانينات القرن الماضي لنرى كيف تلعب الأميجدالا دوراً أساسياً في المشاعر، وشعور الخوف بشكل خاص.

كان ذلك على يد عالم النفس الأمريكي المتخصص بقضايا الذاكرة والمشاعر جوزيف لودو الذي أظهر لنا عام 1991 كيف تحدد الأميجدالا أفعالنا العاطفية قبل حتى أن يعي العقل ما الذي يحصل! هذه عمليّة معقّدة وتحتاج إلى شرحها مباشرة بعد الانتهاء من هذه الفقرة، إلا أنها أيضاً عملية ممتعة وجميلة ستذهب بعد أن تتمكن منها إلى أقرب باب أو سلّم طوارئ، وستحاول عبثاً أن تقنع نفسك بأن لا وجه شبه بين الأمرين.

المهم أنه وبعد هذا الاكتشاف لـ لودو، تحولّت الأميجدالا إلى تربة خصبة للأبحاث العلمية. أعمال بحثية جديدة أظهرت أيضاً أن الأميجدالا جزءٌ بالغ التعقيد والحيويّة مرتبط بمناطق أخرى من الدماغ بشكل قوي، وأنها تلعب دوراً آخر أساسياً في بعض الاضطرابات السلوكية عند الخوف، أو التوتر، أو الكآبة والتوحّد، الخ[5].

كيف تعمل الأميجدالا عند الخوف؟

بعد أن يستلم المهاد (thalamus) الإشارات الحسيّة السمعيّة أو البصرية من الخارج، يترجم هذه المعلومات إلى لغة الدماغ (langue cérébrale) ويبعث بها إلى القشرة الدماغية الجديدة (néocortex) بهدف تحليل هذه المعلومات ومن ثمّ، إعطاء القرار بالاستجابة المناسبة للظرف في تلك اللحظة، فإذا كانت الأمور تتطلب استجابة عاطفية، تُرسل القشرة الجديدة إشارة إلى الأميجدالا من أجل تفعيل المراكز العاطفية المطلوبة، فنرى على سبيل المثال تعريف الخوف الذي بدأنا به هذا الفصل من الدراسة ماثلاً فينا أو أمامنا.

هذه العقلانية وهذا التأنّي هو ما يحصل وما يجب أن يحصل طوال الوقت، إلا أن جوزيف لودو لاحظ (في حالة الخوف) مجموعة صغيرة من الدارة العصبيّة (رسالة المهاد إلى القشرة الجديدة) تأخذ طريقاً مختصراً إلى الأميجدالا دون المرور بالقشرة الجديدة، وهو ما يسمح باستجابة أسرع لكن أقلّ دقّة، لأن الأميجدالا ليست مركزاً لتحليل المعلومات وإنما لتوزيع الأدوار والأوامر، وهذا يفسّر مرة أخرى لماذا يتقدّم تجلّي الشعور بالفرار على إدراك ماهيته كرعب.

والحقيقة، أنه بهذه الطريقة التي تعمل بها هاتان اللوزتان، واللتان نشترك بهما مع الكائنات الحية الأخرى، نفذنا من الموت المحقق مرات عديدة كان علينا فيها القفز بعيداً عن مصدر الخطر قبل التأمل فيه وتحليل احتمالات النجاة أو الموت. إلا أن السؤال الذي راودنا عند الحديث مع الجنود عن عملية صناعتهم كجنودٍ، هو: هل تصلح هذه الطريقة في القتال؟ هل تنقذ الجنود من الموت فعلاً، أم أن الأميجدالا هنا تنقلهم من “الدلف” (الخوف) إلى “تحت المزراب” (الموت أو التصرف الخاطئ) ؟ ويبدو أن هذا السؤال هو نفسه اجابته، ليس مسموحاً للجندي أن يتخذ قرارات خاطئة، كما أنه، ليس مسموحاً له أن يموت، ولذلك، على معجزة ما أن تتحقق هنا، كأن يتم الحفاظ على الدارة العصبيّة الأولى من المهاد إلى القشرة الدماغية الجديدة إلى الأميجدالا لكن بسرعة الدارة العصبيّة الثانية من المهاد إلى الأميجدالا مباشرة، لكن، هل هذا حقاً ممكن!

نعلم مسبقاً أن أثر “الثقافة” على “البيولوجيا” (الانسان) كبير إلى حد لم نكن نتصوره، وهذه بكل الأحوال القضية المركزية الثانية في حقل “الآنثروبولجيا الإدراكية”، في حين الأولى هي مرونة الدماغ البشري وإلى أعمار متأخرة نوعاً ما. أو بكلمات أخرى، يمكن نظريا وتقنيا التدخل لإحداث تغيير ما في الضبط الطبيعي للإنسان، لكن، هل تبقى هذه القاعدة صالحة عند الحديث عن المشاعر، وشعور الخوف بالتحديد، علماً بأن الغالبية العظمى في حالات الأخير هي حالات غير مصطنعة ولا يمكن تجنبها.

وبالرجوع إلى تعريف ستيفين جون سافيل له، فالخوف هو عمليا الفجوة بين الخطر وبين الطريقة التي تم تخيله بها[6]، ثم أن هذا التعريف للخوف أو فكرته، عادة ما تتم الإشارة به في الأدبيات العسكرية إلى أمرين، الأول، طبيعة ومغزى التدريبات العسكرية للجنود، أما الثانى فهو اعتماده كسبب للاضطرابات النفسية (Posttraumatic Stress Disorder). كيف يتدخل الجيش اذن، وما طبيعة الآليات التي يعتمدها في صناعة جنوده، وبالتالي، في عسكرة مشاعرهم – خوفهم؟ هذا ما سنتبينه في الفصل الخامس والأخير في هذه الدراسة.

شكل رقم (4): تشريح النوبات[7]

تابع/ي القراءة: عسكرة المشاعر في الجيوش الحديثة: معنى أن تكون جندياً (5)

*****

الهوامش:

[1]  حصلت هذه الحالة مع أحد الجنود الذين قمنا بإعادة بناء سيرهم الذاتية.
[2]  جولمان، دانييل، الذكاء العاطفي، عالم المعرفة، 2000، ص: 36.
[3] LeDoux, Joseph, Emotional Brain Revisited, Copernicus Center Press, 2014, pp : 41-42.
[4]Kawakami, Masazumi ; Seto, Katsuo ; Terasawa, Ei ; Yoshida, Kazuchika, Mechanisms in the Limbic System Controlling Reproductive Functions of the Ovary with Special Reference to the Positive Feedback of Progestin to the Hippocampus, 1967.
[5] Adolphs et al., 2005; Bishop et al., 2004; LeDoux, 1998; Mah et al., 2007; Spezio et al., 2007; Truitt et al., 2007; Williams et al., 2006 : Cited in : Johnson, Ryan ; Breedlove, S. Marc ; Jordan, Cynthia, Astrocytes in the Amygdala : Hormones of the limbic system, 2010, pp : 23-24.
[6] John Saville, Stephen, Playing with fear: parkour and the mobility of emotion, Social & Cultural Geography, 9 : 8, 2008, p. 95.
[7]  مصدر سابق، الذكاء العاطفي، 2000، ص: 39.