إنّ القيمة التي يشعر بها المقدسيون بتحرير مدينتهم، هو كابوس هذه السلطة الاستعمارية التي تحاول بكلّ استطاعتها فتك هذه القيمة بمزيدٍ من الأفكار لاجتثاث مقاومة الناس وثقافتهم وحلمهم بالتحرّر والتحرير. ليصدّوا بصمودهم كابوس التوغّل الصهيوني هذا على المدينة.
مقدمة
إن الدراية الاجتماعية كفيلةٌ لنجاة الإنسان المُستعمَر من براثن مخطّطات الاستعمار لكيّ وعيه وتشويه هويته، ووعيه الجمعيّ هو ما يمكّنه من معرفة ما يتمّ تخطيطه لمجتمعه في الخفاء، حيث يحاول الاحتلال السيطرة على البلدة القديمة بالقدس بكلّ الطرق المُمكنة بشكلٍ مُمنهجٍ ومدروس؛ تارةً بالاستيلاء على البيوت والتوسُّع التدريجي، وأخرى بإمساك الوجه الثقافي للمدينة، كما حاول أن يفعل في باب العامود.
*****
صراع الهويات … “زووم آوت” إلى باب العامود
يتعرّض الشعب الواقع تحت الاحتلال إلى صراعٍ ثقافيٍ هويّاتيٍّ مستمرٍّ مع المستعمِر، يحاول فيه الأخير فرض هيمنة هويته الاستعمارية على الناس والأرض، تبدأ عملية الاستعمار هذه بالسيطرة على الأرض، ثم تتفشّى بشكلٍ مُمَنهجٍ في الجوانب الثقافية للمستعمَر.
وفي هذا السياق، وفي القدس تحديداً، حاول الاحتلال السيطرة على المسجد الأقصى باعتباره مكاناً دينيّاً حيويّاً ثقافيّاً، يجمع الناس ويُبقي على الثقافة الإسلامية والعربية للمدينة. حيث بدأ بإغلاق أبوابه، ثمّ حاول إغلاق باب الأسباط، فكانت الهبّة التي منعت مخطّطاته من أن تُنفّذ. ثمّ حاول الانتقال بعدسة سيطرته (زووم آوت) إلى باب العامود، الباب الذي يُعَدّ مكاناً حيوياً لتجمُّع الناس، ووجهاً ثقافياً للمدينة، محاولةً للولوج إلى ثقافة المدينة وتغيير وجهها. ما تواجهه القدس اليوم لا يقلّ خطراً أبداً عمّا واجهته في السنوات السابقة، ولا يقلّ خطراً عمّا واجهه المقدسيون في هبّة باب الأسباط، فباب العامود بابٌ من أبواب القدس المؤدّية إلى البلدة القديمة وإلى أبواب المسجد الأقصى الأخرى.
وحسب تقديره، يحاول الاحتلال الوصول إلى القدس من باب العامود، بجعل مدينة القدس مدينةً ثنائية القومية، ولكن بجعل هويّته الاستعمارية مُهيمِنةً على الهوية العربية، التي يريد جعلها أقليّةً عِرقيةً، ولكنّ الوجه العربي في باب العامود الذي يبدو واضحاً، ليس كما يودّ له الاحتلال أن يكون ويقف عائقاً في وجه مخطّطاته.
الوضع الاقتصادي
يستعين الاستعمار بالوضع الاقتصادي للناس للسيطرة على تمرّدهم ومقاومتهم وتدجينهم، يُعاني المقدسيّ اليوم من أوضاعٍ حياتيّةٍ صعبة، وخصوصاً بعد فترة حجر “كورونا” التي زادت من تدنّي الحالة الاقتصادية للناس، وانتظار رمضان كموسمٍ حيويٍّ يأتي فيه الناس من كافّة مناطق فلسطين فينعش الوضع الاقتصادي للمدينة. وبهذا، اعتبر بعض التجار وساكنو البلدة القديمة أنّ ما يحدث في القدس اليوم يزيد من سوء الوضع الاقتصادي سوءاً، ويضيّق على الناس تجارتهم، ويمنع تدفّق الزوار على البلدة القديمة.
غاب عن أذهانهم أنّ السيطرة على باب العامود ومنع الناس من التواجد فيه، هو تماماً ما سيعمل على تضييق الشريان الحيوي للبلدة القديمة، وهو في الحقيقة ما سيُضعِف الوضع التجاري والاقتصادي للبلدة. ففي الطريق للسيطرة على باب العامود، طريقٌ إلى السيطرة على البلدة القديمة والقدس عموماً. ولم يدركوا أنّ مواجهات باب العامود والتصدّي لهذه المخطّطات ما هي إلا دفاعٌ عن مصالحهم التجاريّة والاقتصاديّة؛ إذ تمنع مزيداً من التوغّل الصهيوني والسيطرة الاستعماريّة على المكان مستقبلاً.
يقول علي شريعتي أنّ الاستحمار هو أن نتوقّف عن التفكير بشكلٍ جمعيٍّ كـ (نحن)، في ظلّ استعمارٍ يستهدف المجتمع بأكمله أفراداً وجماعات. هو أن نتوقّف عن التفكير في مصير المجتمع ومشاكله واحتياجاته، بل إنّه التفكير بالمصلحة والخلاص الفرديّ الآنيّ، دون الانتباه إلى كلّ ما يشكّل خطراً حقيقياً جمعيّاً يهدّد المصلحة الفردية والجمعيّة للناس، ولو على المدى البعيد.
العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر
في ظلّ هذا الصراع الثقافي والاقتصادي والسياسي، تبرز علاقةٌ أكثر فتكاً، وهي طبيعة العلاقة بين المُستعمِر والمستعمَر. وهنا، فإنّ مواجهات باب العامود اليوم تعيد شكل العلاقة مع الاحتلال، لتتوقف عن كونها بلديةً تعلّق زينة رمضان، وشرطيّاً خبيثاً يصرخ في المايكروفونات: “رمضان إلكم مش إلنا، تعملوش مشاكل”. مواجهات باب العامود تُعيد ما يتمّ ردمه تحت السطح.
ومن الملاحَظ أنّ المواجهات تعيد إلى عموم الشباب المتواجد الإحساس بثقافته وهويّته التي أحسّ بالاغتراب عنها، فيشعر الجميع أنه مسؤولٌ عن حماية الجميع المتواجدين بالمكان، ويتكاثف شعور الانتماء إلى الجماعة، بعوامل التعاضد والتكاتف، التي تضمن استمراريّة المواجهة مع الاحتلال.
يقول “ألبير كامو” في الإنسان المتمرّد: “أن الشعور يُولّد مع التمرد”، الشعور هو الإحساس بـ (كل شيءٍ) وبـ (لا شيءٍ)؛ فالمتمرّد حسب “كامو” هو شخصٌ يريد كلّ شيءٍ، يريد التوحّد مع كلّ الخير الذي يشعر به فجأةً خلال تمرّده على الظلم، وأن يحيا ويعترف بشخصه، فهو يريد أن يكون كلّ ذلك، وإن لم يكُن، فلا ضير في التضحية بكلّ شيءٍ، فهو في النهاية يرضى بالسقوط الأخير (أيّ الموت) إنْ كان لا بدّ من حرمانه حريته. وموته هنا تضحيةٌ في سبيل القيمة، القيمة التي يشعر أنّها تتجاوزه كفردٍ، وتتجاوزها لتصبح قيمةً مشتركةً بينه وبين الناس جميعاً، وهذا تماماً ما أفرزته هبّة باب العامود من شعورٍ للمتواجدين في المكان.
إنّ القيمة التي يشعر بها المقدسيون بتحرير مدينتهم، هو كابوس هذه السلطة الاستعمارية التي تحاول بكلّ استطاعتها فتك هذه القيمة بمزيدٍ من الأفكار لاجتثاث مقاومة الناس وثقافتهم وحلمهم بالتحرّر والتحرير. ليصدّوا بصمودهم كابوس التوغّل الصهيوني هذا على المدينة.
في مواجهة آلة القمع الصهيونية
تزيّنت شوارع القدس بأضواء قنابل الصوت التي بدت حقيقيةً وقريبةً أكثر من حبال الزينة التي علّقتها بلدية الاحتلال مع حلول رمضان. على طول الشوارع، كانت القدس تحكي حكايتها وحكاية أبنائها. اندفع الشباب لرسم المشهد السياسيّ والاجتماعيّ لمدينتهم في مواجهة ما يُحاول الاحتلال فرضه ورسمه.
في مواجهة آلة القمع، يتمرّس الشباب بابتكار أساليب مواجهتها، مرّةً بالسخرية من الجنود، وأخرى بالكرّ والفرّ، وتارةً بالاحتماء في مواجهة الخيالة، وقنابل الصوت، وسيارة المياه العادمة المعدّلة كيميائياً “الخرارة”.
* السخرية كفعلٍ مقاوم
بدت السخرية طاغيةً على المشهد، كطريقةٍ لمجابهة هذه القوة والهيمنة العسكريّة الصهيونيّة، التي يلاعبها الشبّان لتبدو أصغر من ذبابة، لتصير السخرية فعلاً مقاوماً ومتمرّداً.
لعلّ أبرز ذلك ما أطلقه الناس حول رائحة المياه العادمة واعتبارها صفة لاصقةً بالشرطة ومُنبعثةً عنهم، فيسخر أحد الشبّان بقوله: “بتخلصش ريحتهم هدول؟”، ويضيف آخر: “يا زلمة حاسس حالي بالحمام!”. في هذه الأجواء يتبدّل الانزعاج من تأثير الرائحة النتنة إلى أجواء ضحكٍ بين الشباب، لتفقد هذه الرائحة وسيلتها الرادعة.
كما طالت السخرية كلام أفراد الشرطة وحركاتهم، لتستفزّ ذاك الشرطي وتُفقِده ثقته بنفسه في مواجهتهم، ليبدو أكثر غباءً وأقلّ إثارةً للخوف والرهبة بزيّه العسكري ذاك وسلاحه. وفي موقفٍ آخر يسخر شابٌّ من قدرة قنابل الصوت على تخويف الناس وإصابتهم بالذعر، فيقول: “قنابلكم مبرّدة”؛ أيّ قنابلكم قديمة فقدت قدرتها على التفجّر، أو أنّها غير قادرةٍ على ردعنا و تخويفنا!
هكذا يردّ المقدسيّ على سياسات الاحتلال، بمقاومته النفسيّة تلك وخلقه لهذا الجوّ الساخر الذي يفقد الاحتلال وأدواته قدرتهم على تخويف الشباب وتفريقهم.
* العنف اللفظي المقاوم
قد تكون الكلمات البذيئة سيئة السمعة، لكنها في واقعٍ أكثر بذاءةً تصبح الأقدر على التعبير عنه، وربّما الأقدر على التنفيس عن غضب الناس في مواجهة الألم والضغط النفسي، تماماً حين يرتطم إصبع رجلك في حافّة الطاولة، فقد يستطيع الكلام البذيء أن يخفّف ألمك في تلك اللحظة.
وهكذا، وأثناء وقوفك بين جموع الشباب المُتظاهِر، تستطيع أن تسمع كلّ أنواع الكلام البذيء الذي يُمكن أن يُقال في مشهدٍ كهذا، لكنّه مُوجّهٌ إلى شرطة الاحتلال والمستوطنين، فلا يعود الأمر مُستَهجناً أو غير مُهذّب. ليصير الكلام البذيء عنفاً لفظيّاً ثوريّاً في مواجهة الهيمنة الاستعماريّة.
وهكذا يستمرّ المجتمع وشبابه باختراع وسائله النفسية التي تكفل لهم استمرار مقاومتهم وجَلَدهم، في تلك اللحظات التي تمنحهم قدرةً على منع استدخال الهزيمة واليأس إلى نفوسهم، ليختلف تقديرهم ونظرتهم لذاتهم ومجتمعهم وواقعهم.
اوعوا النسوان… الحماية عائق
من أكثر المشاهد حضوراً في المواجهات، كانت محاولة الشباب توفير الحماية للفتيات المتواجدات في المكان. فكلّما رأوا مجموعة نساءٍ وفتيات، انشغلوا بحمايتهنّ، وأحياناً لومهنّ على التواجد في المكان، وحثّهنّ على المغادرة. وفي موقفٍ حاولت فيه مجموعةٌ من الفتيات الاحتماء بمنطقةٍ آمنةٍ من قنابل الصوت، وفي اشتداد الموقف لجأت مجموعةٌ من الشباب إلى هذه المنطقة للاحتماء من قنابل الصوت والرصاص المطاط، لكنّ جموع الرجال والناس منعتهم بحجّة حماية الفتيات كي لا يتمّ ضرب المكان، وبالتالي تتعرّض الفتيات للأذى.
في هذا الموقف نرى عفوية المجتمع في حماية إناثه انطلاقاً ممّا قد يعتبرونه شهامةً، لكنّ أيّاً منهم لم ينتبه أنه بذلك يحوّل الإناث إلى مجرّد عائقٍ أمام الشباب، ويجعل الأمر أكثر صعوبةً عليهم، وعلى الفتيات اللواتي يشعرن أنّهن غير قادراتٍ على المشاركة، كي لا يشكّلن عبئاً عليهم!
فقد كان من الممكن أن يكون الأمر مختلفاً تماماً، لو أنّ ثمّة تعاونٍ ما حصل بينهم، لو اقتنع هؤلاء الشباب بقدرة الفتيات على الدفاع عن أنفسهنّ ولربما أحياناً توفير الحماية للشباب أيضاً، لربّما كان يجب على الشباب أن يعودوا خطواتٍ إلى الوراء قليلاً بجانب الفتيات لكي يشكّلوا دروع حمايةٍ لبعضهم البعض ويكونوا على خطّ دفاعٍ واحد، حينها ستتعلّم الفتيات الدفاع عن نفسها وستتعلم المشاركة الفاعلة، وتتوقف عن كونها عبئاً.
وفي هذا السياق، نسترجع بعضاً من تجربة النساء في الانتفاضة الأولى التي لم تشكّل فيه المرأة عائقاً يستدعي الحماية، على العكس كانت تشارك بأدوارٍ أساسيةٍ هامّة، منها المشاركة في المواجهات ورمي الحجارة، وفي قدرتها على حماية الشبّان وتخليصهم من أيدي الجنود، قصصٌ تُروى إلى اليوم؛ حيث تصدّت كثيرٌ من النساء أيام الانتفاضة لجنود الاحتلال أثناء إمساكهم بالشباب تمهيداً لاعتقالهم، وتدّعي أنّ هذا الشاب هو ابنها -والذي لم يكُن ابنها غالباً- فتحاول تخليصه منهم حتى ينتهي الأمر إلى سحبه من أيدي الجنود عُنوةً.
كما لم تغِب الفتاة الفلسطينية عن خطّ المواجهة مع الاحتلال آنذاك، بل كانت تظهر في مقدّمته في كثيرٍ من الأحيان، وشاركت في الاعتصامات والتظاهرات واصطدمت -ولا زالت- مع قوّات الاحتلال، حتى قد وصلت حملة الاعتقالات حينها إلى 3000 أسيرةٍ فلسطينيةٍ. فضلاً عن العديد من الأسماء التي لمعت في فترة الانتفاضة الثانية من نساءٍ شاركْنَ في عمليات التفجير، منهم وفاء ادريس وآيات الأخرس وريم رياشي، وغيرهنّ.
أبعد من أن تكون معركة أدراجٍ وحسب
بالعودة إلى “ألبير كامو” والإنسان المتمرّد، يقول إنّ المتمرّد قبل لحظة تمرّده يكون قد تحمّل كل ما سبق له من التعسفات السابقة لحركة تمرّده هذه، وأنّه كان يلوذ بالصبر، كما أنّه كان مشغولاً بمصلحته و”راحته” دون وعيٍ حقيقيّ بحقوقه وماهيّتها، والتي تحتاج منه العناء لتحصيلها. ومع نفاذ صبره وبدء رفضه لهذا التعسّف، فإنّه يرفض الأمر الصادر عن قاهره وفي الوقت نفسه يرفض حالة العبودية برمّتها، فحركة التمرّد تسير به إلى أبعد ممّا كان عليه، ويصير متوحّداً في هذه المقاومة ومختصراً فيها.
وهكذا كانت معركة درجات باب العامود، التي لم تكُن ثورةً على السواتر الحديديّة بعينها ولا حُبّاَ خالصاً لحجر درجات باب العامود ذاتها وحسب، كما قال أحد الحاضرين: “بدون درجات باب العامود رمضان مش حلو”. على أهمّية هذه المشاعر، ولكنّه نفاذ صبرٍ من سياسات الاحتلال، وتأكيداً على تماهي الشباب المقدسيّ مع المقاومة وتوحّده فيها، وإحساسه بالقيمة الجمعيّة التي يتشاركها مع كلّ المقدسيين خاصّةً ومع الفلسطينيين والعرب عامّةً.
إنّها حالةٌ لرفض الاستعمار والاضطهاد والتهويد، ومحاولةٌ للسيطرة على المصير والتمرّد على القهر، لذا نرى تآزر مدنٍ فلسطينيةٍ وعربيةٍ أخرى مع معركة أدراج باب العامود، تتشارك الهمّ ذاته، والقيمة ذاتها، فهو توحُّدٌ ذاتيٌّ وتحزّبٌ مع القيمة والمصائر، وظهورٌ لوعيٍ جمعيٍّ بحقيقة ما يخيطه الاحتلال للمدينة وللهوية وللناس.
أزيلت السواتر الحديدية بعدما أدرك الاحتلال أنه دخل معركةً خاسِرةً؛ فلباب العامود أهمّيته ووزنه الذي اكتسبه على طول عمره فضلاً عن السنوات الأخيرة، والذي أراد الاحتلال السيطرة عليه ونزعه من أيدي المقدسيين، ولكن تبقى أمنيات المستعمِر في قضائه على أيّة محاولةٍ للتمرُّد والمقاومة، رماداً يتبدّد مع كلّ حراكٍ يُقدّم للناس وعياً مُضادّاً لما يريد الاستعمار بثّه في رؤوس الناس ونفوسهم.