كانت هذه الأخبار آخر ما ينقص المقدسيون بعد الحرب النفسيّة التي مارسها الاحتلال بسحب الحواجز الحديديّة ظهراً وما تبعه من فرحة الناس بكسر إرادة الاحتلال ليعاود نصبها ويغلق ساحة باب العامود قبيل المغرب، لتبدأ بعدها جولةٌ أخرى من المواجهة لاستعادة الساحة..
باب العامود، السبت الساعة الحادية عشرة والنصف قبيل منتصف الليل، أرتال من الجنود الصهاينة يعودون مرهقين إلى عرباتهم في نهاية الليلة الخامسة من قمع التواجد المقدسيّ على درجات باب العامود بعدما نصب الاحتلال حواجز حديديّة حول ساحة باب العامود لمنع تواجد المقدسيّين المكثّف والنشِط في ليالي شهر رمضان. فجأةً، بدأت سيارات الإسعاف المتواجدة بالقرب من باب العامود تهرع مسرعةً من المكان، مع بدء توارد الأنباء عن شجارٍ عائليّ كبير في حي وادي الجوز وإصابات بالأسلحة الناريّة. وبعد منتصف الليل، تأكّد خبر مقتل الشابة مريم التكروري (21 عاماً) على إثر إصابتها برصاصةٍ وهي جالسة على شرفة منزلها.
كانت هذه الأخبار آخر ما ينقص المقدسيون بعد الحرب النفسيّة التي مارسها الاحتلال بسحب الحواجز الحديديّة ظهراً وما تبعه من فرحة الناس بكسر إرادة الاحتلال ليعاود نصبها وإغلاق ساحة باب العامود قبيل المغرب، لتبدأ بعدها جولةٌ أخرى من المواجهة لاستعادة الساحة، هذه المواجهة المستمرّة أثناء كتابة هذه السطور لليلة السادسة على التوالي. لم استطِع منع ذاتي من ربط الحدثين؛ الشجار العائليّ بالأسلحة الناريّة في وادي الجوز والمعركة على باب العامود؟
فمنذ سنوات، يشنّ الاحتلال بأذرعه الأخطبوطية حرباً شرسةً ضدّ النسيج الاجتماعيّ المقدسيّ وسيلةً لقمعه سياسياً، ويُخضع المقدسيّين لنظام مراقبة يوميّة حثيثة موظّفاً عناصره البشريّة وكاميراته الذكيّة التي تغطّي كلّ أحياء المدينة وتحصي على المقدسيين أنفاسهم. ترافق مع توغل هذه السياسات الاستعماريّة تزايدٌ مضطَرد في الآونة الأخيرة في حوادث استخدام الأسلحة النارية في الشجارات العائليّة في الأحياء المقدسيّة وجرائم “اضرب واهرب”. وهذه الظاهرة هي ظاهرة مستجدّة على المجتمع المقدسيّ ولا يُمكننا رؤية انتشارها وتسارع وتيرتها إلا بكونها جزءاً من الحرب الشرسة التي يشنّها الاحتلال على المجتمع المقدسيّ؛ فأجهزة الاحتلال الأمنيّة التي ترصد كلّ كبيرةٍ وصغيرةٍ تغضّ بصرها عن تكاثر السلاح في الشارع المقدسيّ، إن لم نقُل تُسهّل ضخّه وتتستّر عليه.
وبهذا، يمكننا القول إنّ سياسة قمع المجتمع المقدسيّ عنوانها اليوم استنساخ تجربة تعزيز الاقتتال المجتمعيّ بين الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة عام 1948. هذه هي الحقيقة/النتيجة التي لا يمكن لأيّ مراقبٍ موضوعيّ إلا أن يصل إليها. وقد انتصبت أمام أعيننا حقيقة سياسة الاحتلال في القدس، يبقى السؤال: ما العمل ؟
سبق للحراك الشبابيّ الفحماويّ ضدّ جرائم الاقتتال المجتمعيّ أن قدّم لنا الإجابة على هذا السؤال، مكثّفةً بمقولة “الشرطة أصل الورطة”. وبالطبع، فإنّ الحالة الاستعماريّة في القدس أشدّ وضوحاً ولا ينطبق عليها كل الحيثيّات والتعقيدات التي تحكم الحالة السياسيّة في الداخل المحتلّ، ولكن مع هذا يبقى للإجابة الفحماويّة راهنيّتها في السياق المقدسيّ. ففي ظل غياب قيادة وطنيّة حقيقيّة ذات امتدادٍ ميدانيّ، وفي ظل إلهائنا بمهزلة وصراعات انتخابات الحكم الذاتي؛ هذه الانتخابات التي زادت من حدّة التوتر والفرقة المجتمعيّة وطغت قضيتها على كلّ القضايا، يبقى الحراك الشبابيّ المقدسيّ كقوّة جماهيريّة سياسيّة وحيدة يمكننا التعويل عليها للحفاظ على النسيج المجتمعيّ المقدسيّ من خلال إدامة الاشتباك مع المحتلّ وساحته هذه الأيام باب العامود. هذا هو الحلّ وهذه هي الإجابة وهذا هو التحدّي.
اقرأ أيضاً على باب الواد:
الإرادة سلاحاً (1): الدخول من باب حُطة مرتين
القدس: منظومة الرقابة ونقاطها الميّتة